لا تدري لماذا لم تغير ذلك الهاتف البشع، هاتف كحبة فلفل. حينما اشتريته قلت: لأشتر لي هاتفا لا يكلفني كثيرا، ولا أحزن عليه إذا باغته عطب ما، أو سطا عليه لص حاذق يستغل انكماش انتباهي في لحظة انبهار أو غفوة. هو هاتف بميزة غير مشرفة. كنت تستمع لدزينة جمل اقناعية من أبيك، كي تمنحه ميزة مقبول مرغما، وإن كان لا يمتلك أدنى شروط الإغراء: هاتف بدون ألوان، وباختيارات تقليدية، اختفى منها البلوتوث، الفيديو، وأشياء أخرى تخطر الآن على بالكم ، إلا إذا كنتم تمتلكون هاتفا قميئا كهاتفي. لا شيء فيه مغر البتة، اللهم إذا استثنينا ثمنه الهزيل، وتلك العروض التي تصلك من أناس طيبين، هم في الغالب فاعلو خير. يعلنون بشكل أنيق، وبكثير من التهذيب -حتى أنك تحس اجتهادهم في إخفاء لهاثهم- أن رقمك الهاتفي قد اختير ضمن قائمة أرقام أخرى كمشاريع رابحين لسيارات فارهة. تبتسم بخبث وتهمس: «معاي أنا؟!» أحيانا تتخيل تلك السيارات كسلاحف مخفية الرأس، تقف في منتصف الطريق، أو أرانب جبانة لا تجرؤ على مغادرة جحورها حينما تسقط تلك الأمطار السادية. لكنك لم تكن تجب في كل مرة- فأنت على كل حال قناص غير بارع (لماذا لا تقول فاشل؟) للعروض الباذخة -كنت تتوصل فيها بتلك الرسائل القصيرة الشبيهة بمستملحات يرددها على مسامعك أشخاص ثقلاء يستميتون في تقمص روح كوميديين مقتدرين، فلا ينالون ولو انفراجة فم منك،رغم أن استماتتهم تصبح طويلة الأمد، ومثار شفقة واستغراب مقيتين. قلت لكم: لم أصب في كل مرة كنت أتوصل بتلك الرسائل القصيرة المغرضة، بأية ذبحة قلبية، أوبجلطة دماغية. فأنا لازلت أمتلك هاتفي الرمادي، الذي يطل دائما من نافذته ذلك الوطواط البليد، الدائم التحليق ليلا ونهارا، وأجلس في مقهاي المفضل قبالة ساحة «أنوال». لكنني صرت أكثر غلضة وأقل تهذيبا من ذي قبل، إذ سرعان ما أغتال تلك الرغبة الملحة كرغبات الأطفال، فلا أرد على الأناس الطيبين الذين بعثوا بتلك الرسائل، بل أسارع إلى التخلص منها، ضاغطا بنرفزة، وبكثير من الضيق، على زر المحو دون أن ينتابني أي ندم، أو تأنيب ضمير،فحينما يسألني هاتفي سؤاله الموغل في اللطف: «هل تريدون فعلا بعث الرسالة 30 إلى سلة المهملات؟» أجيبه في حنق: «نعم» فتذهب الرسالة إلى الجحيم. فكرت ألف مرة، وربما أكثر، وربما أقل، في أن أتخلص من هاتفي الشبيه بحبة فلفل، لكنني كنت أعود إلى رشدي ولا أفعل ذلك. كل ماقمت به إلى حد الآن هو التفكير بجبن في هواتف أقل سمكا، وأكثر متاعا، تظل تحدق بي، وأنا أحدق بها، دون أن يرف لي جفن، وهي متمسكة في إصرار ساد بتلك اللوحات الاشهارية التي أصبحت تحاصر رؤيتي أينما حللت وارتحلت. أعود وأقول بعد كل هذا الذي حكيته، أنني رغم كل شيء، لا أكن أية ضغينة حقيقية لهاتفي النقال الذي يجعلني أصم آذاني عن نداءاته، وأنا أجلس بمقهاي المفضل قبالة ساحة أنوال.