«الساروت» لفرقة «نادي المرآة» الفاسية تواصل فرقة «نادي المرآة للمسرح بفاس» تقديم عروض مسرحيتها الجديدة «الساروت»، بعد مشاركتها في الدورة السادسة عشرة للمهرجان الوطني للمسرح بمكناس، وقبله في المهرجان المسرحي لمدينة المونستير التونسية، حيث خلف العرض أصداء طيبة وتناولته الصحافة التونسية باستقبال كبير.. المسرحية من تأليف الكاتب المسرحي الحسين الشعبي وإخراج الفنان حسن مراني علوي، والسينوغرافيا كانت من تصميم حسن صابر.. بينما طاقم التشخيص يتكون من سارة السفياني وخالد زويشي وعدنان مويسي. فرش الأحداث: تدور وقائع المسرحية حول حادث اختطاف المواطن المكنى ب «الساروت»، صباح يوم عيد، عند خروجه من بيته ليجلب قبضة نعناع لزوجته التي تنتظره بشوق، وقد أعدت لوازم جلسة شرب الشاي، مرتدية القفطان الذي يحب زوجها كثيرا أن يراها به. لن يرجع الزوج إذن، لتعيش الزوجة تراجيديتها الخاصة، تتقاذفها النوائب الناتجة عن بعد الحبيب المعيل.. أما الساروت، فيقضي مدة اختطافه في سلسلة لا تنتهي من الاستنطاقات والتعذيب النفسي، وإدمان قسري على تناول حبوب قنينة لعينة، أصبح الحصول على محتواها قرينا بمدى تجاوب الساروت و»تعاونه» مع مستنطقه: الطبيب النفسي الذي تم تكليفه بهذه المهمة «البوليسية». الحسين الشعبي مخلصا للمسرح الثالث: يعد الكاتب الحسين الشعبي من المسرحيين الذين اجتمعت في ممارستهم المسرحية هموم التجريب المتني والركحي، إلى جانب الهم النقدي والتنظيري، مساهما بذلك بقسط وافر في إغناء الريبرتوار المسرحي المغربي والساحة النقدية على السواء، وذلك من خلال بوابة المسرح الثالث الذي هو من أعلامه البارزين، وأشرف على إدارة هيئته المؤسساتية: «مركز المسرح الثالث لدراسات والأبحاث الدرامية» ومسرحية «الساروت»، كما قدمت للجمهور المغربي والعربي (1)، تختزل في الواقع - نصا وإخراجا- جل مذهبيات المسرح الثالث، انطلاقا من اكتمال عناصر «ثالوثاته» المعروفة لدى النقاد والمهتمين. فإذا التمسنا «الثالوث الجدلي» بمفهومه «الهيجيلي»، واعتبرنا «الظلم» - تجاوزا - تيمة العمل الرئيسية، نجد القضية ونقيضها وتركيبهما يكادان يغلبان على الشخصيات الفيزيقية للممثلين الثلاث، بل إن القضية والنقيض والتركيب أصبحوا فعلا «الشخوص / المركز» في المسرحية، وذلك في العديد من المشاهد، بدءا بالاستهلال، وتتويجا بالنهاية المفتوحة. تبين المعالجة النصية للتيمة، من خلال مكون الصراع، تفاعل الشخوص سلبا وإيجابا لدرجة تتماهى فيها الشخوص فيما بينها فيتبادل الظالم والمظلوم مصيريهما ودوريهما، حتى يصبح كل منهما ضحية الآخر، وهما معا ضحايا زمن الرصاص.. ويساهم الكل في تنامي الأحداث في اتجاه بؤرة تعيد وضع «الملف» آخر الأمر أمام المتلقي ليقول كلمته في ما رأى وسمع وعاين. وإذا نحن حاولنا استجلاء تمظهرات ثلاثية «المكان والزمان والتاريخ»، السائدة في بيانات المسرح الثالث، نجد أن مسرحية «الساروت» تسير على خطى مثيلاتها في تجاوز الزمان والمكان الواقعيين، ولا تعترف - حوارا وأحداثا - سوى ب «الزمن المسرحي»، و ب «المكان المسرحي». فالزمن الثالثي غير الزمان، والمكان الثالثي غير المكان، ولا وجود لزمن بعينه ومكان بذاته، والمحتفى بهما حصرا هما زمن ومكان اللحظة: لحظة التلقي. أما شمولية مكون «التاريخ / التراث» في «الساروت» لحقبة سنوات الرصاص، فلا نرى إلا أنها تعزز «نسبية» المكونين سالفي الذكر في المسرح الثالث عموما، حيث تتساوى الحقب عند الثالثيين لتخدم لحظة التلقي، ولتستفز وجدانه، خدمة لرسالة معنيون بحملها وتسليمها للمرسل إليه، يدا بيد؛ وهذا بالضبط هو المنظور الذي صنع الفرق بينهم وبين مسرح الفرجة الصديقية، ويؤكد بعض ملامح التقاطع مع الاحتفاليين. وأما من زاوية الثالوث الإسمي «العددي»، الذي