المسرح.. سياسة وزيادة صدر مؤخرا للكاتب المسرحي المسكيني الصغير كتاب بعنوان «صندوق الرما» يتضمن خمس مسرحيات جديدة للكاتب من ضمنها واحدة تحمل نفس عنوان الكتاب.. ويقع الكتاب الصادر عن مركز المسرح الثالث للدراسات والأبحاث الدرامية في 212 صفحة من الحجم المتوسط، وتتصدر غلافه صورة فوتوغرافية للقطة من المسرحية نفسها التي أنتجتها في الموسم السابق فرقة الورشة بمدينة الدارالبيضاء.. وخص الكاتب والناقد المسرحي الحسين الشعبي هذا الإصدار بمقدمة على شكل دراسة ارتأى أن يعرف فيها بصاحب الكتاب ومساره المسرحي وتجربته التنظيرية الموسومة بالمسرح الثالث.. وفيما يلي النص الكامل لهذه المقدمة: يعد المسكيني الصغير أحد رواد الكتابة الدرامية الطلائعية بالمغرب والعالم العربي، والريادة هنا ليست مرتبطة فقط بتراكم التجربة وقِدمها وتعدد النصوص التي ألفها الرجل، إنما الريادة هنا تتسع لتشمل أيضا نوعية الاشتغال الدراماتورجي عند الكاتب، وطبيعة انشغالاته الفنية التي تندرج ضمن ممارسة ثقافية متسمة أساسا باختيارات سياسية وإيديولوجية واعية وواضحة المعالم، عنوانها الكبير، فكريا، هو الانتصار للقضايا العادلة للإنسانية عموما.. ورهانها الاستراتيجي، فنيا وجماليا، يرتبط جوهريا بإشكالية التأصيل والتأسيس في المسرح المغربي والعربي. ومن ثمة تميزه. ويتعزز معنى الريادة، في هذا المضمار، حين نعرف أن المسكيني الصغير، شأنه في ذلك شأن نخبة من الكتاب والمثقفين والمبدعين التقدميين المغاربة، كان يمارس شغبه المسرحي بجرأة نقدية وسياسية تجاه الأوضاع العامة وطنيا وعربيا في الوقت الذي كان المشهد السياسي في المغرب متسما بالصعوبة والقلق واللبس، وكان يعرف حالات الاستثناء والاستنفار ضد كل ممارسة ثقافية متنورة، وكانت السلطة السياسية تتفنن في ملاحقة ومحاصرة المثقفين الملتزمين، الذين كانت تنزعج من إبداعاتهم، ونالت الفرق المسرحية والجمعيات الثقافية الجادة حظها من هذه التعسفات، ولا سيما منعها بشتى الوسائل من تنظيم أنشطتها وندواتها وتقديم عروضها الفنية وفرجاتها المسرحية والغنائية للعموم، والتي غالبا ما تنتهي بلقاء مناقشة بين الجمهور والفنانين، الشيء الذي لا يروق للسلطة التي كانت تتوجس من مثل هذه اللقاءات الثقافية وتعتبرها بمثابة تجمعات سياسية.. وخلال هذه الفترة، فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، التي كانت تعرف بسنوات الرصاص، كان المسكيني الصغير منخرطا بفعالية وقناعة في هذه الدينامية الثقافية والجمعوية، وكانت الفرق المسرحية والمخرجون المسرحيون يتسابقون على النصوص المسرحية للرجل، لما تحمله من مضامين إنسانية قوية تستجيب لأفق انتظارهم، وتتناغم مع أفقهم الثقافي الملتزم والمشترك.. وبالتالي لم يسلم المسكيني الصغير بدوره من ملاحقات السلطة ومضايقاتها، حتى أنه تعرض للاعتقال والسجن بسبب أفكاره وكتاباته.. ولعل المتتبع الموضوعي لتاريخ المسرح العربي، والقارئ الرصين للريبرتوار المسرحي المغربي، والشاهد المواكب للحياة الثقافية المغربية، سيعترف للمسكيني الصغير بإسهاماته المتعددة في تأطير الحركة الثقافية والفنية ببلادنا بنفَس تربوي ونضالي ومواطن منذ البدايات الأولى لحركة مسرح الهواة