رسم عدد من السياسيين السودانيين وأساتذة العلوم السياسية صورة قاتمة لمستقبل السودان السياسي في ظل الولاية الخامسة للرئيس عمر البشير واستمرار حكم الإخوان لأربعة سنوات قادمة؛ فضلا عن فشل الحوار الوطني وتفشي الفساد وتمدد الحروب، إضافة إلى انتشار التطرف الديني وسط الطلاب والشباب ما ينذر بضرب ما تبقي من السودان. وبدا البروفسير صلاح الدين الدومة، أستاذ العلوم السياسية متشائما، وهو يقول "لا مستقبل لدولة السودان في الفترة القادمة وتجربة الإسلاميين في السودان قد فرّخت عقما سياسيا ودينيا وأيديولوجيا وعمقت ظاهرة التطرف والمغالاة والتعسف". ويضيف أن خطاب الرئيس عمر البشير الأخير مخيّب للآمال، ولم يخرج عن دائرة خطاب الوثبة الشهير، وبدا روتينيا ومحملا بتلك المحاكاة اللاموضوعية المغمورة بالكلمات العذبة والوعود مجهولة الهوية. وصرح الدومة أن "الرئيس البشير يتحدث عن معضلة الفساد في حين نعلم جميعا أنه أشدهم فسادا"، مشددا على أنه لم يحدث أن حوكم أيّ فاسد في حكومته، فقط مجرد محاولات قدمت في السنوات الماضية لتمويه المواطن وخداعه بأن الحكومة جادة في محاربة الفساد وقطع دابر المفسدين بإقامة محاكمات صورية بواسطة قضاة موالين للنظام؛ وفيها تم تقديم أدلة ضعيفة جدا في مواجهة الفاسد لا ترقى إلى مستوى الإدانة، ويتم بمقتضاها تبرئة المتهم ومن ثمة تضيع معالم الجريمة. يذكر أن حكومة البشير لم تبد جدية في مكافحة الفساد حيث سبق وأن سمح بتشكيل آلية مكافحة الفساد برئاسة الطيب أبو قناية سنة 2012، ثم قام البشير بحلها بعد بضعة أشهر فقط من تكوينها من دون أن تدفع بقضية فساد واحدة إلى الرأي العام على الرغم من إعلان رئيس الآلية اكتمال التحقيقات في خمس قضايا فساد، وضعها على طاولة الرئيس البشير. كما لم تقدم أيّ تبريرات عن هذا الإجراء المفاجئ. في سياق متصل، أكد الدومة أن لا مستقبل للحوار الوطني، في ظل تصاعد موجة المواجهات العسكرية سواء بين الحركات المسلحة والحكومة أو بين القبائل في دارفور؛ فحكومة البشير غير جادة ولا تمتلك إرادة سياسية حقيقية تفضي إلى نجاح الحوار الوطني. إلي جانب عدم إبدائها أيّ رغبة لتقديم تنازلات من أجل البلد وحفظ دماء أبنائها، ما أدخل البلاد في موجة من الحروب لا سيما في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور. ورفضت حكومة البشير العديد من المبادرات الرامية إلى ترتيب البيت السوداني المفكك، ولعل آخرها الطرح الذي تقدم به الاتحاد الأفريقي وفقا للقرار 456 القاضي بقيام مؤتمر تحضيري في العاصمة الأريترية أسمرا. لكن الحكومة لم تعط الدعوة أيّ أهمية واعتذرت عن حضور المؤتمر الذي يجمعها بالمعارضة المدنية والمسلحة وفضلت التخندق حول موقفها الداعي لقيام الانتخابات رغم دعوات الرفض والمقاطعة من المعارضة السودانية. وهو ما يفسر، حسب تقدير الدومة، أن الحكومة أطلقت ملف الحوار كتمويه وأسلوب تخدير، حتى يواصل النظام الذي يرغب في البقاء على سدة الحكم لسنوات مقبلة فيما تتواصل معاناة الشعب السوداني. تذكر التقارير أن عدم الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام السياسي وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة، كما أن ضعف الجهاز القضائي وغياب استقلاليته ونزاهته شكلت معطيات عملية ليواصل البشير تنفيذ برامجه بما فيها مواصلة بقائه على السلطة لأطول مدة ممكنة. كما أن التعديلات الدستورية الأخيرة جعلت الرئيس عمر البشير مركز القرار الوحيد وكرست السلطات في يده بصورة مطلقة، فضلا عن تعزيز صلاحيات جهاز الأمن الذي يتبع الرئيس مباشرة وأصبحت صلاحياته مطلقة، فقد أعطت تلك التعديلات الجهاز كافة الصلاحيات الممكنة وغير الممكنة، الأمر الذي كرس مفهوم الدولة الأمنية القابضة. من جهته، اعتبر كمال بولاد، الأمين السياسي لحزب البعث السوداني، أن الولاية الجديدة التي تشمل خمس سنوات قادمة من حكم الإسلاميين في السودان لن تفرز واقعا جديدا. مذكرا أنهم طيلة 25 سنة من الحكم فشلوا في تحقيق التنمية والاستقرار، ونجحوا في إغراق البلاد في موجة من المشاكل، على غرار انفصال الجنوب وبروز خمس بؤر حرب في مناطق جديدة. واستبعد بولاد أن يسهم التقارب الذي يحدث الآن بين إسلاميي السلطة وإسلاميي المعارضة، ممثلة في حزب الترابي، في تغيير بنية النظام، معللا ذلك بأن التقارب جاء في إطار مواجهتهم كتنظيم إخواني للتطورات الإقليمية التي قطعت الطريق أمامهم وخاصة ما حدث مع الإخوان في مصر. وقال "لا أتفق مع