تواصل فرقة مسرح الورشة عرض مسرحيتها «صندوق الرمى»، عن نص للكاتب المسرحي والزجال المسكيني الصغير، وإخراج للفنان فريد لمكدر، وتشخيص ثلاثي لكل من كريمة شمسي في دور»الشيخة فطومة»، وجلال بوفطايم في دور»الشيخ العسري»، وأحمد بوعاودة في دور»الشيخ بوجمعة»؛ السينوغرافيا لعبد الكريم سمير، الملابس لشفيقة والي، الموسيقى والمؤثرات الصوتية لحمد كيناوي، المحافظة العامة لأحمد بسيم العلمي، إدارة الركح لأحمد ممدوح، تصميم الإنارة وإدارة الإنتاج لفريد لمكدر». وتجدر الإشارة إلى أن نص المسرحية قد ظهر أخيرا في إصدار جديد للمسكيني الصغير يضم مجموعة نصوص مسرحية أخرى: «العمارية» و»الرحبة» و»بلادك أجلول»، ومونودراما بعنوان «الصندوق»، وجميعها باللغة العامية المغربية (1). رهانات المسرح الثالث و انتظامية المسار تنتظم التيمة العامة للمسرحية في سياق المرتكزات العامة للمسرح الثالث كما رسم معالمها مؤسسه و رائده المسكيني الصغير، بمعية المخرجين عبد المجيد سعد الله، وعبد القادر عبابو والكاتب والناقد المسرحي الحسين الشعبي وآخرون، سواء على مستوى التنظير والبحث والدراسة، من خلال بيانات وأبحاث منشورة(2)، أو على مستوى الإبداعات المتنية من خلال الكتابة النصية، والإبداعات الركحية من خلال الإخراج (3)؛ ومن أهم تلك المرتكزات: موقف المبدع المسرحي من مسألة «التراث» استحضارا وتمثلا واستثمارا، وهو ذات المنظور الذي صنع الخصوصية في الرؤى بين المسرح الثالث وغيره، فكان قريبا من بعضها - وإن لم يشأ- كاحتفالية «عبد الكريم برشيد»، وبعيدا عن أخرى - بشكل واضح- كفرجوية «الطيب الصديقي». تدخل مسرحية «صندوق الرمى» إذن في إطار توظيف التراث فنيا، لكن لغاية ورسالة آنية، قد تكتسي طابع الاستعجال بالنظر إلى حجم ومستوى الانزياحات النصية والركحية، والومضات الارتجالية للمشخصين. إنه المزج بين الأمس واليوم الذي يفرض نفسه فرضا جدليا ليجعل المتلقي أمام الإشكالية المجتمعية العبثية التالية: ألسنا نعيش نفس الحالات الاجتماعية حتى الآن؟! أليست هذه الشخوص أمامنا ذواتنا؟! أهو الماضي يعيد نفسه؟! أهو الحاضر الغائب؟ أم هو قطار التاريخ الذي توقف عندنا وقوفا اضطراريا بينما استأنفت قطارات الآخرين سيرها إلى غاياتها؟!... متتاليات من التساؤلات تلك التي تستفز مشاهد «صندوق الرمى» المغربي، تماما كما استفزته من قبل «حكاية بوجمعة الفروج»(4) وصويحباتها؛ وكما استفزت المشاهد العربي عموما «البحث عن رجل يحمل عينين فقط»(5) و»عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية»(6) وأخواتهما. على خطى «خربوشة» يشكل فن «العيطة» ومآل المشتغلين به من «شيوخ» و»شيخات» الفضاء العام للمسرحية، وهي القضية المعززة بأعمال مسرحية انتظمت في نفس المضمون كمسرحية «العيطة عليك» لمحمد بهجاجي عن شخصية «بوشعيب البيضاوي» بتشخيص متألق لثريا جبران، ومسرحية «خربوشة» لسالم كويندي. مع تشرب مقاربة المسكيني الصغير للموضوع إلى حد الارتواء بالطابع «النضالي/ الاحتجاجي» الذي تصطبغ به جل أعماله الإبداعية - إن لم تكن كلها- ليس في المسرح فحسب، بل في الشعر(7)، والزجل أيضا(8). فشخوص المسرحية الثلاثة أهل عيطة مهنيا (9)، وضحايا إهمال و»احتقار/ حكرة» مجتمعيا؛ ومن ثم كانت حوارياتهم ومونولوجاتهم