بالمغرب وصولا إلى الراهن المسرحي الوطني والعربي اليوم. هذا، وفي اعتقادنا، لا تستقيم أي قراءة أو استقراء لنصوص وكتابات المسكيني الصغير من دون ربط ذلك بالأرضية التنظيرية التي ابتكرها وأبدعها وصارت ملتصقة باسمه وصورته ومساره، وهي نظرية «المسرح الثالث» التي أعلنها المسكيني الصغير في بيانه الشهير (والوحيد) على هامش المهرجان الوطني لمسرح الهواة المقام بمدينة تطوان سنة 1980، حيث أعلنها ثورة على المسرح السائد المتسم بالتسطيح والتكريس والتبعية الثقافية ومغازلته للسلطة.. في هذا الباب، أرى أنه لا بد من توضيح بعض الأمور التي أعتبرها مهمة والتي يتيحها لي هذا السياق (سياق تقديم كتاب جديد للمسكيني الصغير)، باعتبار أنني مررت شخصيا من مسالك ودروب هذه التجربة، وعايشتها عن قرب، وساهمت في بلورتها وتحليلها ومقاربتها، نقدا وتمثيلا وكتابة وإخراجا.. ومن بين هذه الأمور الهامة: أولا: إنه فعل وليس رد فعل ساد الاعتقاد أن بيان المسكيني الصغير لإعلان ورقة / تيار «المسرح الثالث» إنما جاء كرد فعل على بيان «المسرح الاحتفالي» لعبد الكريم برشيد، والواقع أنه لم يتبث في نص بيان المسرح الثالث ما يشير إلى ذلك، لا صراحة ولا ضمنيا.. ولم يتبث أن صرح المسكيني الصغير، في كتاباته ومحاضراته، بأنه كان بصدد الرد على بيان أو تيار فني ما، بقدرما جاء «المسرح الثالث» كاجتهاد فكري مبني على تراكم الممارسة وتراكم المشاهدة في الحقل المسرحي المغربي لسنوات وعقود.. ولم يدع أنه يعتزم نشر بديل مسرحي عن مسرح آخر كائن.. ولا كان ينوي فتحا مبينا يروج عبره سيلا من الفتاوى والدروس.. ولعل مرد اعتقاد البعض أن «المسرح الثالث» كان مجرد رد فعل على «المسرح الاحتفالي» يعود، في اعتقادنا، إلى سببين رئيسيين. أولهما أن الساحة الثقافية المغربية لم تتعود ءانذاك على ثقافة البيانات الفكرية التي يدعو فيها أصحابها إلى تأسيس تيارات، والحقل المسرحي نفسه لم يكن قادرا على تمثل واستيعاب الاختلاف الفكري والسياسي والفني، لأن حركة مسرح الهواة نفسها، بما هي حركة ثقافية تقدمية، كانت تعتقد أنها تشكل جسدا واحدا منسجما متناغما لا يمسه الاختلاف والتناقض لا من ظاهره ولا من خلفه، بدعوى أن الأهداف والرؤى والمواقف كانت موحدة، وهي فكرة إيديولوجية كانت موغلة في الأحادية، ورغم ذلك كان المسرحيون سباقين إلى سن أسلوب البيانات الفكرية، وليس السجالية، في المشهد الثقافي المغربي. من ثمة ساد الاعتقاد أن بيان المسكيني يرد على بيان برشيد، وبالتالي اعتُبر ذلك بداية لمشروع صراع وتناحر بواسطة البيانات والبيانات المضادة.. إلا أن التاريخ سار عكس هذا المسعى، ففي الوقت الذي استمر فيه برشيد في إصدار البيانات، اكتفى المسكيني الصغير ببيان واحد فقط، لا غير.. وعرفت الساحة المسرحية إثر ذلك بيانات واجتهادات لمسرحيين آخرين، كورقة مسرح المرحلة للراحل الحسين حوري، وورقة «مسرح النقد / النفي والشهادة» للراحل محمد مسكين، وورقة «المسرح الفقير» للمخرج عبد المجيد سعد الله، ومشروع «المسرح الأسود» للمخرج عمر درويش، و»الإخراج الجدلي» لعبد القادر اعبابو، و»مسرح الصورة» لأحمد أمل.. وعرفت الساحة المسرحية أيضا اقتراحات دراماتورجية أخرى بعيدا عن