إن موضوع السينوغرافيا الذي يدخل فيه ما هو منهجي بما هو فني أمر في غاية التعقيد من حيث التعامل، فلا يكفي الوعي بعنصر واحد من عناصر السينوغرافيا من أجل إنجاحها، وإنما يحتاج الأمر إلى الإلمام بكل العناصر التي تدخل في تأطير وتكوين الرؤية المشهدية المطلوبة. جانب من فعاليات المهرجان الوطني للمسرح الحساني هذه الرؤية ليست منعزلة، بطبيعة الحال، عن باقي المقومات المسرحية المختلفة، من نص وديكور وإخراج ودراماتورجيا ومؤثرات صوتية...، بل متداخلة معها بشكل آلي عميق وجوهري، ولذلك يصعب عزلها عن بقية المقومات ومناقشتها وتحليلها بشكل منفصل، وأي نقاش حول سينوغرافيا عرض مسرحي معين بشكل مستقل عن تلك المقومات يؤدي بالضرورة إلى وجود أخطاء منهجية في عملية التحليل ونقده بكيفية تراعي عمليته البنائية. تعد السنوغرافيا «فن تنسيق الفضاء، والتحكم في شكله بعرض تحقيق أهداف العرض المسرحي (...) والذي يشكل إطاره الذي تجري فيه الأحداث»، وهذا تعريف شامل لايدع فرصة لأن ينفرد واحد من عناصر العرض بالمعنى، وإنما كل ما يحقق الصورة المسرحية بكاملها أمام النظارة، وبعكسه ستصبح السينوغرافيا غير مكتملة بغياب عنصر من عناصره. وبناء عليه، تكون السينوغرافيا بمثابة «الفن الذي يرسم التصورات من أجل إضفاء معنى على الفضاء...» وإضفاء المعنى في إيصال الأفكار لن يستغني عن عنصر من العناصر التي تحقق تنسيق وتشكيل الفضاء إلا واستخدمها. وبالتالي تكون من أهم أعمال المخرج لتحضير العرض المسرحي ومن أجل الوصول إلى التكامل في الرؤية الفنية للعرض. كانت كلمة «السينوغرافيا» (Sténographique) في البداية مصطلحا يونانيا، يدل على «كل ما يتعلق بالرسوم المتواجدة على خشبة المسرح»، إلا أن الظن السائد بقوة يكمن في كون هذا المصطلح لم يكن يقتصر على المناظر فقط، وإنما تجاوزه إلى حركة هذه المناظر وارتباطها ببقية مكونات العرض المسرحي بالكامل، ابتداء من المضمون وما ينتج عنه من حركات الممثل، ومتطلبات تشكيل وتنسيق فضاء العرض، والذي ينطبق على سينوغرافيا المسرح ينطبق على غيره من سينوغرافيات الفضاءات الأخرى التي تشترك مع سابقتها في الأصل، حيث ولدت من رحم واحد وهو فن الزخرفة، والتي اشتقت من اللفظة اليونانية Skenegraphein، والتي تدل على تزيين واجهة المسرح Skein بألوان مرسومة حينما كان المسرح «خيمة أو كوخا من الخشب، ثم مبنى». وهذا أمر مقبول لسبب مقنع يتمثل في كون التقنيات الحديثة المعروفة الآن لم تكن معروفة في القديم، وإنما تطورت لتصل إلى ما يعرف اليوم ب (فن الديكور)، ليطبعه التطور ذاته ويصل إلى فنون (السينوغرافيا) بمفهومها الحالي المعروف ب «فن تنسيق الفضاء» حسب معماريي عصر النهضة الذين أطلقوا عليه «فن المنظورات». إن السينوغرافيا فن مركب يعتمد التعددية في المعنى، فهو جامع لكل الفنون وهو أحد تعريفات المسرح الذي يطلق عليه أبو الفنون، وهو اسم جاء نتيجة لا مناص منها لجمع شمل مختلف الفنون في تشكيلة واحدة على هيأة وحدة فنية وأسلوبية نطلق عليها اسم (العرض المسرحي) بقيادة السينوغراف