إلى أي أحد تنعكس الغربة في كتابات المغاربة المقيمين بالخارج، وهل الاغتراب معناه الانسلاخ الكلي عن كل ما يمت بصلة إلى بلد الأصل؟ - لكل كاتب ظروفه الخاصة التي حذت به إلى الهجرة خارج الوطن، وإذا كان القاسم المشترك هو البحث عن مصدر قار للعيش، يحفظ كرامة الإنسان، أو كما يقال: «اللهم قبر مجلي ولا شكارة خاوية»؛ فإنه لا بد أن تكون هناك أسباب أخرى، تستدعي التضحية من أجلها، وليس غريبا تبعا لذلك أن العديد ممن تناولنا معهم سؤال الغربة والكتابة، لم يبدوا أي إحساس بالتضايق من العيش خارج الوطن،مما يعني أن هناك ما يغريهم بالبقاء في المهجر والاندماج في حياته اليومية القاسية. هناك من يحتمي بالكتابة والإبداع، ضد كل أشكال القسوة التي يمكن أن تفرضها الغربة. وهناك من اعتبر هذه الغربة كالولادة تماما، تبدأ بصرخة وتنتهي بتعايش، إلى غير ذلك من الانطباعات التي تعكسها هذه الشهادات حول الكتابة والغربة، التي خص بها منبرنا الإعلامي بيان اليوم، ثلة من المبدعين المغاربة. *** لا أحبّ كثيرا لفظة الغربة. يبدو الغريب معها شخصا جديرا بالشفقة. وأداري ضحكتي كلما سألني أحدٌ عن حالي مع الغربة مستحضراً غربة طرفة وسط قبيلته وعزلته في حيّه حين أنشد «إلى أن تَحامَتني العشيرة كلها/ وأُفرِدتُ إفراد البعير المعبّد». كما أنّي لستُ مولعا بمصطلح الاغتراب. فالاغتراب حالة يمكن للمرء أن يعيشها دون أن يبرح وطنه. الوطن المُبرِّح يمكن أن تعيش فيه اغترابا مضاعفا. كالوطن المفلس تماماً. ألم يقل الإمام علي: «الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن». أما الاغتراب، الذي يجعل حامل صفته لدى البعض شخصا جديرا بالتعاطف، فقد حرّض عليه الأقدمون ونصّبوه صنواً للتجدّد ورديفاً له كما عند الإمام الشافعي: «ما في المقام لذي عقلٍ وذي أدبِ/ من راحةٍ فدع الأوطان واغتربِ/ سافر تجد عوضا عمّن تفارقه/ وانصب فإن لذيذ العيش في النّصَبِ»، أو كما جاء على لسان الشاعر العربي: «وطول مقام المرء في الحيّ مُخلقٌ/ لديباجتيه، فاغترب تتجدّد». أومن حقاً بحكاية التجدّد هذه. والفترة الوحيدة التي شعرت فيها بما يشبه الغربة كانت خلال سفري الأول سنة 1996. وأنا في الباخرة، صرّفت مئة فرنك فرنسي مقابل حفنة من البسيطات الإسبانية. حينما وصلنا إلى الخزيرات، تحلّق حولنا حمّالون أنيقون. كانوا يجرّون عربات صغيرة تتربّص بحقائبنا المثقلة. أشرت إلى إسباني شاب ليتكفل بأمر حمولتي. كان وسيما مثل أبطال السينما. وكنت فخورا وأنا أتبعه كسيّد حديث العهد بالسيادة. حينما أوصلني إلى الحافلة بادرني بقشتالية لم أفهمها.. لكنني خمّنت قصده من السياق. السياق الواضح أصلا.. فتحت كفي وتركته يأخذ ما ادّعى أنه مقابل الخدمة. كنت أردد مع المتنبي: «ولكن الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان». كدت أسرح مع حكاية «غربة اللسان» هذه لولا أن جرفني سيل المهاجرين الذين لفظتهم الباخرة. كان رفاق الرحلة يتدافعون نحو الحافلة بعزم الفاتحين. أهملتُ المتنبي سريعا وتدافعت مع الخلائق. بعد ساعات من السفر، دخلنا إلى فرنسا. هناك على الأقل لم أعد غريباً. أقصد لم أعد غريب اللسان تماماً! لكن هذا لا يعني أن لا تأثير لعامل البعد الجغرافي على الكتابة. لا أجزم بذلك، فالمسافة مع الوطن الأصلي تجعل رؤيتك له أصفى من عين الديك. كما أن نظرتك النظيفة لعالم جديد تغري بالقبض على التفاصيل والإمساك بها لحظة الكتابة. فلكل داخل دهشة، والكتابة ممارسة للدهشة ورغبة في الإدهاش. رغم أنني لم أجد قطّ ميلا للكتابة تحت تأثير الدهشة الأولى. كنت أخشى أن أتحوّل إلى ما يشبه أحمد فارس الشدياق معاصر. كما أن الاغتراب كحالة يعيشها الفرد بعيدا عن وطنه الأم، قد يمارس سطوته على الكاتب كما أنه قد يضفي جماليات على الكتابة يصعب إنكارها. جماليات قد يعيشها المواطن في بلده أيضا، إذا ما اعتبرنا أن الكتابة هي قبض على لحظة الاغتراب واللاتوافق مع المحيط ومع الذات أحيانا.