على الرغم من آلام الفراق المبرحة التي أصابت دعاة الوحدة الجامعة في السودان بعد انفصال الجنوب رسميا في 9 يوليوز 2011، فإن حلم السلام والاستقرار الإقليمي لا يزال عصيا على التحقيق، فقد ظهرت أعمال تمرد مسلح في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكأنه قدر محتوم على السودانيين في الشمال أن يكون لهم جنوب مضطرب وغير مستقر. وإذا كان الخطاب الاستراتيجي العربي يعيش حالة من الصدمة إزاء عجزه عن فهم التحولات الفارقة التي شهدتها المنطقة العربية منذ اندلاع ثورتي تونس ومصر فإنه لا يزال غير مدرك لحقيقة وأبعاد ما يدور في مناطق أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، إذ يبدو واضحا أن تمرد مالك عقار على حكومة الرئيس البشير يعني، في بعض دلالاته، إمكانية إعادة إنتاج نموذج تمرد الراحل جون قرنق، ولكن هذه المرة داخل حدود شمال السودان، وكأن ما ينقص هذا التمرد الجديد هو توافر الغطاء الدولي الداعم له حتى الآن. فهل يمكن الحديث عن خلق بؤر توتر قلقة على طول خط الحدود السودانية مع جنوب السودان؟ وهل تتحالف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة لرعاية تمرد مسلح جديد بهدف تغيير نظام الحكم في شمال السودان؟ أم إن حكومة الرئيس عمر البشير ستنجح في قيادة المرحلة الانتقالية من أجل بناء دولة ديمقراطية تستوعب الجميع وتعي دروس انفصال الجنوب؟
عبء الرجل الأبيض لعله من المفيد إجراء نوع من المقارنة بين المبررات القانونية والأخلاقية للتكالب الغربي على إفريقيا أواخر القرن التاسع عشر الذي تمت بموجبه عملية تقسيم القارة بين القوى الأوربية الكبرى وبين التكالب الجديد، سواء كان بغرض استغلال الموارد الطبيعية أو ما أطلق عليه التدخل الإنساني، ففي كل من الحالتين يمكن الحديث عن نظرية «عبء الرجل الأبيض White man burden» التي ترى أن الشعوب الإفريقية بحاجة إلى من يأخذ بيديها إلى طريق النهضة والتقدم وكأنها لم تبلغ مرحلة الرشد بعد. واليوم، لا يزال كثير من دعاة السلام في الغرب يؤمن بهذه النظرية ولو على استحياء. وعادة ما تتم الإشارة إلى التدخل الغربي الحاسم في تغيير نظام الاستبداد في كل من ساحل العاج وليبيا. وحقيقة الأمر أن هذه المقاربة التاريخية قد جاءت إلى ذهني بعد قراءتي لوثيقة حول السودان أصدرها «مشروع كفاية Enough project» في شتنبر 2011 بعنوان «ماذا يعني الربيع العربي بالنسبة إلى السودان». واللافت للانتباه أن مؤلف هذه الوثيقة هو جون برندرغاست John Prendergast ، الأكاديمي والناشط الحقوقي الأمريكي، الذي ساهم في تأسيس هذا المشروع عام 2007. وتطالب الوثيقة بضرورة انتهاج مسارين متلازمين للإطاحة بنظام البشير في السودان، أولهما تقديم الدعم السياسي والمالي واللوجستي إلى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني السودانية المطالبة بالديمقراطية، وثانيهما ذو طبيعة عسكرية، حيث يتم فرض منطقة حظر طيران فوق أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق مع تدمير قدرات حكومة الخرطوم الجوية. ويعترف برندرغاست بأن هذا التدخل العسكري، المدعوم غربيا في السودان، يمكن أن يؤدي إلى صراعات وفوضى في الأمد القصير كما حدث في الحالة الليبية؛ بيد أن ذلك -على حد زعمه- يمثل أخف الضررين مقارنة بمساوئ النظام المستبد الحاكم الذي يدخل في حرب مفتوحة مع