يفترض وجود مسرحين آخرين المسرح الثالث ثالثهما، فإن مسرحية «الساروت» ألغت تماما هرمية المسرح الكلاسيكي لتركب موجة التجريب، لكنه تجريب غير منشود لذاته، تجريب يعيد إنتاج الهوية بعد الهدم، في صيرورة ناقدة ثائرة متمردة تستعصي على»الكائن» و»المتوقع» على السواء. وختاما، فثلاثية الكاستينغ - التي لا أعرف إن كانت مقصودة أم لا من لدن الكاتب أو المخرج أو هما معا- تدعم هي الأخرى هذا السياق التنظيري العام، ثلاثي الأبعاد. حسن مراني العلوي ورهان الصنعة الفنية: لم يكن بالإمكان الخروج بالاستنتاجات المفاهيمية سالفة الذكر، بعد مشاهدة العرض، بدون اللمسات الإبداعية للمخرج المقتدر حسن مراني علوي. إن الأمر يشبه تماما ما نصادفه في مجال رياضة كرة القدم حين ينتدب فريق معروف متكامل مدربا كفؤا ذا تجربة ميدانية وازنة. وللأمانة النقدية أقول إن هذا المخرج لم ينل ما يستحق من الاعتبار... أجهل الأسباب، لكن ما أنا متأكد منه أن هذا المبدع «صنايعي» و»حرفي» بامتياز، وقد عاينت عن قرب جودة عطائه الفني والتقني وهو يقدم سنة 2005 بمدينة الجديدة «البروفة» الثانية لأحد أصعب فنون العرض: «الأوبريت الغنائي الراقص»(2). لقد استطاع المخرج، بحرفيته، أن يقوم بإخراج «ثالث / ثالثي»، يراعي المنطلقات المذهبية للنص، وذلك من خلال الآتي: -1 جدلية «المفارقة» بين النص والإخراج: تتجلى المفارقة (Paradoxe) النصية الرئيسية والمحورية في كون الآمرين بالاختطاف قد فطنوا في الأخير إلى أن الساروت ليس هو من يبحثون عنه، بل المعني بالأمر شخص آخر، وسيأمرون بالتالي بإطلاق سراحه. أما المفارقات الفرعية فوافرة. وإذا كان المؤلف قد رسم هذه المفارقات بحبكة، فإن المخرج ترجمها على مستوى إدارة الممثل باحترافية عالية وصنعة دقيقة، في تناغم تام مع السينوغرافيا والأزياء. ومن التقنيات التي استعملت لتحقيق الغرض ركحيا التقنيتان التاليتان، التجريبيتان بامتياز: تقنية «التشطير»: من إضاءات عرض «الساروت» الجمالية رهان المخرج على تقنية «انشطار الشخصيات» (=»تشطيرها»)، حيث وزع كثيرا من المونولوجات (الفردية عرفا) على أزيد من مشخص: بين الساروت وزوجته. بين الساروت والطبيب. بين الزوجة والطبيب. بين الساروت والزوجة والطبيب. وقد امتدت عملية التشطير أيضا إلى الأدوار المزدوجة (Double rôles). تقنية تبئير اللامرئي: يكاد العرض يخلو تماما من الملحقات (= الأكسسوارات) (3) ليفسح المجال للتعبير الإيمائي كما في تشخيص حركة مناولة الزوجة قبضة النعناع مثلا. لكن الملفت للانتباه هو اختيار هذا المنحى في مشهد شرب الخمر، حيث البوح الصارخ ل «الساروت» - الذي وجد ذاته «الواعية» في هذا المشهد بالذات - ثملا، شاربا خمرا غير مرئي، من دون الوجود الفعلي للسائل والقنينة، مما شكل لحظة ذروة في تبئير المفارقة من خلال تبئير اللامرئي. -2 التقطيع الدراماتورجي والسينوغرافيا: يحس متتبع عرض «الساروت» ب «هيمنة» التأثيث السينوغرافي المتغير باستمرار على بقية مكونات العرض، بما فيها التشخيص، وتنقلات وتحركات الممثلين. فكأن السينوغرافيا هي التي تحدد في العرض تقطيعه الدراماتورجي، وليس العكس؛ بل إن المجسمات المنجزة، والتي تتحول وتنساب على الخشبة بمرونة، اكتست في مشاهد كثيرة طابع شخوص إضافية لها مكانها ضمن الطاقم البشري المشخص.