قراءة في نص مسرحي يمكن لمسرحية "قصر البحر" لمؤلفها الكاتب المسرحي المغربي محمد زيطان، الانتماء إلى الميلودراما الريفية، التي تتطرق إلى المدينة، وإلى موضوعات مثل الاستبداد، الخضوع، الثورة، والاستلاب الذي تنخفض حدته من خلال روح الفتاة "زهرة" المتمردة على مجموعة من القيم والتقاليد الاجتماعية التي أسسها لها الرجل وبنتها أمهات فقدن أنوثتهن، ويناعة قلوبهن، ومحبتهن وحنانهن لبناتهن بسبب محطة مظلمة من تاريخ حياتهن. تجمع المسرحية مجموعة من الشخصيات في موضوع يبدو أنه قديم ولكنه معاصر، رغم حديثه عن فترة ما قبل وما بعد الاستقلال بسنوات قليلة. فهي ترتبط من ناحية، في صورة ريفية تكاد أن تكون مصغرة، ولكنها تتناول مواضيع إنسانية كبيرة، لاسيما أن القيد الأسري الذي تعالجه، وعملية البيع والشراء والمقايضة التي تتعرض لها "زهرة"، تقدم عالما عقيما، بطريقة رمزية، لازال معمول به في المجتمعات العربية المدنية وليس الريفية فقط، عالم غير إنساني على نحو متزايد، حيث تتواجه فيه استراتيجيات البقاء المختلفة، مع حكم سلطوي يتمثل في شخصية الأم المستبدة، المدبرة تقريبا، لكل ما يحدث من مصائب لابنتها، وكل هذا لأنها ابنة رجل قد أجبرت على الزواج منه عنوة، وبسببه فقدت أثر حبيب تعبده. في نص "قصر البحر" هناك شخصيات استثنائية، مرة تكون محببة: شخصية زهرة، والأعرج، الذي خاض الحرب وذاق لذة الانتصار، ولازال يحمل نياشين الرصاص فوق جسده، وشخصية الغريب الذي لا نكاد نسمعه ولا نراه إلا قليلا، ولكن أكثر الكلام والمخاوف يدوران حوله تقريبا، وابن الأعرج. وهناك شخصيات أخرى مثيرة للقلق: جلول، اللص والزوج الثاني للأم، وقاتل الزوج الأول، زنديق يحب الخمر والنقود وقادر على الإتيان بأي فعل من أجلهما، شخصية الصافي، يملك نصف القرية، إنسان جشع، متزوج من ثلاثة نساء، ويطمع في اغتصاب "زهرة" باسم الزواج الرابع، مثلما اغتصب كلار الصبية ابنة البحار الإسباني الذي كان يشتغل عنده، وكذلك شخصية الأم، التي تريد التخلص من أعباء الماضي وتلتحق بمستقبل ينحصر في العثور على "الكناوي"، الذي نسمع به ولا نراه إلا من خلال سؤالها المستمر عنه، لهذا ارتكبت من أجله الكثير من الأخطاء. يحتوي نص "قصر البحر" على كائنات بشرية ماكرة، ومحاصرة في حياتها من الحياة نفسها، محاصرة من الماضي الذي عاشت به، محاصرة من قبل ما ارتكبت من أهوال وأعمال غير إنسانية، من تاريخها الذي لا يريد أن يغادرها، من الطمع والجشع الذي لا يعرف حدودا، ومن أحقادها الدفينة. وبين كل هذا الحطام الاجتماعي والخراب البشري هناك الفتاة "زهرة" اليانعة، زهرة الربيع والحلم التي ترفض الأخلاق المزدوجة، والتي تؤكد على رغباتها واختلافها وبالتالي حاجتها إلى الحرية، التي تدافع من خلالها عن نفسها بهدوء. بلا شك أن النص لا يخلو من اللمسات