أو المخرج الذي يعد القائد والمفكر والمنظم لكل عناصر العملية في انسجام وتناغم وتنسيق الفضاء، والذي لا يمكن أن يستغني عن مجهودات المحرك لكامل قطع السينوغرافيا (الممثل). تتكون السينوغرافيا من عناصر مختلفة، كالديكور والإضاءة والملابس، فهي تحتاج إلى تداخل وتكامل في العمل بين المخرج ومصمم هذه العناصر، وإلى حوار حول الرؤية التي سيتخذها العمل المسرحي، وما ينتظر من التأثير الدرامي في المتلقي، وكل العلامات السيميائية التي يجب أن تشكل مؤشرات لفك رموز وشفرات العمل المسرحي، والوصول إلى فضاء الدلالات. فكل هذا يجعل من التصور السينوغرافي صعبا ومعقدا، حيث يمكن الحديث هنا عن مقومات ملموسة، فتغير تموضع عنصر ما بآخر يقود إلى تأثير مختلف وتنحي عما تم رصده أثناء وضع التصور والرؤية السينوغرافية البدئية، كما أن هذه العناصر والمقومات ليست أحادية الوظيفة، وإنما هي مركبة ومتداخلة فيما بينها. فحينما نتحدث عن وضع إضائي معين فإننا لا نكون قد انهينا الحديث عن الضوء الذي سيمرر إلى منطقة ما من الخشبة، وإنما يتطلب ذلك تحديدات أخرى، مثل لون الضوء وحجم البقعة الضوئية، وحتى هذه التحديدات تبقى نسبية (فما الدرجة التي نحتاجها من اللون؟)، وما يقال عن الضوء ينطبق على المقومات والعناصر الأخرى. وهكذا فإن السينوغراف ذاته، وكذلك المخرج أمام خيارات عدج، وهي خيارات يتم الحسم فيها من لدن المخرج، وذلك تماشيا مع الرؤية الفنية التي يجب عليه أن يكون واعيا بمختلف أبعادها وحيثياتها. أما في المسرح الحساني، فثمة العديد من الأمثلة لعروض مسرحية كانت فيها الرؤية الفنية بشكل عام والسينوغرافيا بشكل أخص بمثابة العنصر المساعد في العرض، حيث كانت أحد الآليات الرئيسية لفهم دلالات العرض، وأحد مقومات خلق التأثير الممتح من الرؤية الفنية للإخراج والمتماثلة مع طبيعة النص، ومن تلك العروض نذكر العرض المسرحي «ديكة أعل كبة»، تأليف الدكتور رشيد أطرحوت، إخراج حسن بن بديدا، سينوغرافيا حميد لحلو، والدراماتورجيا لعلي مسدور، وكان العرض من أداء كل من: سيدي أحمد شكاف في دور «السرخينتو أحمد» وعبد القادر الكنتي في دور «تحجلب» (دور نسائى) ومحمد الأنصاري في دور «المعلم سعيد». وقبل الخوض في سينوغرافي عرض «ديكة أعل كبة» لابد من تنويه، وهو أن العرض امتلك مستويات متعددة من رؤى السرد والأداء، واختلاف الجذور الاجتماعية والأبعاد النفسية للشخصيات، كما يفيدنا هذا التنويه للوقوف عند دلالات العرض. لقد اعتمد حسن بن بديدا بشكل رئيسي على خلق مرآة وهمية في عمق العرض تقدم مجموعة من الدلالات، ومن أهمها تعدد الرموز والرؤى في العرض المسرحي. كما اعتمد حميد لحلو القائم بمهمة السينوغراف في العرض على تصميم الخشبة وزخرفتها بعدة قطع مادية تميل إلى الاتجاه الواقعي، وهذا ما ساعد على إتمام عنصر التواصل وبناء أفق انتظار التلقي. فقد وضع صندوق كبير للقمامة (بركاصة) في وسط الخشبة، وبجانبه عمود إنارة. كما استخدم هذا الصندوق لخروج الممثل الكنتي عبد القادر، وقد تحول هذا الصندوق إلى طاولة للجلوس، بالإضافة