(قراءة في النص) (2) إن لجنس المسرح خصوصيات تتجلى في ملمحين أساسيين: الملمح الأول: إشكالية "النص والعرض". وقد استوفت هذه الإشكالية - في نظري - ما يكفي من المقاربات النقدية، لا يسع المقام الخوض في المزيد من تفريعاتها، إلا ما تستلزمه عتبات هذه المداخلة. الملمح الثاني: تماهي الإبداع المسرحي نصا وعرضا مع "المعالجة الدرامية" للمتن، وللفرجة الركحية على السواء. ومن ثم فإن أي مدخل لقراءة نص مسرحي، لا يستحضر الخصوصية النوعية، لا يسعف بتاتا في التلقي المنشود الموشوم بالمتعة، وامتلاك القارئ للمتن عبر تفاعلية إعادة إنتاجه من جديد. والنص المسرحي الجيد مسرحيا هو ذاك المتوفر على الحبكة الدرامية، والتي تستند إلى مقومات أهمها الصراع، وتنامي الأحداث وتشابكها وتأزمها؛ هذا الصراع الذي تزيده احتداما مفارقة تلك الأحداث، ومفارقة المواقف أيضا، وفجائية مآل وحلول الأزمات. ومن أشهر المسرحيات الكلاسيكية لمسرح المفارقة: "لعبة الحب والمصادفة" ل "ماريفو"، والتي استوحيت منها عنوان هذه المداخلة (3). و من أمثلته الحديثة الناجحة: مسرح "عادل إمام"، إذ لو لم يستدع الموقف الحاجة إلى الكومبارس ليكون توا زعيم بلد، ولو لم يستدع الموقف الحاجة إلى الشغال ليصير في رمشة عين زوجا وصهرا داخل أسرة من علية القوم ومن سيدات وسادة المجتمع، في أعمال ك "الزعيم" و"الواد سيد الشغال"، لانهارت معمارية الدراماتورجيا في المسرحيتين انهيارا !
والمسرح عدو الرتابة والروتين والسكون ومصادفة المتلقي لتوقعاته... المسرح غليان وتأزم وحركة (4)... أستحضر هنا تجربة شخصية مع مسرحية "عروس أغمات" (5) حيث لم أجد مناصا من الإعداد الدرامي للنص الأصلي، بهدف الاشتغال عليه مع طلبة أحد أندية المسرح المدرسي، قصد العرض داخل إحدى المؤسسات التعليمية. فقد كان النص يفتقد مسرحيا الكثير مما ذكر سلفا، وإن وثق لحظة وازنة من التاريخ المغربي بحرفية المؤرخ المحنك. وقد نجد العكس تماما في نصوص مسرحية، أو من غير جنس المسرح، كنص "إكسير الحياة" (6) على سبيل المثال: فهو - وإن كان روائيا- إلا أنه ذو نفس مسرحي بامتياز، ولكأن القارئ للنص الورقي يتفرج على الأحداث وهي تلعب أمامه فوق خشبة مسرح !
وبالرجوع إلى النص المحتفى به، يمكن القول إنه متن يطفح بصخب المفارقات المولدة للصراع، أفضل "توابل" الصنعة الدرامية، مفارقات جاءت على شكل ثنائيات تتخذ من مفهوم "الجدلية الهيجيلية" مطية؛ وذاك محدد تنظيري وممارساتي يشكل عصب نسق "المسرح الثالث" الذي ينتمي إليه "الحسين الشعبي" نقدا وإبداعا وتنظيرا (7). كما أن هذه الجدلية في نص "الساروت"، تلتقي في أبعادها الإنتاجية مع الأجرأة التقنية لرواد ثالثيين آخرين مثل "عبد القادر اعبابو" دراماتورجيا في "إخراجه الجدلي"، و"سعد الله عبد المجيد" سينوغرافيا في "مسرحه الفقير". فمسرحية "الساروت" نص نشأ ويعيش في هذا المناخ الجدلي المتوتر، تتلاعب شخوصه الثنائية المفارقاتية من الاستهلال إلى النهاية المحتدمة الزاخرة باستفسارات الهوية. ولقد أصاب "عزيز الحاكم" في تقديمه للكتاب حين رصد مزية النص، فعثر عليها هو أيضا في سلسلة من المتقابلات: "إن مزية هذا النص، المكتوب بين الضوء والعتمة (وفق إشارات الكاتب) وبإيقاع حركي، أنه يشد القارئ منذ الوهلة الأولى ويزج به (تبعا لقابلية التماهي لديه) في أجواء تتداخل فيها القتامة والانفراج وتستأثر فيها مشاعر الانقباض والانبساط..." (8). ولقد أحصيت في نص "الساروت" عددا مهما من الثنائيات، أذكر منها: على مستوى الشخوص المركبة: الساروت (9) مواطنا بسيطا // الساروت ذكيا (واع وهو مخمور) الطبيب (10) // المحقق على مستوى الأدوار: الطبيب // المريض المحقق // المتهم على مستوى تبادل الأدوار: الطبيب محققا // الساروت مريضا المحقق طبيبا // الساروت متهما الطبيب محققا // الطبيب معتقلا أيضا على مستوى الفضاءات: المستشفى- المصحة // المخفر- السجن- المعتقل على مستوى الأحداث و المواقف: خروج الساروت من منزله // خطفه واعتقاله (11) الساروت محققا معه // الساروت متهما بالخطأ الساروت معتقلا ظلما // الساروت يرفض مقولة "الخطأ" الساروت يسمح له بمغادرة المعتقل // الساروت يرفض مغادرة المعتقل