البيانات كتجربة الاستنبات المسرحي عند محمد قاوتي، وتجربة الراحل محمد تيمد، ومشروع عبد الحق الزروالي، وغيرهم من المسرحيين المغاربة الذين أثروا المشهد المسرحي بإبداعات وتصورات جديدة ومغايرة.. السبب الثاني يكمن، في نظرنا، في أن المسرح الثالث لم يجد حرجا في الإعلان عن قدرته على استيعاب كل الأشكال والأصناف المسرحية الكائنة والممكنة شريطة قابليتها للتفاعل في نطاق جدلي يغني قيمتي التبادل والحوار الثقافيين والفنيين.. من ثمة يمكن للمسرح الثالث «أن يتعالق مع جميع أنواع المسرح في حدود معينة، أهمها إمكانية مجادلة هذه الأنواع وتوظيفها مضمونا وإخراجا في إطار رؤيته الإبداعية»(1). كما أنه قادر على «التعامل مع المسرح العالمي برؤية التجادل والتفاعل والتكافؤ بعيدا عن التبعية، ويرفض الاستيراد المستمر والتصدير المستمر»(2). وإنه، أي المسرح الثالث، لا ينفي بالضرورة أي تيار مسرحي، «إلا أنه قد ينفي ويختلف منهجيا مع أي تيار في طبيعة تحديده لموقعه وأسلوب تعامله في الزمان والمكان والتاريخ. وعلى هذا الأساس فإن المسرح الثالث يرفض كل تبضيع فلكلوري للفنون الإنسانية، وينزع في هذا الإطار إلى وسم تعامله مع هذه الفنون بخاصيات التجادل والتحديث والتكافؤ والتكامل، كلما ظلت تلك الفنون تخدم الإنسان وجودا وموقفا وتقدما.»(3). هذا الموقف غير الرافض للآخر لم تتم استساغته بأريحية، واعتُبر، في تأويل خاطئ، أنه رد فعل بديل عن كل الأصناف المتواجدة وعلى رأسها المسرح الاحتفالي الذي كان نشيطا وبارزا وحاضرا في العروض المسرحية والمهرجانات والندوات الفكرية. والواقع أن المسرح الثالث لا يؤمن بقتل الآخر بقدرما يدافع عن الحق في الحياة، ويقترح استيعاب الجميع والتجادل مع الجميع، ولا يدعو إلى العيش على الأنقاض بقدرما يدعو إلى تقوية فكر المختبر المسرحي والتجريب والبحث.. واستشراف المستقبل. ثانيا: مسرح واضح المعالم «المسرح الثالث» أعلن نفسه بوضوح عمن يكون، وماذا يريد، وإلى أين سيتجه.. حتى أن البعض اعتبره، ءانذاك، مقدمة لتيار سياسي جديد جاء من أجل إصلاح وتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالبلاد.. لأنه وضع نفسه في خندق أسمته ورقة المسرح الثالث ب «الثقافة المسؤولة» التي لا تهادن ولا تنفي الصراع، والتي، تؤكد ذات الورقة، «لا يمكن أن يتحقق لها وجود بمعزل عن التوجه المنحاز للحقيقة»، معتبرا في المجمل أن المسرح لا يمكنه، بأي حال من الأحوال، أن يكون بريئا، وبالتالي لا يمكن له أن يستغني عن الاختيار، (اختيار ليبرالي أو اشتراكي أو...).. وفي هذا السياق، يؤكد المسرح الثالث في بيانه الأول أنه «يأخذ بمفهوم الثقافة المسؤولة، لأن وضعنا واختيارنا الاقتصادي والسياسي والثقافي والمسرحي لا يمكن أن يستقبل كل شيء ببراءة، كما أنه لن يستطيع أن ينيب عنه من يدعي المصلحة العامة والثقافة المرغوب فيها.. لأن التفاوت القاهر في عملية التقدم على الصعيد المادي أصبح يرفض كثيرا من النماذج العلائقية التي لا تترك الفرصة أمام الاجتهاد والتفكير في إيجاد مسرح متقدم، مسرح يعتمد بالدرجة الأولى جدلية التطور بين عامل الاحتكاك الطبيعي والحضارة الإنسانية، وبين مميزات الخصوصية البشرية في مكوناتها الحضارية الإنسانية المشرقة..»