علي جعفر العلاق . . اسم عراقي لمع في سماء الشعر، وبرز في مجال النقد، قدم في المجالين ما يجعله واحداً من المثقفين العرب، رفيعي القدر على كل المستويات، ويمكنك أن تلحظ تفرده عبر عناوين كتبه، فهو صاحب “مملكة الغجر” ،1981 و”لا شيء يحدث . . لا أحد يجيء” بيروت ،1973 “وطن لطيور الماء” بغداد ،1975 و”أيام آدم” بغداد ،1993 له 13 إصداراً شعرياً، والعديد من الكتب في مجال النقد . عمل العلاق رئيساً لتحرير مجلة الأقلام، ومجلة الثقافة الأجنبية العراقيتين، وشغل منصب مدير المسارح والفنون الشعبية في العراق، ويعمل حالياً في جامعة الإمارات العربية المتحدة في العين، التقيناه خلال زيارته القاهرة، فكان لنا معه هذا الحوار حول عدد من القضايا النقدية والشعرية . كيف تقيم حال النقاد في ما يتعلق بممارسة النظريات النقدية؟ لا بد من وقفة عند تلقينا للنظريات النقدية الغربية؛ فبالرغم مما تمثله هذه النظريات من أدوات منهجية مهمة علمتنا مداخل جديدة في التعامل مع الظاهرة الإبداعية والثقافية، فإن لها مخاطرها أيضاً، لأن بعض نقادنا، وهذا البعض كثير، يعيشون حالة من الانبهار المبالغ فيه بهذه المناهج، ناسين أن هذه المناهج نتاج إنساني لبشر يخطئون، وينقلبون على مشاريعهم، يعدلونها، ويغيرون فيها . على المستوى النظري هناك فوضى في المصطلحات في الوطن العربي، لا توجد أرضية مشتركة للمفاهيم، أما على المستوى الإجرائي فنحن أمام اتجاهين: الأول ينحو باتجاه المناهج الغربية في التطبيق بطريقة محاكاة آلية، وبعض هذه المناهج تتعامل مع النصوص بمنطقية جافة لا تلمس روح النص، ولا تصغي إلى تفجراتها الوجدانية، تنظر إليها معزولة عن سياقاتها النفسية والاجتماعية والحضارية، وهذا لا يخدم النص العربي الذي هو سجل لخفقة الروح، وهي تشتبك بالزمان والمكان في لحظة بالغة الجمال . أما الاتجاه الثاني فقد اتبعه بعض نقادنا الذين كيفوا هذه المناهج وأضافوا إليها، وعدلوا فيها، بصورة خلاقة ومدهشة، ونجحوا في التعامل مع النص العربي شعراً كان أو سرداً، وقدموا أعمالا باهرة، بين هذا وذاك نجد الكثير من النقاد، خاصة الشباب قد سقطوا في التقليد ورسم الجداول، والإحصاءات، فخرجوا من كل هذه الوليمة بلا طائل كبير . ماذا عن إيجاد نظرية نقدية عربية؟ لا نستطيع الجزم تماماً بأن هذا المسعى يمكن أن يعود على نقدنا العربي بخير كثير، إذا كان الهدف منه الانقطاع عن العالم والاحتفاء بالذات، ولكني أدعو إلى هذه المزاوجة الحية، بغض النظر عن التسمية هل هي عربية أم غربية، أدعو إلى صيغة تفيد من هذه المناهج دون أن تنسى منجزات النقد العربي الراهنة أو الماضية، فلدينا نقاد كبار في الماضي والحاضر أسهموا بعمق في هذا الميدان، وبذلك نكون قد أرسينا مشهداً نقدياً عربياً يصغي بعمق إلى المناهج الحديثة، ويتمثلها، ويفيد منها، ثم يتمثل الميراث النقدي القديم، في أفضل تجلياته، والإفادة منه . هل نفيد بالفعل من الميراث العربي النقدي بصورة جيدة؟ نعم، بعض نقاد الحداثة لم يبدأوا من فراغ، وإنما بدأوا من النقد القديم، ككمال أبوديب مثلاً وجابر عصفور وحمادي صمود، أبوديب من أكثر نقاد الحداثة تأثيراً، بينما كانت أطروحته للدكتوراه في الجرجاني، صاحب الفتوحات والكشوفات المهمة التي لم تبعد كثيراً عن تعامل البنيويين مع النص، كذلك الأمر مع حمادي صمود، وجابر عصفور . الميراث النقدي العربي هو الأساس الحقيقي الذي يجعل الناقد قادراً على الوقوف أمام التيارات الحديثة، واستيعابها بثقة، فمن لا يستند إلى أرضية تراثية صلبة، لا يستطيع مقاومة التأثيرات الوافدة إليه، ولا بد أن يسقط في مرحلة انفعالية، وهذه الانفعالية خطر بالغ، فنحن بحاجة إلى التفاعل لا الانفعال . هناك شكوى عامة من أزمة في النقد، وأنه لا يواكب الإبداع، وإذا واكبه فهو لا يقوم بمهمته الأصلية؟ نحن مولعون بكلمة أزمة، حين نتكلم عن الشعر، أو النقد، أو الرواية، نقول أزمة، النقد العربي يؤدي دوراً مغايراً عن دوره في الخمسينيات، والستينيات، في تلك الفترات كانت حداثة النقد موازية لحداثة الشعر، وكان هناك نوع من الإيقاع المنسجم، في حركة الشعر وحركة النقد، وبالتالي كان النقد آنذاك، قوة مهمة أسهمت في تركيز وترسيخ التجربة الحداثية في الشعر، وكلنا يتذكر أن نقاداً كباراً مثل إحسان عباس، وغالي شكري، وعزالدين إسماعيل، أسهموا في البدايات الأولى لحركة الشعر الجديد في بلورة مفهوم الشعرية الجديدة آنذاك، أما الآن فدور النقد يختلف، وللأسف لابد أن نعترف أن الناقد حالياً مشغول بذاته في الغالب، فرح بها، مستغرق في الإجراءات، ولفت النظر إلى نفسه، يسهب في الحديث عن لعبته النقدية، وكيف يتعامل مع النص، من دون أن يقدم عوناً كبيراً للمبدع أو للنص، وأعني بالعون أن ييسر علينا فهم الظاهرة الإبداعية وكشفها كشفاً حقيقياً، من الداخل . على من ينطبق هذا التقصير؟ يتضح في الأجيال النقدية الجديدة، أكثر من النقاد الأقدم عمراً وتجربة، ورغم ما أجده في النقاد الشباب من اندفاع للنصوص واشتباك عميق معها، وحس المغامرة الذي لا مراء فيه، واستيعاب للمناهج الغربية، فإن الملاحظة تبقى قائمة أن بعضهم يتحدث عن نصوصنا بأصوات غربية . بين ديوانك “لا شيء يحدث . . لا أحد يجيء” عام ،73 وديوانك الأخير “هكذا قلت للريح” 2008؟ هل ثمة خيط يمتد؟ هناك فارق كبير بين المجموعتين، هذا صحيح، إلا أن هناك خيطاً روحياً وجمالياً ولغوياً يمتد من البداية وحتى الآن، لست من الشعراء الذين يؤمنون بالقفزات، وأدرك تماماً أن الشاعر الحقيقي هو الذي ينمو ويتطور ببطء، وعلى مهل، ضمن أفقه الشعري الخاص الذي يعكس ملامحه في اللغة، والإيقاع، والتشكيل، والمزاج، والصورة، والاهتمامات، ويتجسد عمله في تطوير تلك التفاصيل داخل هذا الإطار، الذي يحمل نبرته، وتوقيعه . كان ديواني الأول (لا شيء يحدث . . لا أحد يجيء) تجربة جمالية لغوية فنية دفعت بها إلى أقصى حدود التطرف، تطرفت في استخدام الصورة، وفي التقشف في العبارة الشعرية، سعيت إلى كتابة قصيدة ملمومة، رشيقة، لا تعاني الإسهاب والتكرار، قصيدة تنفر من فائض القول، ومن المحسنات اللغوية الكثيرة التي تخنق ملامحها، هذا الهاجس يسكنني حتى الآن؛ فأبالغ في الاقتصاد في اللغة، واستخدام الصورة الشعرية، حتى إن هذا المسلك الشعري جعل قصائد ذلك الديوان تستعصي على الفهم في بعض الأحيان، لأنها مناخات وأجواء، أكثر من كونها تجربة واضحة تصل إلى القارئ بيسر، ومازلت أؤمن أن الشعر يجب أن يحس لا أن يفهم، ومازلت أسعى إلى أن أظل كذلك، لكن بعبارة تترك دائماً بصيصاً من الضوء، يمسك به المتلقي للوصول إلى هاجس ما، أو حلم ما . بعض الشعراء الذين بدؤوا مسيرتهم في الشعر غلب عليهم النقد، أمثال الدكتور عبدالقادر القط والدكتور عزالدين إسماعيل، هل ترى تناقضاً، بين الإبداع الشعري والنقد؟ هما حقلان مختلفان تماماً، ولكنهما يجتمعان في أحيان ليست قليلة، والدلائل كثيرة، عربياً، وعالمياً فمثلاً مدرسة النقد الجديد في أمريكا، كان معظم نقادها شعراء، بداية من ت .س .إليوت، مروراً برانسوم، وألن تيت، وبروكس، كلهم شعراء ونقاد، وفي شعرنا العربي نجد مدرسة المهجر، ومدرسة الديوان، وأبولو: أحمد زكي أبوشادي، عبدالرحمن شكري، ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران كلهم جمعوا بين النقد والشعر؛ وكذلك شعراء الحداثة العرب: نازك، أدونيس، لكن النقد الذي يكتبه الشاعر يختلف عن النقد الذي يكتبه الناقد المحترف، فالشاعر الناقد أكثر طواعية، لا يتقيد بالمناهج بطريقة صارمة، ويعتبرها أفقاً مرناً يتحرك فيه، لذا فالنقد الذي يكتبه الشاعر فيه الكثير من تموج الذات، ومن المكر، والمراوغة، والتوتر، وكأنه يستمد شيئاً من روحه الشعرية المتأججة، وتفسير ذلك أن جزءاً كبيراً من رؤى الشاعر، وأفكاره يظل خارج القصيدة التي ينجزها، فيبحث عن شكل آخر للتعبير، إضافة إلى ما لديه من مواقف وآراء تتعلق بإبداعه وإبداع الآخرين، والتي لا يمكن أن توضع في شكل شعري بطبيعتها فيرحلها الشاعر إلى شكل آخر يجاور إبداعه، وهو النقد . هل يعيش الشعراء بالذات هذه الحالة، أم المبدعون بشكل عام؟ ما قلته عن الشعراء يصح على كل مبدع؛ ففي كل فن، سواء كان رسماً أو موسيقا أو رواية أو شعراً، لا بد من جانب فني وآخر نقدي، أما الفن فهو شهادة فنية روحية على العالم، وأما النقد فهو شهادة على هذه الشهادة، قول ثان على قول أول، وفي داخل كل فنان ثمّة ناقد ما، يظهر حين ينتهي الفنان من عمله، فتبدأ لديه لحظة الصحو التي تتجسد في عملية تنقية القصيدة أو الرواية، وإعادة التأمل في اللوحة، مرحلة تشذيب، وتعديل، وإعادة ترتيب وحدات القول وهذا كله يقظة نقدية، ولدى الشعراء النقاد نجد حضور الناقد أكثر وضوحاً، لأنهم يكتبون بتوسع واستفاضة، مستندين إلى أفق منهجي ما . ألم تفكر في التوقف عن الشعر من أجل النقد كما فعل هؤلاء؟ أنا لم أبدأ كتابة النقد لاحقاً حتى أجعل الممارسة النقدية بديلاً للشعر؛ لقد بدأت الكتابة النقدية، ولو بشكل بسيط، منذ البدء، شعرت بأن لديّ شيئاً فائضاً عن القصيدة، لا يصلح مادة للشعر، وإنما هو تأمل في تجربتي وتجارب الآخرين من الشعراء، بدأت أكتب المقالات النقدية بشكل يتناسب مع وعيي الشعري في تلك المرحلة، بعد ذلك أكملت الدكتوراه، وبدأت التدريس الجامعي، وتخصصت في النقد الحديث، لكنني كنت واعياً منذ البدء أن هناك خطورة محتملة عليّ تجنبها، هي أن تجني الممارسة النقدية على الممارسة الشعرية أو العكس، ولديّ أمثلة في ذهني كنت أتذكرها كي أتجنب ذلك الخطر لأساتذة درست على أيديهم أو قرأت لهم، بدؤوا شعراء وانتهوا نقاداً، أو العكس، وهو ما كان يتوقف، في كل حالة، على حجم الموهبة الشعرية أو النقدية من جهة، والوعي بهذا الخطر والتحسب له من جهة ثانية، حتى لا تجور إحدى الملكتين على الأخرى، لذا كنت أمشي على شعرة خفية لا تكاد ترى، بين هذين الحقلين . نريد أن نعرف موقفك من قصيدة النثر بوصفك شاعراً وناقداً؟ قصيدة النثر مستوى آخر من مستويات القول الشعري المهمة في شعرنا العربي الراهن، بعض شعرائها حققوا مستويات رفيعة في حضورهم الشعري، لكن هذا الفن، وللأسف الشديد، كان خيمة واسعة مفتوحة على الجهات كلها، للكثيرين من ضعاف الموهبة، دخل إليها الكثيرون مدفوعين بإغراء السهولة المزعومة، ناسين أنها قصيدة صعبة، لا تتوافر عدتها لكل شاعر، وقد أساء إلى قصيدة النثر بعض نقادها، وبعض المحسوبين عليها من الشعراء، أما النقاد فتساهلوا كثيراً في شروط شعريتها، وقادونا عبر تنظيراتهم للإحساس، أو التوهم أنها قصيدة اللاقاعدة، وأنها فن لا فن له، لا تحتاج من المبدع إلا أن يتجاهل اللغة والإيقاع وأن يكتب نصوصاً مبرأة من شبهة التراث وشبهة الدلالة . صاروا يتكلمون عن قصيدة النثر، أحياناً، بنبرة غيبية إيمانية تبشيرية، غير قابلة للفحص، أو التحقق، وكأنهم يتحدثون عن شعرية غائبة لا وجود لها، أما بعض شعرائها فلم يقدموا نماذج شعرية تشرف قصيدة النثر كثيراً، نماذج هشة، مفككة في الغالب، ولا تغري المتلقي، إغراء شعرياً حتى في الحدود الدنيا، تحولت قصيدة النثر على أيديهم من كونها فناً شعرياً معقداً وصعباً، إلى فن في متناول الجميع، فن يمكن تعريفه بالسلب: هو الفن الذي لا يتوافر فيه إيقاع، ولا يقدم دلالة، ولا يشترط موهبة، ولا يتطلب وعياً بفنون الشعر . ولماذا يغيب الشكل الواضح لقصيدة النثر برأيك؟ هناك نوع من الاستسهال، وأقول بصراحة إن بعض القائمين على المهرجانات الشعرية ومؤسسات النشر، هم شعراء قصيدة نثر، بعضهم يمارس دوراً مهماً في تنقية قصيدة النثر من هذه الشوائب على مستوى نصوصه الشخصية أو ما ينشره من نصوص، والبعض الآخر يساعد على إشاعة هذه الفوضى، ثم إن هناك مجاملة لهذا الشكل الشعري، حتى إن بعض النقاد كف عن كتابة النقد عن قصيدة الوزن لأنه أعاد ترتيب حساباته، ووجد أن الوقوف في جبهة قصيدة النثر عمل ذو مردود إعلاميّ سريع؛ فهي تمتلك نفوذاً ممتازاً في الهيئات الثقافية، ولجان الندوات والمؤتمرات والمهرجانات، ومؤسسات النشر، ولكن هذه المجاملة ستضر قصيدة النثر أكثر مما ستنفعها، لأن المشادات والمنازعات والمؤتمرات وإصدار بيانات الدفاع عن حق قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة في الحياة، لا يمت للفن الشعري بصلة؛ فأجمل دفاع عن قصيدة النثر أو قصيدة الوزن، هو كتابة نص شعري مرموق، بدلاً من إقامة التظاهرات والتظاهرات المضادة . في الستينيات وجد نقاد بقامة محمد مندور ولويس عوض وغالي شكري والنقاش مشكلة في استنباط دلالات من بعض النصوص الإبداعية لتعارضها مع توجهات السلطة، فأولوها تأويلاً يدرأ التعارض بين دلالتها وتوجهات تلك السلطة؟ كيف ترى الأمر عقب مرور نصف قرن على هذا التصرف؟ وهل لا تزال السلطة تشكل عامل ضغط على المبدع حتى الآن؟ قدرتنا على قول الحقيقة والدفاع عنها تختلف، هناك من يواجه عنتاً كبيراً في قوله الحقيقة، وهناك من يقول نصفها، وهناك من يسكت عنها، وهناك من يناقضها مراعاة لظرف خاص أو عام؛ في وطننا العربي تتوزع ولاءات المثقفين والمبدعين، تقترب من السلطة، أو تتباعد بمسافات معينة، وإذا لم يكن للمبدع أو المثقف إلا خيار مرير واحد هو العيش في ظل هذه السلطة أو تلك، فلابد أن يحرص على قدر معين من الحذر، يساعده على العيش الآمن والبقاء على قيد الكتابة، وليس على قيد الحياة فقط، وهذا الحرص يختلف من سلطة إلى أخرى، هناك سلطات بالغة الضراوة، تكنّ عداء متأصلاً لكل ما هو جميل ومبدع في الحياة، وحين يواجه المبدع سلطة بهذه الشراسة لا يكون أمامه سوى الصمت، أو المناورة، أو الموت كمداً، أو الهجرة . إن كان هذا هو حال هذه القامات في عصرها، فماذا عنا . . هل لدينا ذاك الناقد الذي يمكن أن يقول رأيه بصراحة؟ نعم، ولكن بصدق نسبي، ويبدو أن على الناقد أو المبدع أن يهاجر، من أرضه العربية، ليقول كلمته تحت سماء أخرى، ففي عالمنا العربي بكل أسف عداء مستحكم تجاه الحقيقة كهدف إنساني واسع، حتى الآن لم يتوافر الاحترام الكافي للمبدع والناقد والمفكر، لذلك سنظل نعاني قول الحقيقة، وعذابنا المزمن لأننا، أحيانا، غير قادرين على قولها أصلا . كيف تقرأ المشهد الشعري الحالي؟ المشهد الشعري العربي مزدحم حد الاختناق، بضعاف الموهبة أكثر من أي حقبة أخرى، بسبب تجاور تيارات تبدو متعارضة لأجيال مختلفة، ولرؤى يناطح بعضها بعضاً . تجد قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية، هناك من يكتب القصيدة العمودية بحس القرن التاسع عشر، وهناك من يكتبها بحس الحداثة، وهناك من يكتب قصيدة التفعيلة بنقاء شعريّ عال، وهناك من يكتبونها بحس تقليدي، وفضيلتهم الوحيدة أنهم لا يستخدمون البيت ذا الشطرين، أما قصيدة النثر فلها شعراء مميزون، وآخرون لا فضيلة لهم إلا إهمال كل ما يتعلق بالفنية، إذاً الازدحام ولد لدينا ظاهرة استسهال الكتابة الشعرية، وتشابه النبرة، وضمور الذات، وكأننا نعيش وهم الكتابة الشعرية لا حقيقتها . وسط هذا الكم الهائل من اللاشعر يظل هناك شعراء متألقون في الجبهات الشعرية الثلاث، وأنا مؤمن أن قصيدة واحدة مكتملة تعيد الثقة لنفوس الشعراء جميعاً، ولحسن الحظ أن المشهد لا يخلو من شعراء على هذا المستوى وإن كانوا قليلين، لكنهم يعيدون الأمل للشعر، بأنه لن يموت، وأن الزمن هو الفيصل . هناك نجوم في الشعر العربي، غير أن الشهرة لا تعني دائماً أن صاحبها شاعر حقيقي، الشهرة إعلام، وانتشار واسم يعرفه أنصاف الأميين أحياناً، ولكن في الجزء الخلفي من الجبل، ثمة شعراء مضيئون، تعذبوا لأجل قصائدهم، وابتهجوا لأجلها أيضاً، وشعرهم يقف دليلاً يفضح الزيف الذي يقع في الجانب الآخر، أعني ما يملأ صحافتنا من نصوص خاملة أو مدعية، لا حياة فيها . ازدهار النقد أكثر أنواع القول الأدبي احتمالاً لسوء النية، يمكن للنقد أن يخفي الحقيقة، أو يظهر خلاف ما يضمر، أو يمعن في التخفي، وهذا الروغان هو أحد الأسباب المهمة جداً في ازدهار النقد الشكلاني، البنيوي، في مستواه العالمي والعربي أيضا، يبدو أحياناً وكأن النقد قد كف عن أن يقول حكماً خالصاً لوجه الحقيقة، حقيقة النص أو حقيقة الحياة، فظل يلتف بشبكة من أدغال الكلام، أو متاهات من الترميز، لأنه لم يعد قادراً على الإتيان بفعل إنساني عميق وبالغ الجرأة، وبتكييف لعبارة إيغلتن، فإن البعض من نقادنا، يهربون من عبء التاريخ إلى فضاء اللغة .