الكثيرين الذين يروا أن التقارب أتى نتيجة ضعف النظام القائم وعمل مراجعات لفكر الإسلاميين بغرض إعادة الأمور إلى نصابها الأول والرجوع إلى عهد الإنقاذ القديم عهد ما قبل المفاصلة الشهيرة واستبعاد الترابي من مقاليد الحكم". وكانت تحولات كبيرة في مواقف المؤتمر الشعبي بعد حركة الثالث من يوليو الماضي في مصر قد ظهرت للجميع، حيث بدأت حدة رفض الحوار مع النظام تتراجع شيئا فشيئا، ففي البداية، ظل حزب الترابي يرفض أيّ حوار ويتمسك بقرار إسقاط النظام عبر الانتفاضة الشعبية، ثم تراجع الحزب فيما بعد ووافق على الحوار بشرط قبول قوى تحالف المعارضة أن يتم تهيئة أجواء الحوار عبر إطلاق الحريات ووقف إطلاق النار. وظلت المراوحة سائدة حتى أعلن بعد ذلك موافقته على الحوار من دون شروط. وتسربت تقارير صحافية عن اجتماعات ثنائية جمعت الترابي بالبشير بعيدا عن الإعلام، الأمر الذي قابلته المعارضة بتشكيك وتخوفات من إعادة إنتاج حكم "الإنقاذ" الأول الذي كان البشير والترابي أقوى طرفين فيه. حتى أن أصواتا داخل التحالف المعارض ارتفعت منادية بطرد حزب المؤتمر الشعبي منه. أوضح علي السيد، القيادي بحزب الاتحادي الديمقراطي، إلى أن خلافات الإسلاميين داخل المؤتمر الوطني حول كيفية الحكم وآليات الاستمرار داخل الحزب قوبلت بالقمع. إلى جانب تنامي الحس العسكري لدى البشير رغم انتمائه للحركة الإسلامية الذي دفعه إلى محاولة الانتقال من التزمت إلى الاعتدال، ما حمله على التخلص من بعض رموز النظام المتزمتة داخل الحكومة، لا سيما الذين يعتقدون أن قيادتهم الحركة الإسلامية تحتم خضوع العسكر لأوامر التنظيم الإخواني. وفتح بذلك المجال أمام البشير لينفرد بالقرار السياسي والعسكري ويتمكن من إحكام قبضته في الوقت الذي يتخلص من نفوذ قادة الحركة الإسلامية. وهذه الخطوة التي أقدم عليها البشير جاءت حسب السيد بفعل ضغوطات من بعض الدول العربية المعتدلة التي ترفض الإسلاميين. وتجدر الإشارة إلى أن البشير قام بسلسلة زيارات إلى كل من السعودية ومصر وآخرها الإمارات بعد سنوات طويلة من القطيعة بين البلدين. كما أن زيارة البشير للإمارات جاءت بعد تغيير الموقف السياسي للسودان من النظام المصري، والتحول من اعتباره انقلابا عسكريا إلى الإقرار بأنه نظام منتخب، ومن احتضان الإخوان الهاربين من المطاردات إلى التعاون الأمني والسياسي مع القاهرة. كما توقفت العلاقات بين الخرطوم وطهران على نحو مفاجئ منذ مطلع سبتمبر الماضي، عندما أعلنت الحكومة السودانية إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان وأمرت الملحق الثقافي بمغادرة البلاد خلال 72 ساعة. وفي سياق متصل، أقر السيد أن الحرب ستستمر طويلا وستقود إلى تدخل دولي جديد في البلاد بسبب الحرب القبلية التي أصبحت تهدد الاستقرار في البلد. خاصة أن الحكومة متورطة بشكل مباشر في الحروب التي تدور بين المتمردين والجيش الحكومي في جنوب كردفان والنيل الأزرق، إلى جانب مهادنتها لبعض القبائل ومناصرتها ضد أخرى. من جهته، يرى صالح محمود، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، أن انفصال جنوب السودان بسبب سياسات المؤتمر الوطني الخاطئة لم تنه المشكلة بل استمرت النزاعات بين الحكومة والحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق في مساحة تضم أكثر من نصف مساحة البلاد. وهذه السياسات التي تشكل خطرا يهدد وحدة البلاد من جديد، تبشر بانفصال مناطق أخرى إذا ما استمر النظام الإخواني على هذه السياسة. كما أن المسؤولين الحكوميين يواصلون ترويج خطبهم الداعية للجهاد والحسم العسكري، رغم عدم جدوى هذه السياسة التي استمرت طوال ال25 سنة الماضية. وهو ما يرجح، حسب تقديره، باندلاع أزمات جديدة ستغرق البلد من جديد لا سيما وأن البلاد تعيش في حالة عزلة إقليمية ودولية أثرت بشكل مباشر على معيشة المواطن وتقديم الخدمات. يعيش السودان اليوم تحت تهديدات حقيقية بتدخل دولي خاصة مع استمرار أعمال العنف في البلاد وتزايد التقارير الإنسانية التي تؤكد صعوبة الوضع في دارفور وغيرها من المناطق. وهذا المعطى الذي لم يعد جديدا بالنسبة إلى هذا البلد ولكن وجود القوات الأجنبية في السودان في السابق كان برضا الحكومة السودانية وإن كان على مضض، في حين سيكون وجودها الآن مفروضا بقرار دولي لا تملك حياله أيّ خيار، ولعل الخيار الوحيد المتاح أمامها الآن العودة للرهان على الأجندة الوطنية بعد استنفادها فرص المناورات الخارجية المحدودة والمكلفة.