الفنان الحقيقي هو من يعبر عن مواقفه في اللحظات الحرجة، وهو الناطق بضمير شعبه انطلاقا من وجدانه كمبدع يحمل أبعادا إنسانية تسعى لما فيه خير البشرية، وهو المؤثر الذي يشكل أداة التواصل بين المجتمع والجهات المسؤولة. لكن غياب تصريحات ومواقف الفنانين المغاربة في شتى مجالات الأجناس التعبيرية في هذه الفترة بالذات، وصمتهم فيما يتعلق ببعض الأحداث السياسية والاجتماعية…، شكل عدة تساؤلات جوهرية حول هذا الصمت والغياب، ليس فقط بخصوص قضايا وطنية محددة، بل حتى بخصوص قضايا قومية، لأن الدور الحقيقي للفنان هو الانخراط في المشروع الديمقراطي كفاعل اجتماعي يمكنه التأثير على الفاعل السياسي، وهو نفس الدور الذي كان يقوم به المثقف في فترة سابقة، من خلال نضاله وحرصه على طرح مواضيع تحمل معنى عميقا بتساؤلاته الظرفية، التي كانت تعمل على رصد التحولات الاجتماعية والسياسية… بإيجابياتها وسلبياتها. إذن يبقى السؤال: هل هذا راجع إلى ضعف وعي الفنان الثقافي والسياسي والاجتماعي… ونوعية تكوينه؟ أم راجع إلى جهله بالقضايا المصيرية وعدم متابعته للأحداث؟ أم هو خوف مرتبط بضرورة الحفاظ على امتيازاته المادية؟ أم هو ضرب من اللامبالاة، باعتبار أن مثل هذه القضايا عابرة لا تشكل هاجسا مباشرا بالنسبة إليه باعتباره فنانا فقط لا يهتم إلا بالشكل دون الموضوع؟. موقف الفنان بين القيم وتحديات الراهن نور الدين فاتحي تضعنا علاقة الفنان بقضايا عصره، أو ما اتفق عليه بمصطلح الموقف، موضع تساؤل واستفسار، فمن خلال وقوفنا عند محطات تاريخية كبرى، يتضح لنا أن الموقف كمجال يتغير تغير أيديولوجيات الزمن التاريخي، أحيانا يكون الفنان فاعلا، وأحيانا مناهضا، وأحيانا منبها، وطبعا هو بذلك يضع إبداعاته رهن إشارة أصحاب قرار زمانه، أو ضد أفكارهم وأطروحاتهم المتجاوزة في نظره. وعليه، قد يجد نفسه في موضع اليمين أو اليسار أو الوسط أو منساقا إلى ما اتفق عليه والمعمول به والمقبول اجتماعيا وسياسيا. يمكن تحديد مهام المبدع صاحب الموقف في ثلاث خاصيات، أولاها بناء عرف جديد، وانتقاد النظام والعرف القائم، ثم تصحيح وترميم ما خربته الأنظمة والقوانين ومعالجة نفاياتها الفكرية. وفي هذا السياق، فالمبدع مطالب بأن يكون صاحب موقف تجاه مجاله الإبداعي، أولا، والثقافي ثانيا، ثم السياسي الاجتماعي في آخر المطاف. إن القضايا التاريخية المرتبطة بالمجتمع تجد أبعادها الرمزية في الإبداع، وذلك منذ نواتها، فما عشناه في الفترة الأخيرة، جراء أحداث جريدة «شارلي إيبدو»، يضعنا أمام ضرورة مراجعة مفاهيم ومبادئ أساسية، كحرية التعبير والانتماء والالتزام بحدود حريات الآخر وحقوقه في الوجود الفكري والعقائدي. أصبحنا اليوم نعيش ردة في القيم والمبادئ، فالحقيقة أصبحت وهما، والنسخة أصبحت أصلا، والمقدس مدنسا، والشذوذ أصبح ميزة وتأشيرة لعالم الشهرة والمال والاعتراف. دعونا نتأمل وضعنا الإبداعي انطلاقا من هذه الأسئلة التي تحمل أجوبة في نفس الوقت: هل مرجعيتنا تستند إلى فكر فلسفي عربي إسلامي؟. هل لغة التشكيل عربية؟. هل فضاءات الترويج التشكيلي تعمل بحس قومي؟. هل للإبداع التشكيلي الراهن أبعاد ثقافية برهانات وطنية ودولية منسجمة مع الذات والكيان؟. من ثمة، فتحديد موقف الفنان، وفق هذه الأسئلة، قد يضع صاحبه في أماكن الظل والعتمة والنسيان. لذلك بات لزاما على الفنان، في ظل هذه المعطيات، أن يتجاوزها، وأن يحدد موقفه كمبدع لقيم نبيلة مناهضة لهذه البشاعة، التي أصبحت تغزو أبصارنا وتتسرب إلى نفوسنا، وبدون التفكير في الخروج من هذه المآزق المفتعلة بالرجوع إلى تاريخنا وتراثنا وهويتنا والتمسك بعقيدتنا، لا يمكننا إلا أن نسجل وأن نحدد مواقفنا بضمان مشروعيتها، التي تحتكم إلى الضمير المهني إذا كان فعلا. لست صوتا لأحد! عزيز أزغاي من المعروف عن الفنان المسرحي المقتدر والجريء الطيب الصديقي، شافاه الله، بديهته وقدرته العجيبة على توليد معان وتراكيب لغوية وإجابات غاية في الهزل والسخرية السوداء، وهي ملكة «ورثها» – في تقديري – عن روح شقيقه الأكبر، المرحة واللاذعة، المرحوم سعيد الصديقي، الشهير بلقب «عزيزي». ومن بين ما تحتفظ به الذاكرة، في هذا السياق، جوابه الساخر والمستفز حينما سئل مرة عن رسالته التي يود بثها للجمهور من خلال عروضه المسرحية، إذ كان رده، بكل بساطة، «أنا لا أحمل رسائل، لأنني لست ساعي بريد!». وعلى الرغم من الطابع الساخر والملتبس لهذا الجواب، والذي قد يفهم منه، منذ الوهلة الأولى، رغبة الرجل في إضفاء نوع من المرح على استجواباته، فإن ذلك لا يخفي – في حقيقة الأمر – تفكها واضحا ونقدا مبطنا موجها إلى بعض الخطابات، التي كانت تأتي على لسان بعض السياسيين المغاربة، ومن قبيلة اليسار تحديدا، ممن كانوا يعتبون على الكتاب والمثقفين والمبدعين والفنانين عدم انخراطهم في صياغة مواقف احتجاجية أو نقدية صريحة وواضحة تجاه سياسات الحاكمين أو بعض القضايا التي كانت تثار من حين لآخر، بما يتصادى مع تلك الروح التي ميزت إسهام المفكر الانقلابي الإيطالي أنطونيو غرامشي، ومشروعه الداعي إلى بناء منظومة نضالية فكرية اشتراكية تلزم المثقف بأن يكون في صلبها، وهو ما عبر عنه تحت مسمى «المثقف العضوي». والحقيقة أن الانحياز إلى الكتابة والإبداع يبقى قدرا واختيارا شخصيين، قبل أن يكون التزاما أو انخراطا سياسيا بالمعنى القطاعي البسيط والمتداول. وهو إلى ذلك موقف مخصوص من الحياة ومن العالم. وبهذا المعنى، يصبح هذا الأمر معبرا عن وجهة نظر تتكئ على معرفة، وعلى قناعات شخصية هي التي تفرز، في نهاية الأمر، قناعاتنا ومواقفنا التي تحدد انطلاقا من تقييم نظرتنا إلى ذواتنا وإلى الآخر، سواء كان هذا الآخر دولة أو حكومة أو حزبا أو معسكرا أو وجهة نظر مختلفة. من هنا يؤسس