شعبه. وبغض النظر عن طبيعة التوجهات الفكرية والإيديولوجية الحاكمة لمثل هذه المراكز البحثية والحقوقية في الولاياتالمتحدة والغرب، فإنها في إطار الصورة الذهنية الغالبة على السودان تجد آذانا صاغية وتؤثر في عملية صنع القرار الدولي تجاه السودان. وهذا هو مبعث الخطورة في هذه الدعوات والكتابات الغربية لأنها تؤسس لتدخل دولي جديد في المسألة السودانية، الأمر الذي يطرح جديا مخاوف التقسيم والبلقنة مرة أخرى في شمال السودان. ما الذي حدث خطأ؟ لقد انعقدت الآمال على اتفاق السلام الشامل الذي وقع بين شمال السودان وجنوبه عام 2005 من أجل وضع حد نهائي لحالة الحرب الأهلية بين السودانيين، بيد أن التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة الحزام الحدودي قد خيبت الآمال وأعادت إلى الأذهان شبح التمردات العسكرية واسعة النطاق؛ ففي 20 مايو 2011 اجتاحت قوات الجيش السوداني منطقة أبيي المتنازع عليها وتمت السيطرة عليها بالكامل. وفي 5 يونيو 2011، قامت حكومة الخرطوم بعمليات عسكرية في ولاية جنوب كردفان، ولاسيما منطقة جبال النوبة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث انتقلت عدوى هذه الصراعات العسكرية إلى ولاية النيل الأزرق، فقاد حاكمها المنتخب، مالك عقار، تمردا مسلحا على النظام الحاكم في الخرطوم. والسؤال المطروح هنا يتمثل في أسباب اندلاع الصراع المسلح في المناطق الانتقالية الثلاثة، أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وطبقا لاتفاق السلام الشامل، فقد أعطيت أبيي حق تقرير المصير من خلال استفتاء عام تقرر بمقتضاه الانضمام إلى الجنوب أو إلى الشمال، وكان من المفترض أن يجري ذلك الاستفتاء بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان، ولكنه أجل إلى وقت غير معلوم. أما وِلايتا جنوب كردفان والنيل الأزرق فقد مُنحتا حق المشورة الشعبية ليقرر المواطنون في كل منهما طبيعة العلاقة مع الحكومة الفيدرالية في الخرطوم. ومع ذلك، فإن تلك العملية اكتنفها الغموض ولا تزال موضوعا للخلاف والجدل السياسي. وثمة أوجه تشابه عديدة بين الولايتين الحدوديتين؛ فرغم انتمائهما إلى شمال السودان، فإنهما احتفظتا لفترات طويلة بعلاقات وثيقة سياسيا وعسكريا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وذلك خلال سنوات الحرب الأهلية (2005-1983). ولا أدل على ذلك من أن مالك عقار الحاكم المنتخب لولاية النيل الأزرق، الذي أقاله الرئيس البشير لاحقا، هو في الوقت نفسه زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان/فرع الشمال. ومن المعلوم أن الحركة الشعبية لتحرير السودان في كل من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق تحتفظ بجنودها وعتادها العسكري، إذ إن هؤلاء الجنود الذين قاتلوا في صفوف التمرد الجنوبي سنوات طويلة لا يمكن إرسالهم جنوبا إلى جوبا لأنهم -ببساطة شديدة- ينتمون إلى الشمال. فهم يعيشون وسط أهليهم وفي أوطانهم. وبغض النظر عن مستوى الرد العسكري الذي لجأت إليه حكومة الخرطوم، فإنه يستبطن مخاطر التصعيد وغلبة الأمني على السياسي في التعامل مع المناطق الحدودية المهمشة تقليديا؛ فقد تم إعلان حالة الطوارئ في ولاية النيل الأزرق وعزل حاكمها المنتخب مالك عقار، بل الأكثر من ذلك أنه تم حظر الحركة الشعبية لتحرير السودان/فرع الشمال باعتبار