(4). ولم يتردد المسكيني الصغير، في المقابل، أن يكشف عن المسرح الذي يريد والمسرح الذي لا يريد، معلنا رفضه القاطع للتدخل الرسمي للدولة بالنسبة لتعريف المسرح ودوره، وهذا التعريف، يقول المسكيني، «لا يمكن في اعتقادنا الاعتماد عليه أو الأخذ به، نظرا لكونه يفرض بعدا واحدا ويخدم اتجاها واحدا.»(5). ذلك ما يتبين في نوعية العلاقة التي كانت قائمة، ءانذاك، بين المسرح والدولة، حيث كانت هذه الأخيرة تدعم نوعا واحدا وأوحدا من المسرح، وهو النوع الذي لا يجادل ولا يشاكس ولا يعارض ولا يفكر ولا يجتهد، وهو المسرح الرسمي الذي تتبناه وسائل الإعلام العمومية والمؤسسات الرسمية التابعة للدولة، وهو المسرح القائم على التسطيح والتكريس والتبعية مضمونا، والتهريج والإضحاك المجاني شكلا.. وعلى مستوى جدلية المضمون والشكل، يرى المسرح الثالث أن هناك أدبا إنسانيا في أغلبه خادع، «لأنه يدعي الشمولية في التعبير عن الحزن الكبير للإنسان، ولكنه في واقع الأمر، لا يبدع إلا بلسما من الدموع والأسف، ويتجلى هذا في الشكل والمضمون اللذين يدغدغان عواطف الجماهير بلغة مأساوية، فالمسرح الثالث يرى أن الإحساس بالظلم والفقر والقهر والجوع والغثيان... لا يكفي، والتخطيط لنزع هذه الحالة عن طريق الاستجداء، هو حل ترميمي، بل إن المسرح الثالث يرى أن الوعي بالظلم هو تغيير للحالة القائمة..»(6) هذا المنحى السياسي الواضح للمسرح الثالث يتأكد في أكثر من متن في الورقة / البيان، سواء من خلال تأييده المعلن «للخط الإنساني التحرري في مواجهة كل أنواع الضغط والهيمنة والسطحيات»، أو من خلال رفضه لما يسميه ب «الأسلوب المداعب» ورفضه الصارم ل «كل تركيب لا يقترن بالحياة»(7). ويزيد اقتران المسرحي بالسياسي عند المسكيني الصغير حين يقر بأن «المسرح الثالث ينطلق من توجه إيديولوجي معين، تتحكم فيه معايير فلسفية جمالية ترتكز على دينامية الجدل بين مكونات العرض في الزمان والمكان والتاريخ، وتطبع هدفه في التعامل مع الظواهر والأشياء بالوضوح في الاختيار على المستوى المرحلي والبعيد المدى..»(8) ومع أن الوقت الذي جاء فيه البيان كان يتميز بحراررة الصراع السياسي والفكري والمجتمعي بين أقطاب اليسار والتقدم من جهة وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى، أي في الوقت الذي كان فيه من الصعب على المثقف المستقل أن يعلن أفكاره وعقائده على العموم، فإن المسكيني الصغير لم يكن واردا لديه إخفاء هذا «التوجه الإيديولوجي المعين» الذي يشكل منطلقا لمسرحه، إذ جاء التصريح والتلميح لهذا «الانتماء» الإيديولوجي والسياسي في أكثر من متن داخل النسيج البنيوي لبيان التأسيس، والذي يشير مباشرة إلى الفلسفة الماركسية، والمادية التاريخية والجدلية التي كانت ولا زالت تشكل الوعاء الفكري المرجعي لليسار المغربي على اختلاف مشاربه وتياراته.. فالمسرح الثالث يتصور عملية التشخيص المسرحي انطلاقا من منهج «يستمد مبادئه الفنية من قانون التغيير وفضح المتناقضات المتجلية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية»(9).. على هذا الأساس ينهض مفهوم المسرح الثالث الذي جاء «استبطانا واستنباطا لقانون التغيير الجدلي ولقانون نفي النفي وحركيته المطورة / الصاعدة في الزمان والمكان والتاريخ.»