(4) لقد تمكن المنظور السينوغرافي، تصميما وإنجازا وتوظيفا، من كسب رهانات متعددة، منها تأثيث الركح بأيسر كم وأقل تكلفة (5)، تحقيق غنى التنوع، وجعل السينوغرافيا تلعب دورا وظيفيا في تحديد المكان والمعنى... وتنضاف إلى ما سبق جودة وتوازن توزيع المجسمات، وجمالية التشكيلات المقترحة التي تملأ الحقل المرئي للمتلقي، ولا تتركه يسهى عن التتبع.. أغنية «أنا ما نسيت»: شكلت هذه الأغنية المصاحبة للاستهلال والختام، والتي نبسطها للقارئ الكريم على سبيل الختم، نقطة قوة أكسبت العرض ككل قيمة فنية وجمالية مضافة، وهي من كلمات مؤلف المسرحية نفسه، لحنها وأداها باقتدار الفنان الشاب سعد الدين؛ ولعل جماليتها تكمن في الجمع بين إيقاعيتها التنشيطية («راب»)، والبعد الدلالي والقيمي لمتونها النصية واللغوية.. وهي جواب «الساروت» على طبيعة اسمه الذي ليس حقيقيا، والذي أخفاه أثناء التحقيق مدعيا نسيانه، حيث اضطر المحقق أن يلصق به اسما وهميا هو «الساروت»، لكن مع ذلك فهذا الاسم يحمل عديد معاني، أهمها أن بطل المسرحية يشكل بالفعل «مفتاح» المستقبل المفترض للطبيب واللغز المتحكم في مصيره المهني، فلا غرو إن كان الساروت اسما على مسمى، حتى ولو كان مفتعلا ومفترضا.. يقول الساروت في نهاية المسرحية: «أنا ما نسيت سميتي، أنا ما نكرت هويتي، أنا غير تحايلت عليك باش نتهنا من سين وجيم، ساعا طحت فيك كتدرب فيا على تابوليسيت..»، وبعد هذا الإقرار تأتي أغنية الساروت التي نقترح على قرائنا نصها الكامل لجماليتها وطبيعة أزجالها.. هوامش: -1 هذه القراءة تخص العرض المقدم بالمركب الثقافي «كمال الزبدي»، بالدار البيضاء، مساء يوم الخميس 15 ماي 2014م. -2 يتعلق الأمر بعرض «شاروخان ماروكان»، بطولة الفنان «عزام أبو العزم» (المعروف بشخصية: «بهلول»). -3 الأكسسوار الوحيد هو المفتاح المضخم الذي يتقلده «الساروت». -4 تنوعت تحويلات المجسمات بين منصة خطابة ومقاعد وسطوح منازل وزنزانة وغرفة مشفى وحمام منزلي، وغيرها من الفضاءات التي حددها النص أو الإخراج. -5 وفي ذلك تناغم مع إحدى مذهبيات المسرح الثالث المركزية الأخرى، المتعلقة بمحور تأثيث الفضاء الركحي، والتي وثقها «سعد الله عبد المجيد» من خلال ورقته الشهيرة حول «المسرح الفقير». برولوج الساروت أما أنا ما نسيت ما تناسيت... أنا وخا نسيت راسي ما نسيت سميتي أنا ما نسيت مَّا وبَّا واهلي وفاملتي أنا ما نسيت خوتي وخواتاتي، أنا مانسيت مراتي أنا ما نسيت اجدادي واولادي أنا ما نسيت بلادي... أنا ما نسيت الدرب لي فيه كبرت أنا ما نسيت البرارك لي هزموا الزلزال وفيهم تولدت أنا ما نسيت المنكوبين في آيت ملول وتالبورجت... أنا ما نسيت بوتْشاكَّات وإنزكان وأَمْسِرْنات أنا ما نسيت دوك لي داهم الواد على غفلة أنا ما نسيت دوك لي تقتلو ودفنو في حفرة أنا ما نسيت داك لي تعصب في عينيه ما شاف ما رى أنا ما نسيت داك لي تغصب في شبابو ما لعب ما قرا ما تسارى أنا ما نسيت الحايحة لي داروا العزارى مسلحين بالفيسان والعتالي والمدارى أنا ما نسيت دوك لي وقفو في وجه النصارى... أنا ما نسيت البارود لي زغرد في الجبال أنا ما نسيت رجال واد زم وبين الويدان أنا ما نسيت حْمْرْ وأيت كْرُّومْ ولاَخْصَاصْ وإِيْسدْرامْ أنا ما نسيت بويْزاكارْن وآيت باعمران أنا ما نسيت الصافي والزهوي وعزيز وسي علي ومروان أنا ما نسيت أيت غنو وبيجي وعديشان... أنا ما نسيت سلمات ورويشة وعبد الرؤوف وقشبال وزروال أنا ما نسيت تيمود وعادل ومسكين وبودلال أنا ما نسيت أحواش والگْرَّارة أنا ما نسيت الحاج بلعيد والبنسير وتيسكوين وهوارة أنا ما نسيت بوجميع وناس الغيوان..... أنا ما نسيت النسا والرجال في لوطا ولجبال أنا ما نسيت العيالات الگادّات الگابلات الحصادة في الگايلة أنا ما نسيت البنات لي حرشو الحيوط والنوالة في عز الليالي ويتسناو يطلع النهار أنا ما نسيت أَرَّاسْ كيشعل العافية في الكانون وأفِيَّاش والزگمون دغمة في فم العجلة والنعجة والخيول أنا ما نسيت باجدي لي كيفيق قبل الفياق ويشرّْب لبهايم ويسْرح ويحطب ويحرث ويدير الموسم أنا ما نسيت الغدير والحاسي أنا ما نسيت النادر والعراسي أنا ما نسيت الجامع والسكويلا والليسي أنا نسيت راسي وحلاسي وما نسيت بلادي وعوايدي وناسي...