وجودها مخالفا لقوانين الأحزاب السياسية السودانية. مخاطر الجنوب الآخر الجديد في أواخر شتنبر 2011، أصدرت جماعة الأزمة الدولية تقريرا بعنوان «ضرورة وقف انتشار حرب أهلية جديدة في السودان»، وذلك على ضوء العمليات العسكرية الدائرة في ولاية النيل الأزرق وما ترتب عنها من عمليات نزوح وتشريد للسكان المدنيين، وهو ما استدعى من الأممالمتحدة التدخل والتحذير من حدوث معاناة إنسانية هائلة في الولاية. ويبدو أن معالم الصورة الأساسية تتكرر في السودان وإن اختلفت أشخاصها ومسارح أحداثها؛ فثمة تمرد مسلح يستند إلى أوضاع موروثة من التهميش وعدم المساواة يقابله نزوع من جانب السلطة الحاكمة في الخرطوم إلى تفضيل الحل العسكري. وتصبح النتيجة، بلا شك، هي زيادة بؤس ومعاناة المدنيين، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام التدخل الدولي الذي يلتحف، في الغالب الأعم، برداء أخلاقي وإنساني زائف. ويبدو أن قوى التمرد تحاول توحيد صفوفها من أجل تغيير النظام في الخرطوم؛ ففي 8 غشت 2011، اجتمع عبد العزيز الحلو، زعيم المعارضة المسلحة في جنوب كردفان، مع بعض قادة التمرد المسلح في دارفور وأعلن عن قيام تحالف جديد يهدف إلى الإطاحة بنظام الخرطوم عنوة باستخدام القوة المسلحة والاحتجاج الشعبي. والمثير للانتباه أن نحو ألفين ممن ينتسبون إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة التوم هجو قد أعلنوا انضمامهم إلى هذا التحالف الجديد، كما وعد مؤتمر البجا في شرق السودان بالعودة إلى صفوف المعارضة المسلحة. إن ملامح تشكيل جنوب آخر في السودان الشمالي تبدو مكتملة، وهو ما يعني أننا أمام إمكانية حقيقية لعودة الحرب الأهلية على نطاق واسع مرة أخرى في السودان ما لم يتم احتواء هذه المخاطر والتعامل بحكمة مع أسبابها الحقيقية؛ فالصراع الجاري حاليا في النيل الأزرق يمكن أن يمتد ليتجاوز الحدود إلى جنوب السودان. وربما يؤثر ذلك -ولو من طرف خفي- على الصراع في دارفور ولاسيما بعد عودة خليل إبراهيم، زعيم حركة العدل والمساواة، من ليبيا واستقراره في السودان. وأحسب أن مكمن الخطورة الحقيقي يتمثل في مزيد من التدويل لمشاكل السودان في الشمال، فثمة تقارير دولية تفيد بأن المناطق الحدودية مع جنوب السودان تشهد ارتفاعا في معدلات التسليح وانتشار القوات والمليشيات المسلحة، كما أن أعداد النازحين إلى إثيوبيا جراء الحرب في ولاية النيل الأزرق بلغت الآلاف. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مطالبات الجمعيات الحقوقية والمراكز البحثية في الولاياتالمتحدة والدول الغربية الداعية إلى التدخل الحاسم في السودان، اتضح لنا وجود إمكانية حقيقية لإضفاء الشرعية الدولية على أي تمرد مسلح يأخذ على عاتقه مهمة تغيير النظام الحاكم في الخرطوم. ومع ذلك، تظل الفرصة سانحة أمام النظام الحاكم في السودان لتفويت هذه الفرصة على المتربصين به في الداخل والخارج من خلال الولوج إلى خارطة طريق واضحة المعالم لتأخذ بيد السودان، بعد أن فقد ظهيره الجنوبي، إلى طريق الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. فليتسع السودان الجديد في الشمال لأهله كافة على اختلاف أعراقهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية وليصبح نموذجا تتحقق من خلاله الهوية السودانية الجامعة، ذلك هو المخرج والمفر. حمدي عبد الرحمن