ومحكياتهم وتعابير وجوههم وأجسادهم بوحا يمتزج بمرارة نكران الفضل والاعتراف، خصوصا من لدن الجهات الرسمية التي وردت صراحة في أحد المشاهد الساخنة بنعت «المخزن»(10) هي إذن «وقفات احتجاجية» و»صرخات» بطلها الفنان الشعبي، ذكرا كان أو أنثى، مطربا أو راقصا أو عازفا، ذاك الذي سلبه «المخزن» لعقود طوال حق الرفض، وطوعه تطويعا تاما لخدمة «أجندته» الترويجية من خلال «لحفايل» و»لقصاير»... صرخات «العسري» و»فطومة» و»بوجمعة» هي نفس صرخات «الشيخة خربوشة / منانة»، وطوابير من «الشيخات» و»الشيوخ» الذين تجرعوا مرارة التطويع من ذوي القربى قبل «التطويع/ الضربة القاضية» للمستعمر الفرنسي الذي وسم نهائيا جانبية (Profil) «الشيخة» ب «البورديل» والجنس والخمر، وجانبية «الشيخ» بالخمر و لكيف والرعونة الناجمة عن ملازمة «الشيخات» المستهترات... صرخات الشخوص الثلاثة هي أيضا نفس صرخات «بوجمعة الفروج» وأمثاله من «لحلايقية»... ومن امتدادات النص - أخيرا وليس آخرا- أن صرخات شخوصه الثلاثة هي نفس صرخات المسكيني الصغير»النقابي» وهو ينتفض في المنتديات رافضا مآل المسرح وبناياته والوضعية المزرية لممتهنيه، ورافضا بالتالي مآل وهشاشة أهل الفن والفنانين، والثقافة والمثقفين؛ وليس عبثا أن تكون آخر قصائد الزجل عنده بعنوان «شوفو على حكرة»!... رمزية الصندوق بين الماضي والراهن المجتمعي تتجلى «الحكرة» نصيا وركحيا في «صندوق الرمى» بكامل وقعها وحدتها في القيمة المعنوية للصندوق التي تدحرجت عبر أحداث المسرحية من قمة كانت تلامس «القدسية»، إلى حضيض سمته التجرؤ على فتحه، بعد أن تم التجرؤ الأشد عند «إفراغه / نهبه»... والمفارقة هنا أن من كانوا «يقدسون» الصندوق هم الذين «اضطروا» ولا شك لفتحه أخيرا، مكرهين، عل ثمن محتوياته الزهيد يسد رمق العيش بعد توقف «الرباعة»(11) عن العمل بسبب التشنجات المتتالية لأصابع «الكوامانجي» عند العزف، وعزوفه بالتالي عن الإصرار على أمر صار «عسيرا على العسري»!... لا يمكن أن يختزن صندوق «رباعة» متواضعة المدخول مثل هذه إلا معداتها و لوازمها «المهنية»، لكن تلك المعدات واللوازم - في الأنا الجمعي المغربي- تتجاوز بكثير قيمتها العينية، ولذلك تم حفظها في صندوق، تماما كما كانت صناديق المغاربة الأثرية تختزن كل نفيس يصعب تصديق إمكانية التفريط فيه لأي سبب من الأسباب، ك «رسوم لبلاد»، وحلي الجدات، ومخطوطات العلماء... أما والتجرؤ على فتح «الصندوق / الهوية» قد حصل، وفق الظروف سالفة الذكر، فلا ضيم أن تنهب بعده الصناديق «العصرية» ذات الشخصية المعنوية بلغة العصر- أو يساء تدبيرها في الأدنى- كما هو الشأن في صناديق التقاعد على سبيل المثال، لكن ليس بأيدي «مطعميه/ منخرطيه» بل من الساهرين عليه! وهو الأمر الذي تشكل انزياحيا في العرض كوجه نقيض للمفارقة: الوجه الآني... والتركيب أن الصندوق في «صندوق الرمى» صناديق... قديمة وجديدة، أثرية وعصرية، خاوية أو قابلة لإفراغ المحتويات حسب الزمان والمكان طبعا، لكن بتدخل المتلقي وجوبا. عتبات الإخراج تعتبر مسرحية «صندوق الرمى» أول عمل مشترك بين الكاتب المسكيني الصغير والمخرج فريد لمكدر يستهدف المتلقي الراشد، بعد أعمال للمسكيني قدمها لمكدر في إطار المسرح المدرسي لفئات الأطفال واليافعين