(10) وبالرغم من هذا التأطير السياسي والإيديولوجي الواضح، فإن المسرح الثالث يرفض المباشرة في الطرح واللغة والأسلوب، ويرفض الطرح «البعيد عن الإطار الفني والإبداعي والمسرحي»(11)، وينتصر للجماليات والأيقونات والترميزات والتوجه لذكاء المتفرج وليس لعواطفه فحسب. ثالثا: مرتكزات قاعدية أساسها الجمهور وفي هذا المنحى يعتبر المسرح الثالث أن عنصر المشاركة الواعية للمتلقي أمر أساسي في العملية الإبداعية المسرحية، ومن ثمة فهو ينفي البساطة والتلقائية، مقابل التعقيد والتركيب، في إطار علاقة تفاعلية وجدلية بين الملقي كمنتج والمتلقي كمستهلك. أي أنه يتعين على المبدع المسرحي ألا يستبلد الجمهور باعتباره مستهلكا، وألا يستعلي بذاته باعتباره منتجا ومصدرا وحيدا للفكرة والفرجة. لأن الفكرة تصنع بتفاعل بين الملقي والمتلقي. وهنا يؤكد المسرح الثالث أنه ينفي عنصر التلقائية في علاقته بالمتفرج، و»يؤمن بالمشاركة بواسطة الفن المسرحي المبدع وليس بواسطة الفرجة السلبية، أي الفرجة من أجل الفرجة» (12). ولعل الجمهور يعد من بين المرتكزات الأساسية للمسرح الثالث، ذلك أن نظرية المسرح الثالث كلها مبنية على ثالوثين رئيسيين يلعب فيهما الإنسان دورا محوريا: الثالوث الأول: المكان، الزمان، والتاريخ. الثالوث الثاني: الفكرة، الفكرة النقيض، والفكرة الثالثة. وسنقتصر هنا، في عجالة، على تبيان أهمية المكان في المسرح الثالث، لأنه، في نظرنا، عصب نظرية المسرح على العموم. فالمكان في المسرح الثالث هو فضاء للتلاقي بين البشر، وهو بالتالي الحيز الجغرافي والبشري الذي يفرض حدودا دنيا من «التفاهم والتفاعل على صعيد الوجود الإنساني»(13)، وجدانيا وروحيا وماديا... والإحساس بالمكان هو بالضرورة إحساس بتملك حيز ما ينبغي «تطويقه» والدفاع عنه في مواجهة كل أشكال السلب والنهب والنزع، ومن ثمة يستقيم معنى الوطن والإحساس بالروح الوطنية.. كما ينهض من خلال الإحساس بالمكان الإحساس بالظلم والعدل، وكل أشكال المتناقضات التي تتعايش في المجتمع الواحد، أي في المكان الواحد، مهما ضاق أو اتسع مجاله الواقعي، وفي المسرح يصير المجال الواقعي / المكاني متخيلا، وإذن فإنه يسع كل القراءات والتأويلات والاجتهادات التي تملأ الفراغ والفضاء انطلاقا من الثقافة المشتركة الموروثة أو المتداولة بين الكاتب المسرحي وجمهوره.. ومن ثمة يصبح البناء المعماري للمكان على ركح المسرح امتدادا أو تجاوزا للمكان والأمكنة التي يقترحها النص المسرحي.. وفي هذه العملية تتداخل دلالات المكان كما يرسمه النص في سياق الأحداث التي تجري فيه، والمكان كما يقترحه الفنان السينوغراف بتواطؤ مع المخرج في بنيان معماري بأشكال وأحجام وألوان محددة ومدروسة، والمكان أو بالأحرى الأمكنة التي يتمثلها المتفرجون ويملأون بها احتياجاتهم لفهم الحكاية ومسارها. وإذن فالمكان بهذا المعنى، حتى ولو كان ماديا مشاهدا وملموسا، فإنه مجرد حالة متخيلة سرعان ما تتلاشى بتتالي الحالات المتخيلة الأخرى.. فالمكان يصنعه الإنسان سواء في الواقع أو في الخيال، للاستجابة لحاجة ما. والمكان بهذا المعنى يُصيِّر الزمان أمرا محسوسا، بحيث