الشعرية الرصينة، التي جعلتنا نتساءل من خلالها عن جوهر الحرية الفردية، والحرية في مفهومها المطلق، والثمن الذي علينا أن ندفعه من أجلها؛ جعلتنا نستمع إلى آلام الروح، والصراخ المحبوس، ونشم غبار التقاليد والأعراف الاجتماعية المعتدة بنفسها، وسلطة الرجل ووقاحته، وكركرات الضحك الأصفر، والغيرة وحب الامتلاك، وغطرسة المرأة وقسوتها، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، وكذلك الشعر والنثر بكل جمالهما: زهرة: حينما تطير الفراشة مع الرياح اعلموا أنها سترقص... كنت أنظر إلى السماء. أحلم بقصر البحر .. قصر كبير له نوافذ عديدة مشرعة على البحر الأزرق... وهناك في الأفق لا شيء يبدو سوى المجهول.. و الانتظار (المشهد السادس ). إن مسرحية "قصر البحر"، بحث عن الحرية، التي تأخذ في هذا العمل أشكال ومواضع عدة. جميع شخصياتها تقريبا تكاد تكون في بحث دائم عن مخرج يخلصها من سجونها الذاتية، وسجون التقاليد الاجتماعية، والسلطة السياسية، وسلطة المستعمر التي ظلت تطاردهم رغم انتهاء عهده. لاسيما أن ما وقع في الماضي لازال جاثما على الصدر، ويحرك خيوط اللعبة في حاضرهم المضطرب. وليس أمامهم إمكانية الهرب منه. إذن نحن مدعوون في هذه الدراماتورجية المعاصرة، لحضور وقراءة عالم سجونه بلا قضبان. زهرة: الجرة فارغة... سأخرج إلى النبع. الأم: لا... زهرة: هذا السجن يقتلني. أريد أن أتنفس... الأم: لا... زهرة: لماذا؟ الأم: تلك النار المتقدة في أحشائك.. يجب أن تخمد. (المشهد الأول) إن نظرة الفتاة زهرة، نحو "الباب"، الذي لم يذكره المؤلف في جملته الأولى، وإنما أشار لأهميته ضمنيا من خلال مطالبتها ولهفتها للخروج، وقد استخدمه منذ الوهلة الأولى، كدلالة لحالة السجن التي تعيشها زهرة. فالباب الذي لم يذكر بشكل مادي، يمثل لها الحاجز الذي يمنعها عن العالم الخارجي، فهو يقف حائلا ما بينها والهواء الذي تتنفسه، ويمنعها من رؤية "الغريب" الذي يعني لها الحرية والحب في آن واحد، اللذين حرمت منهما، حبها للرجل الأب المتعلم الذي مات وهي في عمر الخمسة أشهر، ولم يبق منه إلا كومة كتب، والحب الذي يجب أن تعيشه كل الصبايا في عمرها؛ الرغبة في إنقاذ نفسها من أم تكرهها، لأنها لا ترى فيها سوى ظل حي لزوج أرغمها أبوها على الاقتران به بدلا من "الكناوي"؛ التخلص من قسوة زوج أمها "جلول"، ذلك الفزاعة التي تهددها به أمها في كل مرة الأم: إن سمعك جلول تتحدثين بهذه الطريقة سيربطك ويمنع عنك الطعام. زهرة: بأي حق يفعل ذلك... إنه مجرد لص شرير... سأقتل... سأقتله). (المشهد الأول).. إنها تريد التخلص من القرية وأهلها الذين لا يرون فيها إلا وليمة طازجة للالتهام، والمقايضة والربح. وهذا ما يكشف عنه المشهد الثاني، حيث تطل علينا شخصيتا "جلول" و"الصافي"، بعد أن تنضم إليهما الأم، وهم يتباحثون