كإنجاز سينوغرافيا مسرحية «الطبل» لإحدى المؤسسات التعليمية ببرشيد، والإعداد الدراماتورجي والإخراج في مسرحية «خواتم الحظ» مع إحدى المدارس بوارزازات حيث قدمت باللغة الأمازيغية، وإخراج مسرحية «بيضة الحكمة» لفائدة إحدى مدارس نيابة عين السبع الحي المحمدي بالدارالبيضاء (12)، وإخراج مسرحية «رجل اسمه الحلاج» لفائدة إعدادية المتنبي بنفس النيابة (13). ولعل صداقة الرجلين، وما يجمعهما من صلات، لعبت دورا هاما في هذا اللقاء الإبداعي، من مثيل انتمائهما إلى الحي المحمدي، وانخراطهما معا في أنشطة ثقافية وجمعوية مشتركة منذ مدة ليست باليسيرة؛ وبالتالي كان من اليسير إنجاز هذا العرض رغم إكراهات عدة من صنف افتقاد قاعة للتمرين، وصرف مستحقات التنقل والتداريب للممثلين، والتزامات المخرج المهنية. ويبقى الإكراه الأكبر ما عاناه الرجلان معا على مستوى الكاستينغ، إذ كان من الصعب عثورهما على ممثلين يجمعون بين التشخيص والعزف والغناء، كما الشأن عند عبد الحق تيكروين في مسرحية «أو سويفان» لفرقة «اللواء»، أو عند مصطفى الخياري في أحد مشاهد «حسي مسي» لفرقة الحي، أو عند حسن الفد في أحد عروضه من صنف ال «وان مان شو»(14)؛ مما جعل المخرج يكتفي مكرها بحل يلتجئ فيه إلى تقنية ال «بلاي باك»، والأكيد أن العزف والغناء المباشر كان سيعطي للعرض قيمة فنية مضافة كبرى. وباستثناء هذا الإكراه ذي الطابع التقني فإن المخرج كان أمينا في تمثل الجانبية الشعبية في شخصية الكاتب، الشيء الذي أطر اختيارات فريد لمكدر على مستوى تأثيث الفضاء، كما سيأتي تبيان ذلك فيما بعد. عن المنظور السينوغرافي آثر المخرج الفرش الواقعي للمرئي السينوغرافي المقترح على المتلقي، من ديكور وملحقات وملابس، بخلاف منظور مخالف تماما في سينوغرافيا «حكاية بوجمعة الفروج» التي ارتكزت على دعائم تجريدية متعددة الاستعمالات (Pratiquables Polyvalentes): مفكك ودرجين اثنين وخلفية أقنعة ومجسم مضخم لأكسسوار (مقص)، والحال أن تيمة المسرحيتين واحدة كما سلف. فلماذا لم يركب المخرج موجة التجريب السينوغرافي؟ تشفع معرفتي للرجل واطلاعي على قدر غير يسير من مساره الإبداعي أن ألتمس الجواب من خلال المقاربات الخمس التالية: المقام عند المخرج مقام تعرية واقع مر لا مقام بحث وتجريب وجماليات، واقع عاينه فنانا غنائيا شعبيا مع مجموعته «الغيوانية» الأم: «أهل الخلود»، وعاينه فنانا مسرحيا مع الفرقة الشهيرة «مسرح الحي» ممثلا وتقنيا وإداريا، وعاينه فنانا سينمائيا خلال مدة شغله مهام مهنية بوارزازات. إن التجربة المسرحية لفريد لمكدر التي خاضها مع «مسرح الحي» - وهي التي تعنينا بالأساس- صادفت إنتاج الفرقة لأشهر أعمالها: «حسي مسي» و»شرح ملح» و»حب و تبن» و»عين باين»، وهي الأعمال التي تميزت كلها بواقعية السينوغرافيا ومجسمات الديكور، ومن ثم كان الاشتغال على نفس الاختيار فرصة سانحة لتحيين التراكمات التقنية في هذا النوع من التأثيث. استهداف فريد لمكدر للجمهور العريض الواسع (الذي استوعبته أعمال «مسرح الحي» سالفة الذكر) لا النخبة فحسب. لم يكن من السهل التغاضي عن غنى الفضاء المعجمي للنص الأصلي الزاخر بالمصطلحات الشعبيه المتجذرة في البادية المغربية، ومدلولاتها الحسية والمعنوية، سيما وأن فريد لمكدر «الزجال» يتقاسم مع صاحب النص الانجذاب الطوعي للمصطلح المغربي الشعبي البدوي التليد (15)، وقد عكس المرئي (Visuel) هذا الغنى على مستوى اللباس، والملحقات على الخصوص. كان الرهان جذب المتلقي إلى التركيز على المحكي، وتذوق «لكلام» الصادر على ألسنة الممثلين من كاتب ومخرج زجالين بالفطرة، أما بساطة التأثيث - على وفرة مكوناته - فلا تعدو أن تخدم الإلقاء في الدرجة الأولى، ولم تكن هدفا بالتأكيد. تركيب لابد منه إن الساحة المسرحية المغربية في أمس الحاجة إلى المزيد من الثنائيات (Binômes) في الكتابة الدرامية والإخراج كثنائية المسكيني الصغير وفريد لمكدر، والآفاق واسعة لتجديد المسيرة بإبداعات تشاركية لفعاليات مسرحية متعددة المنابع والتجارب والرؤى، ففي التعدد كل الغنى. هوامش: (1) يحمل الإصدار نفس عناوين المسرحيات الخمس، مطبعة التيسير، 2014. (2) بيان تطوان 1980 نموذجا. (3) لعبد القادر عبابو دراسة تنظيرية مهمة عن الإخراج الجدلي (دراسة خطية، بنفس العنوان). (4) صدر النص سنة 2000، وقدمت عروض المسرحية فرقة مسرح الورشة في سينوغرافيا وإخراج للمسكيني الصغير، منها عرض تلفزيوني أنجزت توثيقه القناة الثانية المغربية (2m). (5) صدرت سنة 1996، مع وجود طبعة أولى سنة 1993 عن منشورات «مركز المسرح الثالث للأبحاث و الدراسات الدرامية»، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء. (6) صدرت سنة 2000 عن منشورات «مركز المسرح الثالث للأبحاث و الدراسات الدرامية»، الطبعة الأولى، مطبعة «إيناكيب»، الدارالبيضاء؛ وتتضمن نفس الطبعة مسرحية «محمية لأموات نادرة». من أنجح عروض «عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية» ذاك الذي أخرجه عبد القادر عبابو وتم تقديمه في إحدى دورات المهرجان الدولي المسرح الجامعي للدار البيضاء (FITUC). (7) للكاتب ديوان شعر بعنوان «مات خطأ». (8) صدرت للكاتب ثلاثة دواوين زجلية: - «حكاية زوج بلاغي»، منشورات «مركز المسرح الثالث للأبحاث والدراسات الدرامية»، الطبعة الأولى: 2003، تصور وإخراج وسحب: «ديماكراف»، الدارالبيضاء. - «الفاهم يفهم»، الطبعة الأولى: 2005، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء. - «العزلة»، 2012، مطبعة «ليمورية»، الدارالبيضاء. (9) الشيخ العسري: عازف على «الكمان/ الكمنجة/ الجرة»، الشيخة فطومة: «مطربة شعبية/ راقصة»، الشيخ بوجمعة: عازف على «الطعريجة» (طعارجي)». (10) يفسر عامل هيمنة البوح المحكي والمشخص تعدد محطات الإلقاء بالمواجهة الكاملة تجاه الجمهور، وتعدد محطات التشخيص داخل التشخيص. (11) الاسم المتعارف عليه عند المغاربة للمجموعة المتكونة من «الشيخ» (العازف على آلة الكمان) و»الشيخات» (المغنيات/الراقصات) و»الطعارجي» (العازف على آلة الإيقاع: «الطعريجة»)، وقد تضم «الرباعة» عازفا على «المقص». (12) نصوص المسرحيات الثلاث منشورة في المجموعات التالية: «ست مسرحيات للطفل»، «مدينة العصافير»، «محاكمة حطاب». (13) صدرت سنة 1996. (14) العزف على آلة «الكنبري» (أصغر حجما من «لوتار»)، و»السويسي» (أصغر من «الكنبري»، يستعمل بكثرة في فن الملحون، والطقطوقة الجبلية). (15) لفريد لمكدر ديوان زجلي معد للنشر، عنوانه «اجمع حروفك»، أطلعني مشكورا على محتوياته.