المبدع والكاتب لموقفه ولرأيه الشخصي حيال ما يقع حوله، والذي يصبح – في نهاية الأمر – رأسماله الرمزي. وقد يحصل أن تلتقي آفاق هذه المواقف الشخصية مع أخرى ثقافية أو سياسية حزبية أو رسمية مشابهة أو متصادية ومتقاطعة، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مشروطا بأي شكل من أشكال الخضوع لتبعية أو لإملاءات هذا الآخر أو لأجندته وتكتيكاته السياسية المرحلية، مادامت السياسة، باعتبارها فن الممكن، تبقى محكومة بطبيعة التحالفات والمواقف الإستراتيجية المحسوبة في الزمن، والخاضعة لمنطق الربح وكسب المواقع، أكثر منها اختيارات ثابتة أو قطعية في كثير من تصريفاتها وأوجهها. معنى ذلك أن اتخاذ المواقف لا ينبغي أن يخضع، تحت طائلة مفهوم الالتزام المفترى عليه في كثير من ممارساتنا وخطاباتنا السياسية، خاصة في الوقت الراهن، لمنطق القطيع أو لمبدأ «اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما» العشائري والقبلي، بقدر ما ينبغي أن يكون نابعا من قناعات شخصية غير موجهة، ومتكئا على توصيف دقيق وشامل لما يحدث. فلطالما لعب بعض المثقفين والفنانين مثل هذه الأدوار التأثيثية في أوقات سابقة، حين كان الوقت غير الوقت، وكانت النتيجة – على الأقل داخل المجتمع المغربي – كارثية ومهينة، عنوانها الكبير عدم الاعتراف والتقدير. بل تحول هؤلاء، في لحظات انتقالية من تاريخ المغرب، وهذا هو الأخطر، إلى مجرد أرقام تستعمل لتسمين أرصدة وطموحات بعض السياسيين الجشعين، حيث يتم ركنها على الجانب بمجرد تحقق المسعى. والحال أن ما يصنع من الكاتب كاتبا فاعلا ومؤثرا داخل مجتمعه، ومن الفنان فنانا حقيقيا ومساهما في بناء هذا المجتمع هو حريته، هو إحساسه بارتفاع سقف سماء خياله، وعدم ارتهانه إلى خرائط طرق الآخرين. إذ ليس مطلوبا منه، والحالة هاته، أن يستعير ثوب الآخرين أو ملامحهم وأصواتهم. المطلوب من الكاتب ومن الفنان أن يعنى بصوته، بلغته وبلمسته الخاصة الدالة على شخصيته. آنذاك، فقط، سيكون صوته إضافة نوعية لأراضي النبل والجمال والوضوح. وفي هذا الإطار، لا ينبغي أن يفهم من هذا النزوع نحو الاستقلالية نوعا من السلبية أو التقاعس أو الارتفاع عن الواقع أو الاستقالة من الإجابة عن أسئلته، بل إنه خيار ناضج وواع بشرط وبلزوم تلك المسافة بين الكاتب والفنان وما عداهما من فاعلين في القطاعات والمجالات الأخرى الموازية، وهي مسافة مطلوبة لمنح العقل والوجدان أريحية إنتاج الأفكار واقتراح البدائل التي قد تنفع الناس وترقى بالمجتمع. إن أولى علامات فشل أي كاتب أو فنان في تقديم إضافات نوعية تدعم نهضة مجتمعه، وفق تصور إنساني كوني، هي تنازله عن حريته، عن صوته، وعن إبداء رأيه، مقابل انخراطه في تلميع خطابات الآخرين. في المقابل، تقتضي مسألة الوعي بهذا الأفق، بالضرورة، العمل على احترام مبدأ التنوع وسيادة رحمة الاختلاف، بما هي تكريس لفلسفة التخصص ولتقاسم الأدوار لا اختلاطها أو اندماجها وتماهيها الساذج أو المنفعي. فالسياسي ينبغي أن يحوز هذه الصفة عن جدارة واستحقاق، وكذلك الشأن بالنسبة للمفكر والكاتب والفنان. آنذاك، ربما تلتقي القناعات الإنسانية النبيلة من تلقاء نفسها وبقوة وبطبيعة الأشياء، دون إكراه أو هيمنة طرف على آخر، أو تحويل وإخضاع لمسارات وآفاق أي منهما تحت طائلة السخرة الانتهازية أو التوظيف المصلحي العابر. والأكيد أن مثل هذا النزوع يقتضي من الكاتب ومن الفنان، بالفعل وبالضرورة، تحصيل وعي وتكوينا معرفيين ناضجين وملمين بكل مناحي الحياة وتقلباتها وغوامضها. ذلك أن صناعة وإنتاج القيم والأفكار والمعاني، على أسس صلبة، ينبغي أن يكون مسنودا بمعارف ومهارات، لا بعشيرة سياسية أو بمنطق زبوني إخواني أو رفاقي هش، قد يكون حاملا لأسباب فشله في أول اختلاف في وجهات النظر. والأمثلة كثيرة عن مثل هذا العبث، الذي ما زال يعطل حضورنا في خريطة العالم. الإبداع والقضايا الإنسانية حسان بورقية أظن أن من المهم أن نُذَكّر في البداية بأننا عندما نبدع – إذا كنا نعتقد أننا نفعل كذلك- فذلك يعني في المقام الأول أننا نأخذ الكلمة، أي أننا نَصْدُرُ في عمَلنا عن رؤية معينة للعالم والناس والأحداث والأشياء. ذلك أن الفنان – لا الرسام – ليس هو من يرسم اللوحة تلو اللوحة، وإنما هو ذلك الذي تقوم أعماله على رابطٍ جماليٍّ أساسُه تلك الخلفيةُ الفكرية والثقافية التي تحقق الانسجامَ الظاهرَ بين رؤيته وبين عمله، وبين عمله وحياته بصفة عامة. وفي هذه الرؤية نعثر على صوته وصوت الجماعة التي ينتمي إليها، يترجم لاوَعْيَها ويسْتشرِف مستقبلها، كما يكون الصوتَ الجامعَ لذاكرتِها، خيالِها ورغبتِها عندما تكون الذاكرةُ والرغبةُ هما الحلمُ الراهنُ المشترك، هُما التاريخُ غداً، وعْيا منه بأن التاريخ الذي لا يَتَخَيّل يتحوَّل إلى عنفٍ يعصف بالأحلام، وأن كل اكتشافٍ جديدٍ يحققه يصبح رغبةً – رغبتنا جميعا- وضرورةً حيوية، لأننا نعرف أننا نخترع ما نكتشف، ونكتشف ما نتخيل. هذا التصور كان هو الرائجُ في حقبةٍ كان الإنسان فيها أقل ضياعا والقيم أكثر إنسانية من أيام أصبح التاريخ مضادا للإنسان وللطبيعة ولسائر الكائنات.. لهذا يُفترض اليوم، إذن، أن يكون الإبداعُ موقفا ومقاومة.. وبقدر ما يحتاج الفنان إلى عزلته الضرورية لكي يعمل وينتج، فإن هذه العزلة لا تعني الابتعاد عن العالم وقضاياه، بل الابتعاد عن عالمٍ معينٍ وعن قيمه ومفهومه للإنسان والحياة.. يكون موقفا ومقاومة، خصوصا في عالمنا العربي اليوم، الهائم في قرون أخرى بلا يوتوبيا، وكلُّ عقيدةٍ إيديولوجية فيه أبانت عن لاجدواها والإنسان ضائع بين تأثيرات سريعة دون فهم أو معرفة أو علم. ما الذي أملى على الفنان محمد القاسمي أن يكتب نصا اتهاميا ضد حركة طالبان عندما فجَّرتْ تماثيل بوذا العريقة، إن لم تكن رؤية مماثلة؟ اليوم لا نقاش في أن على الإبداع الفني أن يُبَرَّرَ- بلا فجاجةٍ- بمرجعيات فكرية محددة، برؤيةٍ للعالم، بفلسفةٍ ما، بأخلاقٍ معينة، يكون مبثوثا فيها ومغلفا بها، إذا لم يكن يريد أن ينتهي به الأمر إلى الاستهلاك في ثقافة لا أهداف لها سوى التزيين والرغبة في الربح والتجارة… ذلك أن الإعجاب بالأشكال الفنية في حد ذاتها يمكن أن يسقطنا في فخِّ ذوق أقصاه الديكور والصنعة وتنضيد الألوان الجميلة بلا إحساس فني.. كلنا نعرف أننا أحيانا نقع في غرام تميمة إفريقية، أو كتابة يابانية، أو «بياض على بياض» (لمالفيتش مثلا)، إلى درجة يصعب معها أن نشرح فعلا سر هذا الانجذاب القوي نحوها، لأنها أحيانا تتحول إلى مصدر إلهام لنا، إلى رموز من زمننا، مسكنات لقلقنا ونور لعمانا… هذا ما يسميه طابييس ب»رابط الصداقة»، الذي يؤلف بين مشاهد ما وفنانين معينين، سواء كانوا من أبناء بلده، معاصرين له، أو ينتمون إلى أماكن بعيدة وعاشوا ملايين السنين قبله. وبالتأكيد لهذه الأسباب توجد فضاءات خاصة تتم فيها هذه العلاقة بين المشاهد والعمل الفني الذي زرع فيه الفنان المبدع بذور إبداعه وسحره، وربما أيضا كان التطلع إلى هذا الإحساس والبحث عن سر هذا الانجذاب هو ما ولّد في مختلف مراحل التاريخ الرغبة في جمع الآثار الفنية وإنشاء متاحف وأماكن خاصة لذلك. من هنا كذلك نفهم أن ميلاد لوحة ما في حضارات أخرى ولدى أمم أخرى، يعني بالنسبة إليها ميلاد معنى جديد للحياة، ولأنها تعرف أن حضارة لا تحلم هي حضارة ضاربة في الموت. لم يوجد فيلسوف كبير في العالم لم يبن نظريته أو نسقه الفلسفي على لوحة أو عمل فني.. والأمثلة على ذلك لا تحصى.. يكفي أن أشير إلى والتر بنيامين مع لوحة «الملاك الجديد» لبول كلي، أو جيل دولوز مع «ثلاثية» فرنسيس بيكون، أو إدوارد سعيد مع منى حطوم- على نحو آخر- كما نالتْ أعمال كاندنسكي، مالفيتش، طابييس، أوطو ديكس، آنسليم كيفر، دجوزيف بويْز، روثكو، برام فان فيلد وغيرهم من الذين أُلفت العشرات من المؤلفات حول أعمالهم الفنية. نحن نعرف كيف يتم عندنا تسويق العمل، ومتى وكيف أنشئت الأروقة والمجلات ودور المزاد العلني، والثقافة الرائجة في هذه الأوساط، والخطاب الذي «يريد» أن يكون في خدمة الفن المغربي، والمقالات التي تقول ما هو كائن وغير كائن، والصحافة الفنية الإخوانية، واهتمامات الفنانين، كلامهم وصمتهم، والجمعيات الفنية المغربية ومن يوجه الذوق والسوق ويختار أعمال «الفن المغربي» للتظاهرات العالمية، وفق أية رؤية وأي إملاء يتدخل أحيانا في حرية الرسام… داخل هذا المشهد المركب تغيب القيمة المعنوية وهذا الرأسمال اللامادي للفن والموقف من القضايا الوطنية والعربية والعالمية.. كان نيتشه – الأشد صرامة من بين الكل- يولي للفنان أهمية تعلو على مرتبة الفيلسوف، لأن الفن هو المحفز على الحياة، هو ما يثير الحياة ويكثفها، والفنان هو الباحث عن المعرفة والحقيقة، هو مبدع الاحتمالات الجديدة للحياة.. هذا هو معنى «مساهمة» الفنان في العمل الثقافي، أي في مجموع المواقف تجاه الحياة. المواقف التي تهيء حس الناس الجمالي وتعمل على إبرازه في علاقاتهم وبيوتهم ومعمارهم، يساهم فيها الكل، من البيت إلى المدرسة إلى الجامعة خصوصا (وهنا الطامة العظمى في عالمنا العربي حيث يُدرَّسُ الانتماء الإيديولوجي قبل البحث العلمي وتلقين مفهوم الحرية الإبداعية وتطويرها عوض إعادة الإنتاج والنقل والحفظ)، من أساتذة، مربين، مفكرين، مبدعين، نقاد، وزراء، أحزاب، برلمانيين وغيرهم من القادرين على تحضير المواطن وتحصينه بناء على تربية يخضع الكل لصرامتها. من أجل هذا نحتاج إلى تربية ومؤسسات وعقليات جديدة، مثلما تدافع عن الحق والكرامة، تُنمِّي كذلك الحسَّ والمعرفة التاريخية والإنتاج المعاصر، كي يتكون عند الناس حكمٌ نقدي تلقائي، يصدُر عن جمالية تسمّى الذوق. بهذا نشعر بأننا نفتخر كذلك أمام بقية الشعوب بأن لنا أعمالا فنية وأدبية تثيرنا كما يثيرنا أصحابُها ومواقفُهُم، تُشْعِرنا بالحياة، تحثُّنا على التفكير وتقودنا إلى تبني وجهات نظر جديدة فعّالة وأشدّ وضوحا عن حياتنا ووجودنا.. لأن صاحب الذوق، بهذا المعنى، هو الذي يمكنُه أن يصدر أحكاما، إذ يُفترض فيه كيف يحب ويرفض ويقرر بنفسه دون الاعتماد على الذين يظنون أنهم يعرفون أحسن منه. إن الأزمة الحالية إذا أفصحت عن شيء سيكون حتما أنه بينما تتداعى النماذج السياسية والاقتصادية الواحد تلو الآخر، فإن ما سيبقى صامدا «هو ما بنيناه، نساء ورجالا، بأكبر جدية، بأوسع حرية وكذلك بأكبر سعادة: إنتاجاتنا الثقافية، الرواية، الشعر، الرسم، الأثر السينمائي، المسرحية، المقطوعة الموسيقية، البحث- كذلك الأثاث، الطبخ، الحب والذاكرة، لأنها ثقافة بكاملها..» كما قال كارلوس فْوينْتس. الفنان الإفريقي، الأوقياني، الشاماني، الأبوريجن الأسترالي والزن.. فنانون ليسوا لأنهم منشغلون بقضايا الغرب وأسئلة الغرب وإرضاء الغرب بالدوران في فلكه وهمومه واستعارة رؤاه ولغته الجمالية وأدوات فنه وذوقه أو تكرار وسرقة نماذجه الفنية والتعبيرية؛ ليسوا لأنهم يشتمون عقيدتهم أو يتعرّون على سبيل إظهار تمردهم.. بل لأنهم هم أولا، ولأنهم يفتحون معه حوارا ندِّيا داخل الاعتراف بالآخر واحترامه والإصغاء إليه حتى لا يتحول عملهم إلى عرض غرائبي أو عجائبي يرضي «السيد» ولغته وذوقه كمستعمر سابق؛ ولأنهم يريدون أخذ الكلمة ليقولوا مَنْ هُم.. كان هذا بعضٌ مِن همِّ أستاذنا الكبير إدمون عمران المليح. في النهاية، ما قيمة إبداع لا يتكلم، لا رأي له في القضايا الإنسانية الكبيرة، لا يفتح حوارا مع الفنانين الشباب لكي يستأمن البعض منهم على مشروعه ومعرفته ورموز الجيل الذي انتمى إليه وورث عنه شجرة أنسابه والقيم الإنسانية والحضارية والبيئية التي يدافع عنها؟ أليس لهذا السبب اختلف بويْز كثيرا مع مارسيل ديشان عندما اختار موقف الصمت؟ كان بويز يعرف أن ديشان قد انتهى فنيا، لم تعد لديه أفكار، ولم يعد قادرا على إنتاج شيء ذي بال.. ظل يحترمه، لكنه كف عن احترام صمته وعجرفته..لأنه لو حصل أن «تكلم» لكانت آثارُه أكثر خصوبة وغنى. الفن والسياسة موليم العروسي فتح عدد كبير من الفنانين ومحبي الفن بالمغرب، وخصوصا في بداية السبعينيات، أعينهم على الفن التجريدي في المغرب. وأصبح الجميع يظن أن الفن الراقي أو مبدأ الفن ومنتهاه هو الفن التجريدي. لقد تراجعت كل الأفكار التي راجت في بداية الستينيات، وخصوصا مع مجلة «أنفاس» ومجموعات المبدعين في جميع أصناف وأساليب الفنون والإبداعات، والتي كان مفادها أن الفن التزام بقضية أمة وحضارة. ولو عدنا قليلا إلى الوراء لانتبهنا إلى أن تلك المجموعة، التي تحلقت حول تجربة «أنفاس» ومدرسة الفنون بالدار البيضاء، كانت تناضل من أجل فن من الشعب وإلى الشعب. لقد كانت فعلا تؤسس لهوية بصرية وطنية، ولكنها كانت تناضل من أجل تصفية الاستعمار الثقافي، الذي كانت تعتبر أن مجموعة كبيرة من المواطنين، وخصوصا النخبة، كانت ضحية له. كل هذا يجعلنا نتساءل: لماذا تشبث المغاربة، إسوة بعدد كبير من العرب، بالفن التجريدي في جميع أصنافه ولم تغرهم تيارات غربية أخرى؟ أكيد أن المعركة، التي جرت بين الفنانين الحداثيين الشباب وأولئك المسيطرين على سوق الفن مع بداية استقلال المغرب، كان لها دور كبير في هذا الاختيار. لكن الأمر تعدى المغرب ليطال دولا أخرى. كان العالم الغربي آنذاك قد تجاوز إشكالية الفن التجريدي والفن التشخيصي ولم يعد لها وجوب. إذ كان الفن قد تحول إلى التكنولوجيا وظهرت تعبيرات جديدة مثل الفيديو آرت والبرفومانس والأنستلايشن، وحتى الفن التصويري الصباغي كان قد تحول إلى ما يشبه أخلاطا من المواد تعيد النظر كلية في نبل الصباغة الزيتية العتيدة. إلا أن هناك بعض النقاط، إن نحن أثرناها، بإمكانها أن تنير لنا الطريق. كان هناك في بعض البلدان العربية فن تشخيصي يسمي نفسه بالواقعي، وكان يقترب أكثر من الفن الاجتماعي الاشتراكي، الذي تطور في معسكر الدول الشرقية، التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي. كان هذا الفن في أغلب الأحيان يمدح منجزات الدولة ويتوجه إلى عموم الناس لإقناعهم بذلك. لم يكن الفنانون المغاربة، الذين كانوا قد أصبحوا مكرسين فيما بعد، يعترفون بهذا الصنف من التعبير الفني، إذ كانوا يعتبرون أن الفنان لا يمكن أن يجيّش وراء أيديولوجية معينة. لكن بالمقابل، وفي تبنيهم للفن التجريدي، كان هؤلاء الفنانون ينتجون فنا صامتا لا يلتزم بقضايا الناس وبهمومهم اليومية. صحيح أنهم لم يكونوا أبواقا للسلطة، كما كانوا يسمون أصحاب الفن الواقعي، ناعتين إياهم بالفنانين الرسميين، لكنهم كانوا بالمقابل ينتجون فنا صامتا محايدا، أو الفن للفن كما يسميه نظراؤهم الواقعيون. وهنا يمكن أن نشير إلى بعض ملابسات هذه المسألة. يتعلق الأمر بتشجيع الفن التجريدي من طرف المعسكر الغربي إبان الحرب الباردة في مواجهة تشجيع الفن الواقعي من طرف المعسكر الشرقي. وقد أصبح الأمر، اليوم، واضحا فيما يتعلق بتشجيع وكالة الاستخبارات الأمريكية للفن التجريدي، وخصوصا منه ذلك الذي لا يدعي بأنه يدافع عن فكر معين ملتزم بقضية جماهيرية ما، أي أنه يدافع عن فكر محايد لا يعني إلا الفرد وحده. يتعلق الأمر بجاكسون بولوك بالأساس، ولكن وبنفس الطريقة دو كونينغ, وروطخو, وآخرون. كانت ال«سي آي إيه» تشجع هؤلاء الفنانين دون علمهم عن طريق المؤتمر الثقافي الذي كان قد فتح له فروعا في أكثر من أربعين دولة، وكان ينشر الدوريات والكتب التي تجعل هؤلاء الفنانين مثالا يحتذى في الحرية الفردية مقابل ما كانوا يقدمونه بأنه فن موجه ومراقب من طرف السلطات في العالم الاشتراكي. وكان اهتمام وكالة الاستخبارات الأمريكية بهؤلاء الفنانين نابع من أنهم كانوا شيوعيين سابقين. لذا كانت تظهرهم للعالم كأنهم غادروا الشيوعية لأنها لا تضمن لهم حرية الإبداع. لم تكن الوكالة تشجع الفنانين التشكيليين فحسب، بل كانت تشجع، في نفس الاتجاه، الموسيقيين والمهندسين المعماريين وغيرهم. لا يعني هذا أن الفن التجريدي كان كله مرتبطا بهذه الوكالة، ولكن عددا من فناني العالم الثالث، كما كانت تسمى الدول غير المتقدمة، اختاروا طريق الفن التجريدي لأنه لا يزعج المسؤولين السياسيين، ويترك للفنانين حرية التصرف دون اللجوء إلى مدح السلطان. لكن المشكلة تكمن في كون هؤلاء الفنانين لم يتوقفوا عند استغلال هذه الوضعية، بل راحوا يبحثون لها عن مبررات في ثقافتنا العربية الإسلامية للدفاع عن مواقفهم. كان هذا الجدال يفرغ المشكل من محتواه الحقيقي ولا يسمي الأشياء بمسمياتها، بل يغرقها في نوع من النقاش العقيم. فعوض الحديث عن عدم قدرة الفنان على التصريح بآرائه والالتزام بقضية من القضايا كان الحديث يدور عن شيء لا علاقة له بالدين ولا بالثقافة. نحن نعرف أن هناك عددا من الفنانين الأوروبيين، والفرنسيين منهم على الخصوص، فطنوا إلى لعبة الحرب بين الغرب والشرق الأوروبيين فقرروا عدم التبعية لكلا المعسكرين. وأدى هذا إلى بروز تيار التشخيصية الجديدة. لقد برز تيار التشخيصية الجديدة أو التشخيصية الحكائية (Figuration narrative) إبان حرب الجزائر، حيث أحس بعض الفنانين الفرنسيين بأنهم، بعد أربعين سنة من التجريدية الغنائية أو الهندسية، لا يتوفرون على وسيلة أو طريقة للتعبير عن آرائهم السياسية والاجتماعية فنيا. وهنا ظهرت هذه الحركة، التي ستتطور إلى تيار، كان من أكبر مسانديه الفنان مارسيل دوشامب. سؤالنا هو: لماذا لم يتعامل الفنانون المغاربة مع هذه التيارات الجديدة وبقوا مرتبطين ومتشبثين بالفن التجريدي الصامت؟ يبدو أن ما سمي بسنوات الرصاص كان له دور كبير في هذا الباب، خصوصا إذا عرفنا أن الفن المعاصر الحالي تحول إلى النقد الاجتماعي والسياسي، وخصوصا بعد غليان الشوارع إبان ما سمي بالربيع العربي. ويبدو أن الشباب لم يعد يعير الخوف أي اهتمام. قاسم حدَّاد: لحظات الأمل في العالم العربي نادرة وعُرضَة للهَتْك والمُصادرة قال إن المثقف هو أكثر الكائنات هشاشةً تحت ضغط مؤسسات القمع حاوره: صلاح بوسريف قاسم حداد، واحد من الشُّعراء العرب الذين أحْدَثُوا في تجربتهم الشِّعرية نَقْلَةً مهمة، هي النَّقْلَة نفسُها التي بها يكْتَسِي الشِّعر المعاصِر حداثتَه، وقُدْرَتَه على السيرورة، ورفض المُكْتَسبات. لا يقينَ في تجربته، كل شيء قابل للمراجعة، لأنَّ «الكتابة»، وفق المفهوم الرَّاهِن الذي هو ابتعاد عن «القصيدة»، وخروج منها إلى فضاء أوسع، هو فضاء الشِّعر، بما هو لقاء بغيره من الأنواع الكتابية المختلفة، وحتَّى غير الكتابية، هي أحد مُمْكِنات الشِّعرية الراهنة، التي أتاحَتْ لقاسم، كما لغيره، ممن انتقلوا من كتابة «القصيدة» إلى «العمل الشِّعري»، أن يَعُوا ما يتطلَّبَه الشِّعر، اليوم، في عزلته وصمته، من حاجة لِيُعيد تأثيث نفسه، بما هو كوني، دائم، وأبدي، وليس بالعابر، الزَّائل، الذي هو جزء من شروط الاستهلاك، ليس غير. هذا الشاعر البحريني المُناضل، الذي تقاسم السِّجن مع أصدقائه، شعرياً، حتَّى لا تبقى غمامة القهر، والقمع ساكنة في نفوسهم، واختار الحُب في ذروة «الكوليرا»، طريقةً لاسْتِجلاب الشمس، واسْتجلاب الأمل، هو مثقف قَلِق، باحث، يكتب كما يستنشق الرِّيح التي بها صاغ وجودَه، وبها صاغ هذه الحياة التي ينعم بها، في الشِّعر، وبالشِّعر، ولا شيء غير الشِّعر، الذي هو مُعادل ضِدِّيّ للحَجْر، والكَبْت، والقَهْر. – في لقاء معك، بالمعرض الدولي للكتاب، قُلْتَ إننا في حاجةٍ لمزيد من اليأس، فيما يجري عندنا في العالم العربي اليوم. وأنت تعرف أنَّ هذا العالم، اليوم، بلغ ذروةً من الاحتباس والاختناق غير مسبوقة، على كل الأصعدة والمجالات، مما نتج عنه العديد من الظواهر، وصلت بنا إلى هذا اليأس الناقص. سؤالي لك عن منسوب هذا اليأس في تجربتك، كيف يحضر، إذا كان حاضراً فعلاً في ما تكتبُه. التاريخ الذي عشتُه في العالم العربي كانتْ تَنْدر فيه اللحظات الإيجابية والحضارية، فهي سرعان ما تذهب سُدًى وتتلاشَى. لحظات الأمل كانت نادرة، وكانت دائماً عُرضَة للهَتْك والمُصادرة، والتدهور المُتسارع في السنوات الأخيرة يؤكِّد بأن الإنسان العربي ليس فقط يائساً، بالمعنى الحقيقي، بل يُمْنَع، أحياناً، من أن يكتشف الجماليات الحضارية في اليأس، لأن الإنسان العربي محاصر بمشاريع أمل غيبية كثيراً. سلطاتٌ تتناوب على توظيف القمع الضَّارِي لأحلام الإنسان العربي، وتُنَكِّل به، إلى درجة أنها تمنعه من لحظات اكتشاف رغبته في التمرد على هذا المشروع. المشكلة، الآن، أنَّ السلطات المختلفة، السياسية والاجتماعية وغيرها، كلها تشترك مع السلطة الدينية في الغَيْب. هذه كلها سلطات غيبية، بمعنى أنها غير حقيقية، فهي موظَّفَة بأدوات دينية لكي تحقق أهدافا سياسية واقتصادية، وبالتالي، فالإنسان العربي ممنوع من حرية اليأس. السلطات، عندنا، صارت تتفنَّن وتتقن صياغة اليأس والخيبة والخذلان، في مشاريع أمل. هذا ما يُشَكِّل خطورة اليأس. فلو أنّ الإنسان العربي يائس حقيقةً لاستطاع أن يكتشف مشاريع هذه السُّلْطة. فبمجرد أن تظهر الرغبة في التململ، ومحاولات التَّمرُّد على هذا المشروع، يظهر مشروع آخر أكثر خذلاناً وخسارةً وقمعاً. – هل أنتَ يائِس، أم لديك أمل فيما يجري في البحرين، ودور الأطراف المحيطة بهذا البلد في قيادة وتحريك خيوط هذه اللعبة، التي تُحاك الآن في البحرين، وفي غيره من البلاد العربية؟ أنا، دائماً، أرى بأن البحرين، رغم تاريخه الثقافي الكثيف والعميق، وتاريخ الحركة الوطنية والنضالية المؤثر في المنطقة، ليس بمعزل عما يحدث في العالم العربي، لأننا سنخذل أنفسنا عندما نتوهَّم بأننا نمتلك، حقيقةً، قيادة مجريات الأمور. الآن، رغم ما يُشاع بأنَّ العصر هو عصر التكثُّلات الكبيرة، فهُم يتكلّمُون عما يُسمِّيه الشاعر مظفر النواب «سجَّان يمسك سجَّاناً». لكن أرى، أيضاً، أنَّ هذه التجارب الصغيرة في البحرين، وفي غير البحرين، هي أنْوِيَة الوعي الحضاري التي تتعرض دورياً لتقديم الأضاحي والتضحيات والتجارب المُحْبِطَة، بسبب إتقان السلطات معالجة مشاكل المجتمع، ومواجهة المعارضات أيضاً. خبرة السلطات أكبر من خبرة المعارضات العربية. فنحن في حاجة حقيقية إلى وعي ذاتنا وقدراتنا الحقيقية والعميقة. – هنا، أعود بك إلى دور المثقف. السياسيّ أبَانَ، اليوم، عن ضحالة وعيه بما يجري، فمشاريعه كاملةً فشلت، وأفضت بنا إلى هذا المأزق الذي نعيشه، وهو مأزق غيبي، مليء بكل أشكال التطرُّف، ولا يؤمن بفكرة المستقبل، هو ضدَّها، لأنه شديد الالتفات إلى الوراء. المفارقة هي أنَّ المثقف يعيش، مما يجري، في شبه غيبوبة، ولم يستيقظ بعد من هذه الغيبوبة، فهل ثمَّة ما يمكن أن يقوم به المثقف، اليوم، لإشعال بعض الضوء في نهاية هذا النفق المُظلِم؟ هناك أكثر من إجابة عن هذا السؤال. أولاً، أنا ألاحظ إتقان السلطات، في وسائل عملها المختلفة، تحميل المثقف مسؤولية كبيرة، في الوقت الذي تعمل على تجريده من دوره ومن وظيفته ومن سلطاته، وعدم الاكتراث به. فأنت تُحاسِب المثقف بحجم الحريات المُتاحَة له. المثقف هو أكثر الكائنات هشاشةً تحت ضغط مؤسسات القمع. لكني أرى أن هناك جانباً آخر، في هذا المعنى، فالمثقف العربي ورث فكرة الاتِّكاء على أيديولوجيا، لكن عندما ستنهار هذه الأيديولوجيا سيكون عُرضة للانهيار أكثر مع الأيديولوجيا. عندما ستنهار الأيديولوجيا العلمانية، أو ينهار الاختيار الديمقراطي، وغيره، سيبحث قطاع كبير عن أيديولوجيا أخرى للاتِّكاء عليها. البعض يجد الحل في الأيديولوجيا الدينية، باعتبارها بديلاً، ولذلك تُلاحِظ هذا الانجراف إلى الغيب، إلى المفاهيم المُكَرَّسَة، خصوصاً منذ نكسة 67 حيث رُوِّجت فكرة الهزيمة في علاقتها بالتَّخلِّي عن الدين، واعتبار الدِّين هو البديل، في الوقت الذي كان المجتمع العربي مُسْلِماً طوال الوقت. عمق المجتمع العربي مُتَدَيِّن، ولا يحتاج إلى أيديولوجيا القاعدة أو «داعش» لتُنَبِّهَه، وتُعيدَه إلى الدِّين. – بِمَ تُفَسِّر انتشار هذه الأيديولوجيات الدينية، أو التي تتخفَّى وراء الدِّين، على حساب الفكر التنويري، والفكر الحداثي المستقبلي، وهذا النوع الذي جَرّ ما تحقق من خطوات إلى الأمام، إلى الوراء، بالمعنى النُّكوصي الماضويّ، وبضِعْف ما تحقَّق من مُنجزات وخطواتٍ، فَبِمَ تفسِّر هذا «التضخُّم الديني»؟ لا أستطيع أن أفسِّر كثيراً هذا الوضع. أنا غير مُؤمِن بأنَّ ما يحدث هو شيء ديني، وأخشى أن يكون هذا شيء خارج الدين، فالدِّين، كما عرفناه، هو دين محبة، ودين سلام، ودين حُب للناس، وحياة وليس قطيعةً أو وحشية. لذلك، هذه أشكال مظهرية، وتوظيف مشاريع سياسية بأقنعة دينية، خصوصاً أنَّ هناك مليارات تُصْرَف في هذا الاتجاه، والمُفارَقَة هي أنَّ الدول والأنظمة العربية، التي كانت تصرف تلك المليارات على المشاريع الدينية، بمفهومها السياسي عندها، هي نفسها على رأس من يزعم مُكافحة الإرهاب، لأنَّ الإرهاب وليد تلك المشاريع، ووريث ظروف داخلية، فما يجعل الإنسان مطمئناً هو توفُّر شرط العدالة، والأمن، والحرية، فهذه مبادئ أساسية يمكن أن تحمينا من كل هذا الذي يجري. – فيما قبلُ، كانت الأنظمة العربية، دون تمييز، تواجه الفكر الماركسي، والفكر اليساري، بالفكر الديني، وهاهي، اليوم، تواجه هذا الفكر نفسه، الذي انْفَجَر في وجهها هي أيضاً، بمعنى انقلاب السِّحر على السَّاحِر. أظن بأن كلامنا عن انسحاب المثقفين وانعزالهم ينبغي أن يكون حَذِراً، لكي نرى المشهد كاملاً، لأنَّ المثقف هو جزء من هذا المجتمع المحروم من أولويات الحياة. فنحن نتحدَّث كثيراً عن تهميش الثقافة، وتهميش الدور الفعلي للثقافة، من خلال المؤسسات العربية والأنظمة، وعن تهميش المثقف، وعدم الإصغاء إلى مفكري الأمة، ومبدعيها، وفي نفس الوقت نأتي لنُحاكم المثقف. هذا طبعاً لا ينفي أنَّ اتجاهات وفئات كثيرة من المثقفين تتبدَّل خياراتُهُم مع تبدُّل السياسة، لكن ليس هذا هو قانون النضال الثقافي، هناك انحرافات تحدُث في المجتمع، مثلما تحدث عند فئات أخرى. المثقف كائن، قبل أن يكون مثقفاً، مُحتمل أن يقع في مثل هذا المأزق، ولكن هذا ليس قانوناً نُحاسَب عليه.. – عادةً، وفي السبعينيات، بشكل خاص، كان الشِّعر، والثقافة عموماً، يأتيان من «المركز»، وليس من «الأطراف» أو «الهوامش». كيف استطَعْتَ، وأنت واحد من هذا «الهامش»، أن تَتخطَّى هذا الهامش، للعبور إلى هذه المركزية الشِّعرية، رغم أنَّ الوضع، آنذاك، كان يفرض اختراقات جمَّة، وصعبة، وتحتاج إلى جرأة، ليس فقط في العلاقات العامة، بل الجرأة فيما يُحَقِّقُه النص الشِّعري من اختراقات. أعتقد أن ما أتاح لي هذا الاتصال الرَّحْب بالتَّجربة الشِّعرية أنه منذ بداياتي، عندما شرعْتُ في التعرَّف على الكتابة والتجارب الشِّعرية، لم أتصل بالتجارب المحلية. اتِّصالي المُبكِّر الأول كان بالأُفُق الشِّعري العربي، خصوصاً العربي الحديث، يعني أنني وعيتُ بمرحلة الانعطاف والتحوُّل هذه، أي بدايات الشِّعر العربي الجديد، الذي كان يجري خارج قالب القصيدة التقليدية. هذا الاتصال جعلني أشعر، وأتصرّف، وأكتب، بهذا الإحساس، الذي هو جزء من النص الشِّعري العربي، وليس النص الذي يُكْتَب في البحرين أو في الخليج. تَعرُّفي على النصوص المحلية أتَى فيما بعد، وهذا الاتصال كان يصدر عن إحساسي بأنني جزء من الأفق. طبعاً في بدايات تلك الفترة، لم تكن مسألة «المركز» و«الهامش» مطروحة. فوسائل الاتصال السريعة والحديثة لم تكن متوفرة في هذه الفترة، كما هو الشأن اليوم. كُنَّا نحصل على الكتب العربية، بالكاد، من خلال وصولها إلى الأسواق، وإلى المكتبات، أو عندما نسافر إلى العواصم العربية. فهذا الإحساس هو الذي كرَّسَ عندي أنني لستُ كاتباً بحرينياً، بالمعنى الجغرافي، بل بالمعنى الإنساني، أي أنَّني إنسان لا أجد نفسي إلاَّ في النصوص الشَّاسِعَة، وفي النصوص الرَّحْبَة المفتوحة، التي لها أفق بعيد، هذا، أظن، هو الشرط الأول الذي تأسَّسْتُ فيه. ولكن سرعان ما أُضيفَ إلى هذا الإحساس وعي نوعي، يتَّصِل بطبيعة الكتابة، وطبيعة التجربة، وآليات وأدوات التعبير الشِّعرية الجمالية أو الفنية. فقد كنت أسعى إلى الخروج من ذلك التلعثُم الذي كان نوعا من الانتقالة الجديدة في الشِّعر العربي، التي تتجاوز النمطية التقليدية، في أوزانها وقوافيها، وطريقة بنائها، فكان عليَّ أن أُثبِتَ لذاتي ولمحيطي أنني كاتب وأديب وشاعر، بمعزل عن التقليد والقيمة الشكلية للنص. – في هذا السياق، كيف كنتَ تتلقَّى التجارب الشِّعرية العربية المعروفة، آنذاك، أولاً، جمالياً، وثانياً، من حيث طبيعة الأفكار التي كانت تطرحها، خصوصاً أنَّ المرحلة كانت مرحلة مواجهة أيديولوجية وسياسية، وكانت مرحلة تأسيس لأفق عربي جديد، ليس فقط على المستويين السياسي والاجتماعي، بل أيضاً على المستوى الجمالي، فقد كان هناك صراع بين اتجاهيْن: اتجاه يذهب إلى الشِّعر كقول، أو إلى الشِّعر كفكرة، واتجاه يذهب إلى الشِّعر كحداثة مبنية على الجمال وعلى الصورة الشِّعرية، وعلى الإيقاع، واللغة، وتمييز الشِّعر عن غيره من الأجناس الأخرى. بالنِّسبة