عاد شبح الحرب يخيم من جديد على السودان بعد إقدام الخرطوم على قصف مواقع في دولة جنوب السودان، وتسجيل مواجهات مباشرة فيما بات يعرف باسم معركة هجليج. رد الفعل الدولي لم يتأخر، إذ أعلنت الأممالمتحدة إدانتها لهجوم الخرطوم على جوبا. وقال أحد مساعدي الأمين العام للمنظمة الأممية إن «الأمين العام يندد بالقصف الجوي على جنوب السودان من قبل القوات المسلحة السودانية، ويدعو حكومة السودان إلى وقف كل الأعمال العدوانية فورا». وأضاف «لن يكون هناك حل عسكري لخلافات البلدين حول الحدود»، مطالبا الخرطوم بوضع حد للمواجهات العسكرية. باراك أوباما، الرئيس الأمريكي، رد بدوره بسرعة، وأدان الخرطوم، داعيا إياها إلى التفاوض من أجل التوصل إلى حل نهائي لنزاعها الحدودي مع جنوب السودان حديثة التأسيس. ولم يتأخر الرئيس السوداني، عمر البشير، في الرد. إذ احتفل بانتصار قواته في معركة هجليج وأعلن رفضه القاطع للتفاوض مع الجنوبيين، الذين ينفون من جهتهم أن يكونوا انهزموا أمام جيش الخرطوم. وكان لافتا حرص الجنوبيين على تفادي الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة مع جيش السودان الأم، على الأقل في انتظار توضح معالم الموقف الدولي ومعرفة الإجراءات التي يمكن أن يتخذها المنتظم الدولي لنزع فتيل الحرب. موقف الخرطوم أعلنت قوات الخرطوم الحرب على جنوب السودان. وبعد أيام قليلة، أعلنت تحرير منطقة هجليج المعروفة بغناها بالثروات النفطية. ومع ذلك لم تتوقف المواجهات العسكرية حتى بعد تأكد انسحاب قوات جنوب السودان من المنطقة وتوالي ردود الفعل الدولية المنددة بالمواجهات والداعية إلى وقفها فورا واعتماد التفاوض طريقا لحل المشاكل العالقة بين الطرفين المتنازعين. وفي هذا السياق، أفادت وكالات أنباء دولية بأن مقاتلات حربية سودانية قصفت أول أمس الاثنين مدينة بانتيو الحدودية. وقد تم هذا القصف في الوقت الذي أعلن الجيش السوداني أن قواته قتلت أكثر من ألف جندي جنوبي في معارك هجليج. وأكد ماك بول، نائب رئيس مخابرات جيش جنوب السودان، هذه الأنباء وقال إن طائرتين سودانيتين من طراز (ميغ-29) أسقطتا أربع قنابل على المنطقة. وأضاف المتحدث نفسه «تعرض الجسر والسوق للقصف. وأرسلنا فريقا للتحقق من عدد القتلى في هذه الهجمات». كما وصف هذه الغارات بأنها «تصعيد خطير وانتهاك لأراضي جنوب السودان»، علما أن مصادر إعلامية أشارت إلى أن حصيلة الغارات الأولية تنحصر في مقتل ثلاثة أشخاص قرب بانتيو. من جهته، أكد وزير الإعلام في جنوب السودان، برنابا ماريال بنجامين، أن قوات جنوب السودان تواصل انسحابها من منطقة هجليج النفطية المهمة. وقال في تصريحات إعلامية: «قواتنا تواصل الانسحاب والأمر سيستغرق ثلاثة أيام»، قبل أن يضيف «نلبي طلب مجلس الأمن الدولي وغيره بصفتنا دولة عضو في الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي». وفيما تواصل القوات الجنوبية انسحابها من المنطقة المتنازع عليها، تواصل الخرطوم احتفالاتها بما تسميه تحرير منطقة هجليج، مع نهج سياسة صم الآذان حيال الدعوات التي وجهت إليها من قبل أطراف دولية عديدة من أجل وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة التفاوض. اتهامات بزعزعة الاستقرار في غضون ذلك، اتهمت السودان دولة جنوب السودان بزعزعة استقرارها من خلال دعمها المتواصل للمتمردين في إقليم دارفور بغرب السودان، الذي يعرف اضطرابات على غرار ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. رد البشير أعلن الرئيس السوداني عمر البشير رفضه التفاوض مع جنوب السودان، رغم الضغوطات الدولية خلال احتفاله مع الجيش السوداني باستعادة منطقة هجليج النفطية المتنازع عليها من قوات جنوب السودان. وقال في كلمة ألقاها في الاحتفال ذاته: «لا تفاوض معهم. نتفاوض بالبنادق والرصاص»، متجاهلا النداءات الدولية إلى التهدئة والحوار. وتوعد البشير جنوب السودان بالحرب، وتعهد بتلقين حكام الدولة الوليدة «درسا أخيرا بالقوة»، وقال إن نفط دولة الجنوب لن يمر عبر أراضي السودان. كما نقل عن البشير قوله إثر إعلان الجيش السوداني استعادة هجليج «لا نريد رسوما من بترول الجنوب ولن نفتح أنابيب البترول، وبترول الجنوب لن يمر عبر أراضينا الطاهرة حتى لا يذهب دولار واحد إلى هؤلاء المجرمين». نزاع متواصل ورغم وجود اتفاق سلام لسنة 2005، يعد خارطة طريق لوقف