إلى دوره المعروف كمكان للقمامة، والذي سرعان ما يتحول إلى مسكن للشخصيات الثلاثة التي تمثل الفئات الاجتماعية المهمشة، وهكذا اتجهت الرؤية الإخراجية والسينوغرافية إلى إيجاد مسرح داخل المسرح. اعتمد الدكتور اطرحوت رشيد مؤلف المسرحية على التعددية في بنية الزمن، وذلك بالانتقال من الحاضر إلى الماضي، ثم استشراف المستقبل، والانتقال من الواقعية المادية إلى الواقعية الرمزية، ولم يكن هذا ممكنا من دون وعي دقيق بما تنتجه له عناصر السينوغرافيا من إمكانيات، فهذه الأخيرة أضحت الأرضية الفنية والعملية للدكتور أطرحوت قصد التمكن من ذلك الانتقال بسلاسة ومن دون تكلف. لقد قدم عرض «ديكة أعل كبة» الصراع الموجود داخل الإنسان المغربي، وذلك عبر استحضار التناقض الموجود بين مكونات الهوية (فقد كان السرخينتو أحمد ضابط صف في الجيش الإسباني يعيش وضعية اجتماعية ومالية جيدة، ثم التحق بصفوف الجيش الوطني بعد الاستقلال...، وبعد إحالته على التقاعد تأزمت أوضاعه الاجتماعية والمالية والنفسية جراء الإهمال والتهميش، مما أدى به إلى اللجوء لصندوق القمامة ليتخذه مأوى ومصدرا للعيش. وهذا صراع لطالما تم التطرق إليه في غير عرض مسرحي. لكننا حين نتحدث عن وظيفة السينوغرافيا فإننا سنتحدث بالضرورة عن أمر لا يتعلق بمضمون العرض ومعانيه فقط، وإنما بقدرة العناصر والقطع السينوغرافية على فتح فضاء العرض على إمكانات متعددة في الرؤية وفي إثارة شحنات درامية وفنية عالية يكون بمقدورها خلق تأثيرات مختلفة في عملية التلقي من تأثير جمالي وفكري، وإثارة الأسئلة حول مختلف أبعاد العرض. لقد فتحت الاستعمالات المتعددة لصندوق القمامة، بالإضافة إلى توظيف مجموعة من القطع السينوغرافية التراثية الممتحة من الثقافة الحسانية، كالملابس والحلي...، علاوة عن استثمار ما جرت به العادة والتقاليد والظواهر الاجتماعية آفاقا للإيهام الذي يتسم به الفعل المسرحي في كل الثقافات. لذلك كانت العناصر السينوغرافية التي اعتمدها حميد لحلو متكاملة متناغمة مع ما يرمي إلىه النص والرؤية الإخراجية معا، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على المستويات المتعددة التي بناها حسن بن بديدا على فضاء الخشبة، والتي مكنت الممثلين وتحديدا الرواة (الشخصيات الثلاث) من الانتقال من مستوى إلى آخر، وكأني به ينتقل من مستوى دلالي إلى آخر. فمرة يصبح جزءا لا يتجزأ من الحكاية نفسها، وأحيانا ينفصل عنها، وينتقل إلى الماضي ثم إلى المستقبل في أحايين أخرى. إن تركيزنا على عرض «ديكة اعل كبة» هو تركيز على أحد أكثر العروض التي أدت فيها السينوغرافيا دورا هاما في ترسيخ العرض في ذات المتلقي، وفي تحويله من مجرد عرض مسرحي قدم في مهرجان، إلى عرض في تأصيل الفعل المسرحي في الثقافة الحسانية، وبالتالي المسرح المغربي الناطق بالحسانية، كما يمكن اعتباره فيصلا في تاريخ هذا الفعل الحضاري في الثقافة الحسانية المغربية، وقبل كل ذلك نقطة فاصلة في مسيرة الفاعلين المسرحيين بالأقاليم الجنوبية. *أستاذ باحث في الفنون المسرحية