لم يعد الزمان يقتصر فقط على الثلاثية الملموسة في الماضي والحاضر والمستقبل، بل يتجاوزها ليصيرها زمنا محسوسا لدى الجمهور انطلاقا مما قد يلاحَظ بالملموس من تفاوت مادي مرتبط بطبيعة المكان المادي أو المتخيل نفسه. رابعا: التنظير والممارسة يذهب الكثير من النقاد والدارسين إلى أن المسكيني الصغير نظَّر للمسرح الثالث انطلاقا من رغبة ذاتية في تقعيد اشتغالاته الدراماتورجية، وبالتالي فهو ينظّر ليفسر طريقته في الكتابة التي لم يراكم فيها، ءانذاك، (قبل التنظير أي إبان الثمانينات من القرن الماضي) سوى بضعة نصوص، وينظِّر أيضا لما سيأتي من كتابات ولما ينبغي أن تكون عليه الكتابة للمسرح في نظره.. والحقيقة التاريخية تذهب بنا إلى أن المسكيني الصغير لم يكن يتوخى خلق نظرية ونشرها كما تنشر الدعوة.. وفي هذا السياق، لعل السؤال الحقيقي الذي أثارته عمليات التنظير في المسرح المغربي يتجلى في العلاقة التي يجب أن تبنى بين النظرية والتطبيق، وفي سؤال من الأسبق؟ التنظير أم الممارسة؟ حتى أن البعض اعتبره سؤالا إشكاليا يشبه إلى حد ما السؤال الأزلي لمن الأسبقية؟ أ للدجاجة أم للبيضة؟ لكن أليس التنظير شكلا من أشكال الممارسة؟ لندع هذا السؤال جانبا ونعود لظروف نشأة المسرح الثالث، وهل تنظير المسكيني الصغير سبق الممارسة أم أعقبها؟ في موسم 1979 / 1980، كان المسكيني الصغير عضوا باللجنة الوطنية المكلفة من قبل وزارة الشبيبة والرياضة بمعاينة وانتقاء العروض المسرحية المعدة للمساهمة في الإقصائيات الوطنية للتأهيل للمشاركة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة الذي كانت تنظمه الشبيبة والرياضة كل سنة، وكان أعضاء اللجنة الوطنية، ومن بينهم كاتبنا، يجوبون البلاد طولا وعرضا من طنجة إلى الداخلة، ومن وجدة إلى وارزازات... وتمكنوا من مشاهدة أكثر من مائة (100) عرض مسرحي بمختلف أقاليم وجهات المغرب. كان أعضاء اللجنة يشاهدون ويعلقون وينتقدون ثم يختارون العروض المؤهلة، بينما المسكيني الصغير، فضلا عن ذلك، كان يرصد التجارب المسرحية المقترحة والمبرمجة في هذه الإقصائيات، ويقرؤها ويدونها ويناقش أصحابها على هامش زيارته لمنطقتهم قبل مغادرتها لمنطقة أخرى.. وبالتالي يعود لاستقرائها وتحليلها بهدوء وترو. وفي هذه الجولة الماراطونية، عاين المسكيني الصغير، الذي تحول من كاتب مسرحي إلى باحث، زخما هائلا من العروض المسرحية التي أنتجتها فرق مسرح الهواة، والتي وإن تفاوتت من حيث الجودة، إلا أنها تكاد تتشابه في المقاربات، وسجل الكاتب الباحث أن القاسم المشترك بينها هو البحث في الأشكال المسرحية المختلفة، والتطرق لمواضيع جريئة سياسيا ومجتمعيا.. ولاحظ المسكيني الصغير أن هذه العروض المائة تتسم جميعها بمعالم تستحق التأمل، منها: الاشتغال على نصوص مسرحية معظمها من تأليف كتاب مغاربة. معظم النصوص مكتوبة بنفس سياسي واجتماعي نقدي. اختيار مضامين إنسانية قوية من قبيل البحث عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، انتقاد السلطة ومظاهر الظلم والتعسف، الدفاع عن العمال والفلاحين والمستضعفين، التطرق لقضايا الهجرة ومعاناة المهاجرين، التضامن مع فلسطين ولبنان والشعوب المستعمرة، التضامن