أطول حرب أهلية في قارة أفريقيا، شهد السودان تقلبات عميقة أدت إلى إعلان استقلال جنوب السودان وتزايد عدم الاستقرار السياسي. كما شهدت تلك الفترة الكثير من الانتكاسات والخلافات بين الجانبين، تطورت إلى حرب شاملة، بعد إعلان برلمان دولة السودان الحرب على حكومة الجنوب حتى استعادة المناطق الحدودية أو حتى الجنوب ذاته. ونشبت الأزمة السياسية الحالية بعد إغلاق حكومة جنوب السودان في يناير الماضي أنابيب النفط التي تنقل الخام إلى الشمال بعد تصاعد الخلافات بشأن رسوم العبور، والتي تطورت بدخول «الجيش الشعبي» إلى منطقة هجليج واستمرار التوتر في ولاية جنوب النيل الأزرق. ومن ثم، فإن حرب استعادة تلك المنطقة تثير التساؤل حول مستقبل استقرار العلاقة بين البلدين. الصراع المسلح على مناطق التخوم الحدودية بين البلدين، خاصة في منطقة هجليج القريبة من منطقة أبيي سببه الخلاف على ترسيم الحدود واقتسام الثروة النفطية وسياسة تصديرها عبر ميناء بورتسودان. وترتبت عن المعارك، التي نشبت نهاية مارس الماضي وفي 10 أبريل الجاري، سيطرة قوات جنوب السودان (الجيش الشعبي) على المنطقة، وهو ما يشكل عمق 40 ميلاً داخل الأراضي الشمالية للسيطرة على حقل هجليج النفطي. كما هددت حكومة الجنوب بالسيطرة على أبيي، إذ أعلنت دولة السودان التعبئة العامة وعلقت زيارة الرئيس عمر البشير إلى جوبا. وعموماً، لا يخرج الصراع على هجليج عن السياق العام للصراع بين الطرفين، حيث يشكل الخلاف حول تبعية المناطق الحدودية محور القضايا والصراعات السياسية المتعلقة باستغلال الأراضي. فبينما تستند حكومة السودان إلى الحدود الإدارية في يناير1956، فإن حكومة جنوب السودان تستند إلى خرائط بريطانية تعود إلى عام 1905 وتاريخ تنقل السكان وتحركاتهم ورفض ضم المنطقة إلى الشمال في عام 1979. وفي الوقت الحالي تسود دولتي السودان وجنوب السودان حالة من القلق والتوتر السياسي بسبب تنامي الأزمات السياسية خلال الشهور الماضية، التي تكشف في مجملها عن ضعف نضج المسار السياسي، رغم المرور إلى فترة انتقالية منذ مطلع 2005 والمضي في تطبيق اتفاقية السلام الشامل. وقد كان من المتوقع هدوء الصراع السياسي، الذي شمل كل أنحاء السودان منذ الاستقلال في مطلع 1956. وربما ترجع الأزمة الحالية إلى عدم حسم الكثير من الخلافات في مفاوضات نيفاشا، وترك تسويتها للجنة مشتركة يتم تشكيلها وفقاً لبروتوكول أبيي. أزمة بنية الدولة مع إعلان استقلال دولة جنوب السودان في يوليوز2011، واجهت دولتا السودان نوعين من المشكلات. النوع الأول منها مرتبط بالقضايا الداخلية المزمنة، التي تتمثل في ضعف القدرات السياسية والاقتصادية وتفاقم أزمة الاندماج الوطني. وقد انعكست هذه المشكلات على الخلاف بين الأحزاب السياسية والجماعات الإثنية حول مسائل المشاركة في السلطة وتقاسم الثروة. وكان من الملاحظ أنه رغم تغيير حدود دولة السودان والإعلان عن دولة جديدة، لم تجر انتخابات تشريعية جديدة تكسب النظام السياسي شرعية سياسية ترتكز على الأوضاع الجديدة، مما كان عاملاً رئيسياً في تفاقم التوتر فيما بين الأحزاب والجماعات الإثنية في البلدين. وهنا يمكن الإشارة إلى أن انتخابات أبريل 2010 فقدت شرعيتها باستقلال جنوب السودان. ومن ثم، فإن عدم إجراء انتخابات جديدة ساهم في التباعد بين «المؤتمر الوطني» (الحزب الحاكم) وبين الأحزاب الأخرى وتحالف المعارضة (التجمع الوطني الديمقراطي). وعلى غرار ذلك، تطبق الحركة الشعبية في جنوب السودان سياسة استيعاب للكيانات السياسية للتوحد خلف مشروع «السودان الجديد» دون وضوح أفق للمسار السياسي، سواء من حيث الترتيب لانتخابات تشريعية أو وضع صيغة للتعبير عن التنوع السياسي والاجتماعي. أما النوع الثاني من المشكلات، فيتعلق بالسياسة الخارجية، التي لا تتعلق فقط بصياغة السياسة الخارجية مع دول الجوار، لكنها تتعلق أيضاً بصياغة العلاقات الثنائية والترتيب لحدوث انتقال سياسي من حقبة الحرب الأهلية وبناء علاقات سلمية وتطوير المصالح المشتركة. وهناك عامل آخر يضعف فرص الاستقرار، وهو ما يرتبط بتزايد التوتر في دول الجوار، سواء بسبب الطبيعة المزمنة للصراعات في دول القرن الأفريقي أو التغيرات التي تشهدها بلدان شمال أفريقيا. وهذا يؤثر سلباً في الأوضاع السياسية لدولتي السودان، بسبب ضعف تأثير دول الجوار في كبح الأزمة الداخلية في السودان.