في أمر زواج "زهرة" من "ابن الأعرج"، ويعبرون فيه عن مخاوفهم من الغريب الذي لا يعرفون عنه أي شيء سوى أنه يرسم وفي حماية شيخ القرية. وبعد أن تخرج الأم يطلب الصافي يد "زهرة" من "جلول"، الذي يسخر من طلبه في البدء، لكن "الصافي" يلح بالطلب، لغاية تهديد "جلول"، الذي قد سرق حصان الشيخ في ليلة عاصفة، وباعه بألف درهم وبضع قناني خمر ل "لحمان" شيخ قرية الصفصاف، (الصافي: فكر فيما ستؤول إليه أمورك إن وصل هذا الخبر لشيخ القرية. سيسلخ فروة رأسك (...) سأتزوج زهرة فتضمن صمتي إلى الأبد). (المشهد الثاني). وهنا تدلهم الحياة في وجه "جلول"، ويحير في أمره، وهو الذي قد وعد الأعرج بتزويج "زهرة" إلى ابنه، ولكن الرجال من أمثاله لا يولون أهمية كبيرة لوعودهم، وقادرون على التنكر لها بسهولة، خاصة عندما تتضارب مع مصالحهم. ولكنه عندما يفاتح "الأم" بالأمر، يصطدم برفضها، لا حبا بابنتها وإنما رغبة منها في الابتعاد عنها، فهي تفضل نفيها إلى المدينة وبلا رجعة. وهنا تبدأ الحبكة الدرامية تكشف الغطاء عن عقدها غير المرئية، وتتلاحق فيها الأحداث ويسبق الفعل الكلام، مثل بحر يسبق زبده الأبيض موجاته الهادئة كذبا، وهكذا تصطدم الشخصيات ببعضها، بطريقة سريعة ومباغتة، ف "الأعرج" يتوعد "الصافي بالقتل، لأن (القرية لا تتسع لكليهما، وواحد منهما يجب أن يرحل)، و"الغريب" يمسك يد "زهرة" ويحاول تقبيلها، و"الام" تسأل "جلول" فيما إذا كان زوجها الأول قد تألم عندما قام بقتله؟، و"جلول"، يطلب ثمن البيت وسبعة فدادين، ثمن أتعابه في تنفيذ أوامرها، كي يرحل عن القرية مرة وإلى الأبد، وعندما ترفض الأم، يهددها بأنها سيخبر ابنتها كيف مات أبوها ومن ثم يخبر الجميع: الأم: تهددني إذن. جلول: اعتبريه غزلا يا عزيزتي ... (المشهد السادس) عند هذه الكلمات ينتهي المشهد السادس، الذي تحاول فيه الشخصيات إعادة بناء علاقاتها التي تطفح منها الكراهية، والانتقام، والخداع. يحاول كل على حدة أن يخلق آليات خلاصه: ف "الصافي" يريد أن يقضي على "الأعرج وابنه والغريب" كي يخلو له الجو في امتلاك "زهرة"، و"جلول"، يحث الخطى للهرب، مما يضطره إلى لعب آخر كارت تبقى له: مطالبته بثمن الجريمة التي ارتكبها بوصاية من "الأم"، فهو لم يعد يثق بها: "لست أدري أي فعل قد تقدمين عليه بعد زواج ابنتك... من يعلم قد تبيعين كل شيء وترحلين باحثة عن رجل معتوه ظل طريقه بين الأحراش والبراري، فأظل وحيدا متسكعا.."، (المشهد السادس). وعندما تذهب شخصيات المشهد السابع، ووفقا للاتفاق الذي أبرم بين "الأم" و"جلول" أثناء المشهد وعلى انفراد، تقوم "الأم" بغواية "جلول"، ثم تسقيه السم في كأس نبيذ، على أمل أن تلتحق به بعد وضع العطر الذي يحبه، "جلول" يدلق الخمر في جوفه دفعة واحدة، وعندما يحاول النهوض يسقط على الأرض جثة هامدة. تدخل الأم لكي تقول: "إلى الجحيم... كان ينبغي أن أفعل هذا منذ زمن.. (...) قصر البحر.. أنا أيضا أحلم به.. سأحرق كل تلك الكتب الباردة المكدسة في القبو.. وسأطير عبر الحقول والمروج الخضراء... الآن.. والآن فقط أحسني قريبة منك يا قصر البحر.."