إلي، لحظات الوعي في تجربتي، وفي مساحة واضحةِ المعالم عند جيلي، كان فيها عنصر البحث مُهِمّاً. فأن تأتي إلى الكتابة في لحظات تجديدها الصِّدامي كان بالنسبة إلي هاجس بحث، ليس في الحقول الأدبية فقط، ولكن في حقول معرفية أخرى، فأنا كنت أقرأ في الفلسفة، في التاريخ، في العلوم الإنسانية، وهذا ساعدني، بسبب انتقالي إلى الحياة العملية، فيما بعد، لأنني تركتُ الدراسة قبل إنهاء مرحلة التعليم الثانوي، ولأني، أيضاً، اشتغلتُ بالمكتبة العامة التي كنتُ أرتادُها يومياً. هذا كله حدث في لحظة بحثي وقراءتي، إذ كنتُ أتلقَّف التجارب الشِّعرية العربية الجديدة بولَع وشغف كبيريْن، إلى درجة أنني قرأتُ كل الاتجاهات والاجتهادات الفنية في القصيدة العربية، في المشرق وفي المغرب، من نزار إلى أدونيس إلى السياب إلى حجازي إلى عبد الصبور إلى الفيتوري إلى الشابي. فكل هذه التجارب رافَقَتْ تفجُّرات البحث في القصيدة الحديثة بشكل خاص، إلى درجة أن بعض الكتب التي كنتُ لا أستطيع شراءَها، حرصتُ على استعارتها من هذه المكتبة العامة، وكنتُ أنسخها بيدي كاملةً، لأنني، فعلاً، كنتُ أريد أن أمتلك النص لأقرأه وأعيده. الذي صَقَل وعيي المبكر بالجوانب الجمالية وآليات التعبير، أنني في تلك المرحلة، أيضاً، وكنتُ في خِضَمِّ انهماكي السياسي والنضالي، اصطدَمْتُ بفكرة: هل بوصفي مناضلا يمكن إن أبقى رهيناً لمشروعي الأيديولوجي والسياسي، وعليَّ أن أوظف هذا المشروع فيما أكتبه شعرياً أم لا؟ لحسن حَظِّي، توفَّر لدي هذا الوعي النقدي حول حرية الفنان، وحرية النص الأدبي، فأدركتُ أنَّ العلاقة بين هذين الطرفَيْن لا تتناقض أو تتعارض إذا ما توفَّر الوعي لدى الشَّاعر. فالنضال كان عندي شيء، ولكن الكتابة كانت عندي حرية كاملة، وهذا وعيتُه بعد تجربة «البشارة»، أو ما أسميه لحظات الاستنفار، بعدم توظيف نضالي السياسي في النص، فجاء الكتاب الثاني، «خروج رأس الحسين»، متمثَّلا لهذا السِّجال الشعري والتعبيري بين الأفكار الأيديولوجية والرغبة الجمالية، في ذلك الوقت. هذا، فيما أظن، هو ما أسَّس لحصانة التجربة الجمالية، عندي، وهو ما سيتبلور مع الوقت، لأنه لم يعد يقف في حدود الإحساس، بل أصبح نوعا من الدِّفاع عن الحُرِّيَتيْن. – بمعنى أنَّ هذه المرحلة الأولى من تجربتك هي مرحلة تَمَثُّل السياسي أو الأيديولوجي شعرياً، لكن المشكل الذي يُطرح، هنا، كيف يمكن أن نُزاوِجَ بين أمريْن ليس من الهَيِّن الجمْع بينهما، وأيضاً، كيف حدث عندك هذا التفاوض بين ما هو جمالي وما هو سياسي؟ ما الذي انْتَزَعْتَه، في لحظة التفاوُض هذه، من الشِّعري لصالح السياسيّ، ومن السياسيّ لصالح الشِّعري?. هذا سؤال جميل ومهم جدّاً. وكما قلتُ لك سابقاً، لا يوجد تناقُض بين الأمريْن، لكن هذا لا يتمثّل إلا بوجود وعي وإصرار على الدفاع عن هذا الحق. في تقديري، التعبير الأدبي، والموهبة الشِّعرية، والحِسّ الجمالي، تكون أكثر غنًى لأحلام التغيير، والمشروع النضالي، من الدعايةً والتفسير لهذا المشروع. فأنا دخلتُ في سجال مع التنظيم السياسي الذي كنتُ أنتمي إليه، حتَّى وأنا في المعتقل، لكن مع الوقت بدؤوا يستوعبون الشرط الجمالي في النص، وعدم انتهاك حقوق الحريات الفنية للشَّاعِر، حتى لو كان عضواً قيادياً، ومناضلاً بشكل يومي. بالنسبة إلي، لم يكن هناك تفاوُض بالمعنى التقني، بل سجال عميق بين الرغبة الموروثة والطبيعية، في المؤسسة الحزبية، رغبةَ في أن يكون الفنان والشاعر موظَّفاً في المشروع، وحاجة المبدع إلى حرياته، التي هي شرط وجوده الإبداعي. – اللحظة الحاسمة، في تجربتك الشِّعرية، كانت انتقالاً من مرحلة المواجهة لإعطاء الكلمة للشِّعريّ والجمالي إلى مرحلة ما أُسمِّيه، شخصياً، في تجربتك ب «الكتابة»، التي أصبحت أكثر استيعاباً لشرطها الجمالي، كما يقول هربرت ماركوز. ففي وعيك الشِّعري النظري، الذي هو اليوم أحد شروط كتابة الشِّعر، والمعرفة به، أين تتمَثَّل هذه اللحظة الفاصلة. الشرط الذي يدعم التجربة الشِّعرية هو أن لا يكتفي المبدع بالموهبة وحدها. لا بُدَّ، كما قُلْتَ، من توفُّر المعرفة. ومن جانب آخر، البدايات التي تفجَّرت في تجربتي لها علاقة بوجودي في السجن، بشكل خاص. فالحديث أو الكتابة عن الحب في حينه كان يُعتَبَر تَرَفاً في القصيدة. في السجن كتبتُ كتاب «قلب الحب»، وهو كان أحد أشكال المنعطفات الفنية عندي، لِسَبَبَيْن: السبب الأول، أني لأول مرة أكتبُ عن الحب، إلى درجة أن أصدقائي في المُعتَقَل صاروا يأخذون نصوصاً ومقاطع من هذا الكتاب ويبعثون بها إلى زوجاتهم وحبيباتهم، وكانوا فَرِحِين بالتجربة، لأنهم شعروا بأنَّ هذه هي المشاعر الطبيعية عند الإنسان عندما يتخلَّص من سُلطات مُتَوَهَّمَة. السبب الثاني هو أني أكتب لأول مرة كتاباً كاملاً في قصيدة النثر، خارج التفعيلة. هذا الكتاب حقق هذا الوعي، رغم أنَّ الكتاب لم تكن فيه موسيقى بالمعنى الذي اعتادوه. هنا تبلورت الأشياء أكثر بالنسبة إلي، وشعرتُ، وأنا في السجن، بأنني أكثر حرية. الكتاب الآخر، «القيامة»، هو أيضاً تجربة مختلفة. فمن هذه اللحظة شعرتُ بأنني شاعر بالدرجة الأولى، فالنضال والانخراط في السياسة، أمر مفهوم، لكني شاعر في المقام الأول، وهذا ما جعلني أتساءل مع نفسي: في أي الحقول سأكون أكثر عطاءً وعمقاً؟ ثم أين يمكن أن أُحقِّق حلم التغيير والحرية، بالشروط الإنسانية التي هي أكثر عمقاً من الأيديولوجيا والحزب والتنظيم؟ – على ذكر تجربة الكتاب، الشِّعر العربي، اليوم، فيه تجارب معدودة، تذهب إلى مفهوم العمل، أو الاشتغال على العمل L'oeuvre، أي الاشتغال على كتاب كامل، وعلى تجربة واحدة، وليس على نصوص كُتِبَت في سياقات وظروف مُتفَرِّقَة، وجُمِعَتْ بين دَفَتَيْ كتاب. هذا وجَدْتُه عندك في «مجنون ليلى»، ووجدتُه في «قبر قاسم» وفي «طرفة بن الورد». هذه الأعمال، في كتابتها والاشتغال عليها، تحتاج إلى قراءة، إلى بحث في مصادر ومراجع مختلفة وعديدة. هل أصبح الشَّاعر، اليوم، يقوم بدور الروائي، أو بدور الباحث السوسيولوجي، والباحث الأنثربولوجي، التاريخي، الفلسفي، اللغوي، ليكتب عملاً ما؟ ثم ما دور البديهة، هُنا، في مثل هذا النوع من الأعمال الكتابية الكبرى؟ هذا يتصل بضرورة المعرفة بالشِّعر. فالمعرفة هي ما يُجَوْهِر الموهبة، ويجعلها غوصاً وسبراً للحياة، والعلوم المتنوعة التي يذهب الشَّاعِر للغوص فيها هي مُسْتَخْلَصات الحياة، كتجربة مسار اجتماعي تاريخي، وثقافي في نهاية الأمر، وهنا تكمن مسألة المُتعة، متعة البحث والكتابة، في نفس الوقت. فالبحث والإبحار في المصادر والمراجع، ليس بمعنى البحث في الأشياء المُجرَّدَة، فأنا أبحثُ عن المعرفة باعتبارها جزءاً من حياتي، لأنني في أي مشروع أعمل عليه، أحرص على صياغة حياتي الجديدة، كما هي الآن، فأنا لا يعنيني، وأنا أكتب عن طرفة أو قيس، وجودهما هناك في حياتهما البعيدة النائية، فهما قرينان في حياتي، فأنا كنتُ على علاقة دائمة بطرفة، وسبق لي أن كتبتُ عنه عدة نصوص وقصائد، بأسماء أخرى. العصر في تحوُّلاته لم يعُد تهويماً وانتظاراً لوحيٍ، فالشاعر يصنع نصَّه بتراكم تجربته الفنية والفكرية، وبتحقيق أحلامه وصوره بتنشيط مخيلته في بناء هذا النص. فالكتابة، بالنسبة إلي، معادل روحي وكياني في صَدِّ الزمن السلبي والمُسْتَهْلِك في حياتي. أنا أكون أقوى في النص، فكلما استطعتُ أن أجعل هذا الحصن الشِّعري والفني والمعرفي متيناً بالبحث، أكون مؤهَّلاً أكثر، ليس للانتصار على الواقع، بل لأكون مُرَشَّحاً لكتابة نص أكثر جمالاً، أكثر مُتعةً، و أن يكون النص، أيضاً، أكثر إمْتاعاً للقارئ، وصَقْل هذا القارئ في حياته. فأنا أقترح، بهذا، على القارئ فُسَحة أكثر رحابةً ليُدْرِكَ أن أحلامَه صحيحة، وأن ما يسعى إليه صحيح. المال والموقف بوشعيب هبولي منذ عشر سنوات ظهرت فورة مالية شارك فيها رجال المال والأعمال، بمن فيهم المضاربون العقاريون ومبيضو الأموال. هذه الظاهرة كانت سببا في وجود ما يسمى بحركة وسوق تشكيلية بالمغرب في الفترة ما بين سنة 2000 و2014، وهي ظاهرة غير صحية، ترتب عنها في هذه الفترة تأسيس وخلق أروقة ومزادات علنية جديدة، أصحابها نازحون من مجالي المضاربات العقارية والأبناك، وقد استفاد ماديا من هذه الحركة بعض الفنانين. هذه الاستفادة دفعت الفنان بشكل عام، كظاهرة ليست مغربية فقط، بل عربية كذلك، إلى أن يتخلى عن التحامه بصديقه الفنان الذي لم يستفد أو من له موقف محدد وواضح في كل المجالات، خاصة في القضايا الثقافية. أما فيما يخص المستوى المعرفي لبعض الفنانين المغاربة فهو ضعيف جدا، نظرا للبنية التحتية للمؤسسات التعليمية في مجال الفنون، زيادة على أن التشكيلي المغربي لا يهتم إلا بالتشكيل في غياب اهتماماته بالأجناس الأخرى كالأدب والمسرح والسينما…، هذا الافتقار جعله صانعا حرفيا فقط. أما فيما يخص المعارض المتتالية سنويا، التي تلزمه الأروقة بالخضوع لطلباتها، فهو ضار به ولا يخدم التشكيل، لأنه لا يأتي بإضافات جديدة ولا يترك المسافة الضرورية للتشكيلي للتفكير في مشروع مغاير، مما يتسبب في التكرار، وهو ما ينتج عنه عزوف المشاهدة لدى المتلقي. فعندما تكون الأرضية هشة ولا تساعد على رؤية وجرأة واضحتين، من الطبيعي أن يكون هناك خلل في اتخاذ القرارات والمواقف في اللحظات المناسبة، عكس ما كان يحدث مع التشكيليين في فترة سابقة، حيث كانوا يتخذون مواقف مناهضة كاعتداء الصهاينة على فلسطين، ومواقف تخص الوضع الاجتماعي أو السياسي، سواء بمشاركتهم الفعلية، عبر حضورهم علانية في المظاهرات، أو بمساهماتهم الفنية بإنجاز ملصقات كرافيكية لبعض الهيئات السياسية (التقدمية)، التي تراجعت حاليا هي الأخرى. فهؤلاء الذين كانوا يحملون منذ أربعين سنة مشعل الأفكار النيرة في اتخاذ القرارات الصائبة والمواقف الرصينة، أين هم الآن؟ هذا هو السؤال. أعتقد أن ظاهرة المال هي السبب في تخلي عدد كبير من الفنانين عن مواقفهم، مع الاستفادة من المحيط الذي يتفاعلون معه، وهذا كان له تأثير كبير على السير الطبيعي للتشكيل المغربي، الذي كان يعرف تنظيم مناظرات خاصة بالقضايا الأساسية التي تهم الوسط الثقافي والفني المغربي، ثم غياب خطاب نقدي حول ما يجري في السياسة الثقافية، بالإضافة إلى عدم وجود إرادة لبرمجة الفعل الثقافي عموما في سياسة كل الأحزاب السياسية المغربية. لقد ظهرت هناك موضة جديدة ترتبط بالوافدين من الفنانين المغاربة من دول أجنبية، محملين بمنتوج غربي صرف لا يمت بصلة إلى ما له علاقة بالهوية المغربية، وهنا لا أتحدث عن الهوية بمفهومها العنصري، بقدر ما أتحدث عن روح وإمكانية هذه الهوية في أبعادها الخصوصية التي تميزها عن باقي الدول، والتي يرجع سبب غيابها إلى جهلنا وافتقارنا إلى المعرفة، خاصة أن جل الفنانين المغاربة لا يملكون رؤية وأرضية ثقافية صلبة تساير الحركية الاجتماعية المغربية، كوسيلة لتحفيزهم على اتخاذ القرارات المناسبة في كل الأحوال، ثم إنه لا يمكن تحقيق هذا التميز إذا لم تكن هناك إرادة قوية لدى الفنان في البحث بعمق في محيطه بعيدا عما هو زخرفي أو فلكلوري…، دون أن ننسى أن هناك ظاهرة غريبة عن واقعنا تفشت في السنوات الأخيرة، وتتعلق بعدد من معارض المغاربة الوافدين من الخارج، باعتبار أن ما يطرحونه من أسئلة تدخل ضمن التحديث والتغيير ومسايرة العصر، مما سيتسبب (وهذا رأي شخصي)، في انهيار التشكيل المغربي في غياب مقومات لا زلنا بصدد البحث عنها وتحديد معالمها، فما بالك بتحديد موقف يتطلب ضرورة الوعي بالواقع المغربي على جميع المستويات.