لا بد في البداية من التذكير بأن ما قالته وسائل الاعلام الرسمية وما صرّح به عبد العزيز الرباح، وزير التجهيز والنقل، بهذا الصدد لن يعفي الحكومة الحالية وكل الحكومات السابقة من مسؤولية ما يقع في طرقاتنا من حرب لا تقل خطورة عن تلك التي تدور رحاها في بعض المناطق المتوترة في مختلف انحاء المعمور.
إن القول بأن تهوّر السائقين والسرعة التي يسوقون بها "سفنهم الحربية" وتدهور الحالة الميكانيكية لهذه المعدّات، ليس إلا الوجه المكشوف من القضية، التي يحاول المسؤولون تغطية الوجه الآخر من العملة بمساحيق كثيفة من الماكياج والكذب الذي قد يكون سهل الاكتشاف حتى من طرف أطفال صغار فما بالك بأولئك الذين خبّروا الحياة وتلابيبها المتشعّبة..
مناسبة استعمال مقولة "عفا الله عما سلف" والتي اعتبرها رئيس الحكومة، عبد الاله بنكيران، عصب فلسفته وطريقته الخاصة لمحاربة الفساد، أثناء حواره مع إحدى القنوات الخليجية، قلت أن مناسبة استحضار هذا القول هو أن حالة طرقنا وتردّي الخدمات والتجهيزات في مجال النقل، بالإضافة إلى في الكرم الحاتمي في منح "أكريمات النقل" و التساهل مع مسؤولي النقل عن طريق غياب أو ترهّل المراقبة على الطرقات، والسماح بتجاوز العدد القانوني للركّاب بالنسبة للحافلات ومختلف وسائل النقل العمومي وكذا"الطوناج" بالنسبة للشاحنات.. وانتشار الرشوة على الطرقات، فضلا عن الحالة المزرية لطرقاتنا.. كل هذا لا يمكن ان تنطبق عليه تلك الفلسفة لأن ذلك سيجعل المجرمين الذين يتسببون في قتل الارواح البريئة في مأمن من المحاسبة والعقاب..
إن فاجعة "تيزي ن تيشكا"، التي ذهبت بأرواح 42 مواطنا بالإضافة إلى 24 جريحا أصيبوا بإصابات خطيرة، قلت إن هذه الفجيعة تسائلنا كمواطنين وتسائل الحكومة وكل المسؤولين عن الوضع الكارثي لطرقنا، والذي وصلت إليه البلاد بعد أكثر من نصف قرن على جلاء الاستعمار الفرنسي والاسباني عن المغرب.
كان الاستعمار ينشئ المشاريع والتجهيزات بالمغرب وعينه لا تفارق لحظة المغادرة والإجلاء، لأنه كان يعلم أنّ ساعة الرحيل آتية يوما لا محالة ولا ريب فيه، عندما سيطالب السكان الاصليون باستقلالهم، ولذلك كان يضع مخططات لمشاريعه حتى لا يتجاوز معدّل حياتها(la moyenne de la durée de vie des projets) نصف قرن او ما ينيف عنه، لكي لا يتكبدّ مصاريف إضافية، هو في حاجة إليها في فرنسا.. ونحن نلاحظ أن الاستعمار ترك بعد خروجه طرقات مهترئة وتجهيزات لا تصلح لبناء اقتصاد وطني وتحقيق تنمية فعلية إذ ان تلك التجهيزات كان الغرض منها هو استنزاف خيرات المغرب من معادن ومحاصيل زراعية وثروات بحرية .. لم تصمد كثيرا بعد السنوات الاولى للاستقلال.