، ولكن الشخصيات السيئة بقدرما تحلم كثيرا وتخطط لأفعالها أحيانا بعجالة خالية من رجاحة العقل، بقدرما يخيب ظنها بسرعة فائقة، خاصة عندما تحس أنها قد انتصرت لنفسها من الآخرين، ولم يبق أمامها أي عائق. ف "الأم" التي كانت تشعر بالانتصار منذ لحظات وستطير من الفرح، سرعان ما تتبدد آمالها وتتحول إلى حزن ويأس وقنوط، عندما تسمع من ابن الأعرج الذي جاء يسأل عن "زهرة" التي هربت مع الغريب، بأن "الكناوي" قد قتل في السجن من قبل أحد الرعاع، عندئذ تنهار باكية وهي تندب حظها العاثر، وتتناول كأس النبيذ المسموم وهي تقول: "جرعة من هذا الكأس وينتهي كل شيء.. إن صدري لن يتحمل... كل النجوم التي كانت تضيء انطفأت.. زلزلت الأرض زلزالها وتهدم قصر البحر.. إلى أبد الآبدين"، تشرب من الكأس ثم تسقط أرضا. وهنا نشعر بأن المؤلف، قد زار في هذه النهاية الفاجعة رائعة شكسبير"روميو وجوليت"، واستمد منها متانة الحب وشاعريته وتضحيته. وبهذه الطريقة تقدم لنا "قصر البحر" نهايتين: الأولى حزينة وتكمن في انتحار "الأم" مثلما انتحرت جوليت حسرة على روميو، والثانية، هروب "زهرة" مع "الغريب"، وانتصارها للحب وللحرية، مثلما فعلت "الخطيبة" في مسرحية "عرس الدم" للوركا، عندما هربت مع ليوناردو حبيبها الأول في يوم زفافها. بلا شك أن طيف شبح الشاعر "لوركا"، كان حاضرا، ويطوف سماء المسرحية منذ البداية تقريبا، من خلال شخصية "زهرة" التي تذكرنا بعض ملامحها بشخصية "أديلا" المتمردة في مسرحية "بيت برنارد ألبا". وربما أن شعرية النص ورقته وبساطته العميقة في التعبير وغوصه في أغوار الجمال جعلتنا نفكر بلوركا، لا سيما أن النص قد صور مأساة مجتمع تمزقه النزاعات الدامية، والمآسي التي لم يكشف عنها المؤلف بشكل مباشر، وإنما جعلها تنبثق شيئا فشيئا من الأغوار الدامية للشخصيات. فالمؤلف لم يصور جريمة القتل التي وقعت، على سبيل المثال، وإنما صور ظلالها وانعكاساتها وجعل أصداءها تطوف وتعبر مناخات المسرحية وتغمر نفوس شخصياتها. وكل هذا قد صاغه بأسلوب يكاد أن يكون شعرا، ابتعد فيه من السهولة والاستلام إلى الكليشيهات، وتحرر نصه من هيمنة المناخات الرومانسية التي كان يمكن أن يسقط فيها، لا سيما أنها تتحدث عن الحب أيضا. ولكننا أمام مؤلف يعرف ماذا يفعل، وكيف يدير دفة السفينة، وكيف يغني عمله بالصور والتعابير الصادقة والقول الصريح، وكيف يشحن عواطف شخصياته بعنف الانفعال ويؤجج نفوسها، من خلال حوارات متحركة تكاد أن تكون عنيفة وجدية مستمدة من الواقع الاجتماعي الذي تنتمي إليه.