مع المظلومين والمضطهدين، نقد الرشوة والمحسوبية ومظاهر الفساد في المجتمع، نقد تزوير الانتخابات، إثارة مشاكل التعليم والأمية والجهل، نقد السياسات الاجتماعية في قطاعات الصحة والسكن والنقل، الاستهزاء بالبرلمان والمنتخبين والوزراء والموظفين السامين، نقد مظاهر التطرف والتعصب الديني، إثارة قضايا الجنس والطابوهات المشابهة، رفض مظاهر التخلف والتبعية الاقتصادية، نقد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الاستهزاء بعرب الخليج والبترودولار، وعدد من القضايا التي لم تكن تثار إلا في عروض مسرح الهواة.. اعتماد عدد لا يستهان به من النصوص المسرحية على التراث، باستحضار معالم وأعلام وأحداث ووقائع من التراث المغربي والعربي والعالمي. اعتماد كل العروض المسرحية على نفَس تجريبي لمحاولة خلخلة النمط المسرحي السائد، مما مكن عدد من المخرجين من تملك أسلوب خاص بهم، يتجدد بالبحث التجريبي في الأشكال والمدارس الغربية وفي علاقتها بالثقافة والفنون المغربية، سواء على مستوى الديكور أو الملابس أو الإضاءة والتقنيات المسرحية المختلفة.. من خلال هذه التدوينات خلص المسكيني الصغير أن في المغرب مسرحا آخر لا يعرفه الجميع، وهو مسرح يفكر وينتفض، يجتهد ويتجدد، مسرح تقدمي ينتصر للأفكار الإنسانية ضد كل التيارات الرجعية السائدة في الثقافة العربية والمغربية والتي تعتمد التهريج والتبسيط وتدعمها الدولة ومؤسساتها وإعلامها.. مسرح ينتصر لهويته الثقافية ويستلهم ثرات بلده، مسرح جدي قائم على النقد والسؤال والبحث.. وانتهى المسكيني الصغير إلى أن ما شاهده خلال جولته هو المسرح المغربي الحقيقي، وبالتالي يحتاج إلى تأطير نظري مسرحي مغربي.. من ثمة جاءت نظرية «المسرح الثالث» كنظرية مغربية لمسرح مغربي. ولم يدَّع المسكيني الصغير يوما أنه صاغ ورقة المسرح الثالث انطلاقا من نصوصه وحدها.. بل ارتوى من نبع ونبض المسرح المغربي على امتداد التراب الوطني. وهذا طبعا لم يمنع الكاتب أن يصيغ فيما يأتي من كتاباته نسيجا تطبيقيا بل نموذجيا لرؤيته المسرحية كما تشبع بها خلال مشاهداته على الخشبة وبعد تحليل مشاهداته على الورق، وهي «مشروع رؤية منهجية إبداعية حداثية تنويرية تجادل الإنسان في مكوناته المادية والروحية والعلائقية..»(14).. ذلك ما سنعيشه مسرحيا بالملموس، في فترة ما بعد الثمانينات» في نصوص «الجاحظ وتابعه الهيثم»، و»رحلة السيد عيشور»، و»البحث عن رجل يحمل عينين فقط»، و»الرجل الحصان»، و»السيد جمجمة»، و»العقرب والميزان»، و»الباب أربعة»، و»الجندي والمثال»، و»صندوق الرما» ونصوص أخرى منشورة وأخرى قادمة.... فأيهما أسبق، في هذه الحالة، التنظير أم التطبيق؟ هوامش: -1 كراس «المسرح الثالث.. مشروع رؤية مسرحية جديدة». ص 13. الطبعة الأولى 2003 الدارالبيضاء/المغرب. منشورات مركز المسرح الثالث للأبحاث والدراسات الدرامية. -2 نفس المصدر. ص 13. -3 نفس المصدر. ص 14 -4 نفس المصدر ص 9 و10. -5 نفس المصدر. ص 8. -6نفس المصدر. ص 11 و12. -7 نفس المصدر. ص 13. -8 نفس المصدر. ص 13. -9 نفس المصدر. ص 13. -10 نفس المصدر. ص 16. -11 نفس المصدر. ص 13. -12 نفس المصدر. ص 13. -13 نفس المصدر. ص 10. -14 نفس المصدر. ص 16.