جون لوك.. قد تكون نفس الإنسان لكن ليس نفس الشخص الحلقة8 هذه الحلقات مترجمة عن كتاب باللغة الانجليزية تحت عنوان: HYSTORY OF PHILOSOPHY ) LITTLE A)، («بعض من تاريخ الفلسفة»)، وهو صادرعن مطبعة ( yale university press) لمؤلفه « نيجيل واربورتون»، أستاذ لمادة الفلسفة بجامعات لندن بانجلترا. هذا المؤلف الظريف، المفيد، والممتع، يستعرض تاريخ الفكر الفلسفي من خلال تعاقب لأكبر وأشهر الفلاسفة الغربيين عبر التاريخ منذ عهد الإغريق، كما يطرح، بأسلوب سلس، عصارة أفكارهم وطرق عيشهم، وكذا الأحداث الغريبة والطريفة التي صادفتهم في حياتهم، وكيف مارسوا نظرياتهم في واقعهم المعاش. كيف كنت عندما كنت طفلا رضيعا؟ إذا كانت لديك صورة خلال هذه الفترة حاول أن تنظر إليها. ماذا ترى؟ هل، فعلا، أنت هو هذا الذي في الصورة؟ من المحتمل أنك اليوم مختلف تماما. وهل تتذكر كيف كنت وأنت رضيع؟ كثير منا لا يستطيعون ذلك. فكلنا نتغير مع الوقت، نكبر، نتطور، ننضج، ثم نضعف وننسى كثيرا من الأشياء. إن السؤال حول ما الذي يجعل شخصا ما هو نفسه رغم مرور السنوات يعد واحدا من الأسئلة التي حيرت الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 - 1704). كان لجون لوك، كغيره من الفلاسفة، العديد من الاهتمامات. وكان متحمسا للاكتشافات العلمية لصديقيه "روبير بويل" و"إسحاق نيوتن"، ومنخرطا في عالم السياسة، كما ألف كتبا في التربية. وبسبب الحرب الأهلية الإنجليزية فر لوك إلى الأراضي المنخفضة بعد اتهامه بالتآمر على قتل الملك المتوج حديثا، شارل الثاني. من هناك كان يدعو إلى التسامح الديني، مؤكدا على أنه من العبث إرغام الناس على تغيير معتقداتهم الدينية عبر تعريضهم للتعذيب. إن نظرته المتمثلة في أن لنا حقا إلهيا في الحياة والحرية والسعادة والتملك أثرت كثيرا في الرواد الذين وضعوا دستور الولاياتالمتحدة. إن إحدى معتقدات لوك تتمثل في أن عقل طفل رضيع مثل ورقة بيضاء. نحن لا نعرف أي شيء عندما نولد، وكل معارفنا تأتينا عبر التجارب التي نعيشها. لقد انتقل لوك من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب حيث صار فيلسوفا شابا. اكتسب كل أنواع المعرفة وأصبح الشخص الذي نعرفه الآن بجون لوك. لكن بأي معنى يكون لوك هو ذاته الشخص الذي كان وهو طفل رضيع؟ وبأي معنى كان لوك، في منتصف عمره، هو ذات الشخص في شبابه؟ إن مثل هذه الأسئلة لا تنتصب فقط في حالة الكائن البشري وعلاقته بالماضي. وكما يلاحظ لوك، فهذا السؤال يصبح إشكالية أيضا حتى عندما نفكر في... الجوارب. تصور أن لك جوربا به ثقب، وقمت بترقيعه، ثم حصل ثقب آخر قمت أيضا بترقيعه، وهكذا دوليك إلى أن صار الجورب كله عبارة عن مجموعة من الرقع ولم يبق منه أي قطعة أصلية. هل سيبقى هو الجورب ذاته؟ بمعنى من المعاني سيبقى هو ذاته، وذلك بحكم استمرارية القطع من الجورب الأصلي إلى الجورب المرقع كليا. لكن، وبمعنى آخر، لن يظل الجورب المرقع هو الجورب الأصلي ذاته. وذلك بسبب عدم بقاء أية قطعة من المادة الأصلية. أيضا، لنفكر في شجرة البلوط. فهي تنمو من جوزة البلوط، وتفقد أوراقها كل سنة، ثم تكبر وتسقط فروعها، لكنها تظل شجرة البلوط نفسها. فهل جوزة البلوط هي تلك النبتة ذاتها التي تمثلها الشتلة؟ وهل هذه الأخيرة هي النبتة ذاتها المتمثلة في الشجرة العملاقة؟ فأنت هو الكائن الحيواني ذاته الذي كان رضيعا. ويستعمل جون لوك كلمة "إنسان" (man) للإحالة على الحيوان البشري، ونظن أنه من الصواب، بهذا المعنى، أن كل واحد منا يبقى هو ذاك "الإنسان" نفسه على مر السنين. فهناك استمرارية في حياة الكائن البشري التي تتطور على مر السنين. لكن، بالنسبة لجون لوك، فكونك "الإنسان" ذاته يختلف تماما عن كونك "الشخص" ذاته. فقد أكون نفس "الإنسان"، لكن ليس نفس "الشخص" الذي كنته في السابق. كيف يمكن هذا؟ ما يجعلنا أن نكون نفس الشخص عبر السنين هو، بنظر لوك، "وعينا" و"إدراكنا لذواتنا". فما لا تقدر على تذكره ليس جزء منك كشخص. بعض الناس يظنون أنه من الممكن أن يتساكن أكثر من "شخص" في جسد واحد. هذا هو ما يعرف باضطراب الشخصية المتعددة. لقد استبق لوك هذا الاحتمال وتصور شخصين مستقلين تماما أحدهما عن الآخر، يسكنان نفس الجسد، حيث يحضر أحدهما في النهار والآخر في الليل فقط. إذا كان هذان العقلان لا يتداخلان مع بعضهما فإنهما عبارة عن شخصين مختلفين، حسب لوك. يرى لوك أن إشكالية الهوية الشخصية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمسؤولية الأخلاقية. فهو يعتقد أن الله لن يعاقب الناس إلا على الجرائم التي يتذكرون أنهم ارتكبوها. الذي لم يعد يتذكر قيامه بالذنب ليس هو نفس الشخص الذي ارتكب الجرم. في الحياة اليومية غالبا ما يكذب الناس بخصوص ما يتذكرون وما لا يتذكرون. بالتالي، فإذا ادعى أحدهم أنه لم يعد يتذكر ما قام به من أفعال يكون القضاة غير مستعدين لمسامحته. لكن، ولأن الله يعلم كل شيء، فإنه سيكون قادرا على تحديد من يستحق العقاب ومن لا يستحقه. إن النتيجة المنطقية لنظرية لوك ستكون كالتالي: إذا سقط أحد النازيين في أيدي العدالة التي تتعقبهم، فلن يؤاخذ هذا النازي، الذي اشتغل في شبابه كحارس لمعسكرات الاعتقال، سوى على الجرائم التي يستطيع تذكرها. كما أن الله قد لا يعاقبه على الأفعال التي نسيها وذلك رغم أن المحاكم العادية لن تمتعه بفائدة الشك. إن نتيجة هذه النظرة هي أن ثمة احتمالا بأنك لست نفس الشخص المتمثل في الرضيع على الصورة. فأنت نفس الفرد، لكنك لا يمكنك أن تكون نفس الشخص، إلا إذا كنت قادرا على تذكر كونك رضيعا. فهويتك الشخصية لا تتجاوز الحدود التي تتذكرها من الماضي. وبما أن ذاكرتك تخفت عبر مر السنين، فإن المدى الذي تصل إليه كينونتك كشخص يتقلص أيضا. خلال القرن العشرين قدم الفيلسوف السكوتلاندي، توماس رايد، مثالا يبين من خلاله ضعف أطروحة جون لوك حول الشخص. فالجندي العجوز بإمكانه أن يتذكر شجاعته في إحدى المعارك عندما كان ضابطا شابا. ويستطيع أيضا أن يتذكر، وهو في شبابه، كيف تلقى ضربة عندما كان طفلا بسبب سرقته لتفاحة من إحدى الضيعات. لكنه في عمره المتقدم لم يعد يتذكر هذا الحدث الذي وقع له في طفولته. بكل تأكيد، فهذا النموذج من الذاكرة المتداخلة قد يعني أن الجندي العجوز ظل هو الشخص نفسه الذي كان طفلا. لكن، وحسب نظرية جون لوك، فالجندي العجوز إذا كان هو الشخص ذاته الذي كان شابا شجاعا، إلا أنه لم يعد ذات الشخص الذي ضرب في طفولته (لأن الجندي نسي هذا الحادث). غير أن الجندي الشاب مازال، حسب نظرية لوك، هو الشخص ذاته الذي كان قد ضرب وهو طفل (لأنه يتمكن من تذكر هذا الحادث). نحن ننتهي إذن، إلى الخلاصة السخيفة بأن الجندي العجوز هو نفس الشخص في مرحلة الشباب، وهذا الأخير هو الشخص ذاته في مرحلة الطفولة. وفي نفس الوقت، رأينا كيف أن الجندي العجوز والطفل ليسا نفس الشخص. وهذا لا يستقيم في علم المنطق. إنه كما لو قلنا أن ألف = باء وباء = جيم لكن ألف لا تساوي جيم. ويبدو أن الهوية الشخصية تعتمد على الذاكرات المتداخلة وليس على مدى تذكر كل شيء، كما ظن جون لوك.