في ما مضى كنا على إيقاع الأناشيد الوطنية الحماسية نذهب إلى المستقبل واثقين من غدنا، ومن قدرتنا على اجتراح معجزة الانتصار على جميع عوامل ضعفنا وهزائمنا. لكن هزيمة واحدة في معركتنا الطويلة مع الأعداء، هي التي أعاقت قليلا صعودنا الواثق نحو غدنا المنشود. هكذا كنا نحاول أن نوهم أنفسنا المسكونة بحلم الغد العربي المشرق، مأخوذين بفتنة الأيديولوجيا وغواية الشعارات الكبيرة، التي كنا نطل من شرفاتها العالية على ذلك الغد، واثقين من النصر وبلوغ الأهداف. لكنه مع الانكشاف الفاضح لسقوط تلك المرحلة، ومعها كل الأحلام والمشاريع والأيديولوجيات، التي هيمنت عليها وصنعت بؤسنا، فإن سؤالا هاما لا بدّ من أن يطرح، يتعلق بالمسؤولية التي يتحملها المثقف في ما حدث. هذا السؤال ليست غايته إدانة المثقف عن هذا الدور فحسب، بل هو يهدف إلى استعادة دور المثقف ووظيفته، كما ينبغي لها أن تكون، وإلى تصحيح صورته في أذهاننا، بعد أن تمّ إضفاء الطابع الرسولي على دوره في المجتمع. الحديث عن مسؤولية المثقف النسبية عن هذه المآلات الكارثية للواقع، لا تعفي السياسي ونظام الاستبداد العربي عن مسؤوليتهما الأولى والأساسية عما حدث ويحدث، لكن أين تقع مسؤولية المثقف تجاه كل هذا؟ إن المثقف الذي حاول التماهي مع السياسي يتحمل مسؤولية ما حدث، خاصة وأن العمل السياسي في أغلبه كان يقوم على عاتق المثقفين، الذين ألغوا المسافة بين السياسي والثقافي. إن المثقف الذي قبل بالتنازل عن استقلاله وحريته لصالح سلطة السياسي، إما بسبب النزعة الانتهازية عند البعض، أو الحاجة إلى الدعاية والترويج الذي كانت تقوم به تلك الأحزاب، وقد هيمنت على الحياة الثقافية، لا يمكن أن نعفيه من مسؤولية ما حدث، فقد قبل أن يكون شاهد زور على ما يحدث، مكتفيا بالرشوة التي كانت تقدمها له تلك الأنظمة. لقد كان كل من السياسي والمثقف بحاجة ماسة إلى الآخر، كلاهما كان يدرك أهمية الدعاية التي يمكن أن يقوم بها أحدهما للآخر. إن هذا التواطؤ الذي حدث على مستوى العلاقة بينهما، هو الذي يجعل المثقف مسؤولا عما حدث، وما يمكن أن يحدث في المستقبل، لأن مفاعيل المرحلة السابقة وسلوكياتها مازالت قائمة، مع وجود رموز تلك الحقبة من المثقفين القابلين للمساومة على هذا الدور. أما مثقفو أحزاب اليسار المنقرضة، فإنهم مازالوا عاجزين عن الخروج من شرنقة وعيهم الزائف، ومواقفهم التي تجعلهم يقفون إلى جانب أنظمة الاستبداد والقتل، يلوكون شعارات الماضي، كما تلوكها تلك الأنظمة التي أعلنت حربها على شعوبها التي ثارت من أجل حريتها وكرامتها الإنسانية المهدورة.