إن مثل هذه النصوص ذات الخيوط المتشابكة في بناء المشاهد، والمصرة على اعتماد أبطال ذوي شخصيات وأدوار مركبة، تولد بالضرورة لدى المتلقي استفزازا تغريبيا وتبعيديا يجعل القارئ في عمق الإنتاج الثاني للنص، إنتاج ردود الأفعال، والتعقيبات والتعليقات، والتبني أو الانتقاد. ونصوص كتاب المسرح الثالث على العموم، كما الاحتفاليين، نصوص مقاومة معارضة مشاكسة، نصوص ذات رسالة مجتمعية، لكنها لا تخطب ود القراء إلا من خلال استفزازه عبر آليات الإبداع التفاعلي الجدلي، وليس عبر الفرجة وحدها، أو الفرجة لأجل الفرجة. وهنا تحتاج نصوص المسرح الثالث دوما لمخرجين قادرين على توليف المتون - الصاخبة الصارخة – بالجماليات الركحية التي تشد الأنظار والانتباه حتى تصير متابعة العرض متعة لا عناء. وإن من امتدادات نص "الساروت" ركحيا أنه يتيح للمخرج الحاذق ما لا نهاية له من التأويلات المرئية والسمعية والحركية للمتن، وهذا ما تفوق فيه مثلا "حسن لمراني العلوي"، حيث تجاوزت عملية الإخراج أقصى التفاعلية مع النص بإدراج شخصية فيزيقية ثالثة هي زوجة "الساروت"، كما أن المخرج حول المساحة الحركية - القليلة نسبيا في النص - من الحوار إلى الخشبة، وهو ما تجسد في مشاهد ال "فلاش باك". وأخيرا، فإن من امتدادات "الساروت" الآنية، أنه شق طريقه بسرعة إلى رحاب البحث الأكاديمي والجامعي، إذ بلغ علمي أخيرا أن اثنين من طلبة إحدى الشعب المسرحية يستعدان لإنجاز بحثي تخرجهما حول هذه المسرحية: الأول حول النص، والثاني حول العرض المذكور أعلاه، فالله الموفق. * نص المداخلة التي قدمها الباحث الحسين فسكا خلال حفل توقيع كتاب "الساروت" للحسين الشعبي، برواق وزارة الثقافة، ضمن فعاليات البرنامج الثقافي للدورة 21 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدارالبيضاء، مساء يوم الجمعة 20 فبراير 2015. هوامش: Le paradoxal, le dialectique, et les binômes (1) (2) الطبعة الأولى: أكتوبر 2014، منشورات مركز المسرح الثالث للدراسات و الأبحاث، مطبعة التيسير، الدارالبيضاء؛ مع تقديم ل"عزيز الحاكم". "Le jeu de l'amour et du hasard" de "MARIVAUX" (3) (4) غلبة الحوار في المسرح اليوناني لا ينفي وجود الحركة في الأحداث المروية على لسان الشخصيات المركزية والثانوية، أو من خلال تعليقات ومتابعات الجوقة ("أوديب الملك"، "أنتيكون"، "بنات تراخيس"...) (5) "عروس أغمات"، د. محمد زنيبر، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء،1991. (6) رواية "إكسير الحياة"، د. محمد عزيز الحبابي، منشورات "عيون المقالات"، الطبعة الثانية: 1988، الدارالبيضاء، مطبعة النجاح الجديدة. (7) جدد الحسين الشعبي التعبير عن قناعاته المذهبية في مقال يمكن اعتباره "بيانا تحيينيا"، قدم به المجموعة المسرحية "صندوق الرمى" ل "المسكيني الصغير"، رائد ومؤسس المسرح الثالث: "المسرح...سياسة وزيادة"، جريدة "بيان اليوم"، العدد 7418، الجمعة 9 يناير 2015. (8) "الساروت"، ص: 8. (9) الشخصية الرئيسية في المسرحية. (10) الشخصية الثانية في المسرحية (والأخيرة فيزيقيا). (11) الحدث الأصل.