إلا أن عقلية المسؤولين الذين "توارثوا" مغرب الاستقلال، وتحكموا في دواليب "مغربنا وطننا روحي فداه.."، كانت تفكر بنفس المنطق الذي ألهم المستعمرين أثناء بناء الطرقات وإنشاء التجهيزات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية..إلخ. إذ أنهم حافظوا على الموروث الاستعماري في هذا الميدان بالرغم من انه استنفذ دوره ومهامه وأصبح مترهّلا ..أنظروا طرقات فرنسا وقناطرها وبناياتها التي اصبحت وضعيتها في حالة يرثى لها.. ومع ذلك أصرّت كل الحكومات وكل المسؤولين السابقين على المحافظة عليها لكي لا يتسببوا في إفقار "ميزانية الدولة" والجماعات الترابية بمختلف انواعها، والتي كانت تجد منافذ سهلة إلى جيوبهم وأرصدة ذويهم..
عندما يقررون إنشاء مشروع ما، وخاصة في مغربنا العميق، فإنهم يفكرون على المدى القصير او المتوسط على أكبر تقدير، وذلك لكي تبقى بعض الدريْهمات من الميزانية لينعموا بها ويقتسموها فيما بينهم، وذلك عملا بالمقولة الشهيرة و"من بعدي الطُّوفان".. بعدها يأتي المجلس المنتخب الجديد أو الحكومة الجديدة فتقوم بنفس الشئ بترقيع ما افسده الدهر أوخلق مشاريع أخرى لن تصمد أكثر من مدّة عُمر الحكومة او المجلس البلدي او القروي.. ويتم اقتسام الغنيمة مجددا وهكذا دواليك.. حتى اصبحنا نبيت على فواجع لكي لا نستفيق إلا على وقع أخرى أكثر دموية من الاولى، وهو ما وقع صباح أمس "بتيزي نتيشكا" وهو المرشّح للوقوع كل لحظة وحين على طول طرقاتنا، وخاصة تلك التي تقع في "المغرب غير النافع"، بتعريف ليوطي، والذي لا يزال يتعامل معه مسؤولونا بمنطق "خزّان السواعد" و"البنّائين" وحطب نار "الطاشرونات" وموردا للثروات المعدنية التي لا يستفيد منها أبناء المنطقة في شيء، ويمكن في هذا الصدد الرجوع إلى الاحتقان الاجتماعي الذي تعرفه منطقة إميضر، منذ أكثر من عقد من الزمن، غير بعبد عن "تيزي ن تيشكا" التي وقعت فيها كارثة أمس الثلاثاء..
لا أحد يمكنه أن يفهم حجم معاناة أبناء هذه المناطق، وبالاخصّ أبناء الجنوب الشرقي للبلاد، إلا من عايشهم أو كان منهم واكتوى بجحيم طرقات "تزي نتلغمت" و"تيزي نتيشكا" وتيزي نحجيرت" و"تيزي نتلّيشت" و"تيزي نتاست" وهلمّ "تيزيات"(من تيزي أي الممر بين الجبلين).. ويكفي القيام بزيارة لمحطّات الحافلات بجلّ المناطق المغربية وخاصة محطة القامرة بالرباط واولاد زيان بالبيضاء.. لمعرفة حجم المشاكل التي تعترض هؤلاء أثناء المناسبات وخاصة في عيد الاضحى الذي لا يمكن لأي أحد من أبناء الجنوب الشرقي ان يحتفل به بعيدا عن أهله وذويه، وهو ما يستغله ذوو النفوس الدنيئة والسماسرة للزيادة في معاناتهم والإجهاز على ميزانيتهم المتواضعة التي افنوا سنة كاملة للمّها وتناولوا أكلة "البيض او مّاطيشا" و"مّاطيشا والبيض" من أجل اقتصاد بعض الدراهم لسدّ حاجيات جيوش الاخوة ومختلف "عربات القطار المجرورة" التي تنتظرهم في "البليدة" او "تامازيرت"، لأن كل مواطن من أبناء المغرب العميق وخاصّة من "يسّر الله عليه" و"دبّر على خديمة" في المغرب النافع، يعتبر قاطرة يجرّ وراءه قافلة من الافواه إلى أجل غير مسمى..
زورونا في المغرب العميق لمعرفة حقيقة ما يجري ويدور في أحسن بلد في العالم وفي بقعة من بقع "le Maroc que j'aime"..