ذات مرة، قال أرْنِسْتْ هِمِنِجْوايْ في حوار: «على الكاتب ألايُحْرقَ كلَّ أوراقه»، أي يكتب أشياءَ، ويترك الباقيَ لوقتٍ آخرَ، كيلا يُبَذّر ما في حوزته من أفكار وأحداث ووقائع، لأن الكتابة تتطلب الامتلاء. وإلاّ لِماذا نكتب أصْلا، إذا كنا لانَدَّخِر مانقوله؟ ولعل طفولةَ كلٍّ منا هي إحدى الآبار العميقة والْمَليئة، التي ينبغي أن نسقيَ منها ذكرياتنا الْحلوة والْمُرة. ولاأظن أن أحداً منا لايَمْلك مايقوله عن تلك الْمَرحلة، التي تعقُبها مرحلة الشباب، وهي أيضا زاخرة بالأحلام والآمال الْعِراض، والْمواقف الْمُتشنِّجة، والصراعات الأسرية والاجتماعية الْمُحْتدمة. وما أن يتخطى الإنسان هذه الْمَرحلة الشبابية، لينتقل إلى الرجولة، حتى تترزّن خطواته، وتنْدُر صراعاته. وطبعا، هناك من يتمادى فيها إلى آخر حياته!.. فهذه دورة حياتية حتمية، نَمُرّ منها جَميعا، كما تَمُرّ مِنْها الدول، كبُر شأنُها أوصغُر. قال تعالى: «وتلك الأيام نُداولُها بين الناس».. لذلك، قلت في نفسي، وأنا أكتب هذه الْمُذكرات: لِماذا لاأعود إلى عالَم الطفولة، أغترف منه لَحَظاتٍ، عاشها طفل مثلي، ففيها سنكتشف معا مشاهدَ من حياة الْمَغاربة، في منتصف القرن الْماضي الأول، وكيف كانت الْحياةُ تُعاش..! إن أول ما أثار فُضولَ الطفل، وهو صغير، أَوْ لِنَقُلْ بتعبير أَصَحَّ، كيلا نبالغَ، عندما بدَأَ يُحسّ بالْمَسؤولية، وعليه أنْ يَخُطّ لنفسه طريقا كسائر عِباد الله فوق هذه الأرض، هو وِلادَتُهُ في (درب الْحَمّام) بِحَيِّ (رَحْبةِ الزَّبيب) الْمُحاذي لِمَسْجد (الرّصيف) وأُطْلِق عليه هذا الاسْمُ، لأنّ له بابا يؤدّي إلى (سوق الرّصيف) الذي يعرض كلَّ ماطاب من الْخُضر، وماحلا من الفواكه، ومانضِج من لَحْم الْبَرِّ والْجَو والبحر، وسواء النيِّئ منه أو الْمُقَدَّد والْمُصَبّر، ومازال لِحَد الساعة، مابُدِّل تَبْديلا. فكان هذا الطفلُ يَحْمل سلّةً أوقُفّة، ويقتفي أثَرَ أبيه، ليتعلّم الْمَبادئَ الأولى في الْحَياة، ألاوهي البيع والشراء، والْمُساوَمة والانتقاء، وماتفرضه مسؤولية البيت، والْحَياة الدنيا! أمّا (دربُ الْحَمّام) فإنّه كان، بالنسبة له ولأصدقائه، عاديّا كباقي دروب الْمَدينة، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي جلس فيه القُرْفَصاءَ، في زاوية من زوايا مسجد الرصيف، يُصْغي إلى درس ديني، يلقيه فقيه. فاستطرد هذا الأخير في الكلام، كعادته دائما، وأشار إلى كتاب قديم بين يديه: ألاتَعْلمون أن هذا الكِتابَ، الذي تروْنه، طُبِع في مطبعة على مَرْمى حَجَر منا، وهي أول مطبعة بالْمَغرب، كانتْ بدرب الْحَمّام؟! لَمْ يشعر الطفل بنفسه، إلاّ وهو يرفع صوته الرقيقَ بسؤال: أُريد أن أعرفَ، ياسيدي، في أيِّ دارٍ كانت هذه الْمَطبعة؟ صاح في وجهه بعضُ الْحاضِرين، غاضبين ساخطين بأن يُقْفِل فَمَه، إذا أراد أن يظلّ معهم، فاعترض عليهم الفقيه عابسا: مالكم والطفلَ؟!.. اُتْرُكوهُ يسألْ!..ألَمْ تقرأوا قوله سبحانَه: «عبَس وتوَلّى أنْ جاءَه الأعْمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكرى...»؟! نطق رجل بصوت مَبْحوح: ولكن هذه الآياتِ تَخُصّ أعْمى البَصر! ردّ الفقيه فوْرا، كأنّ جوابَه كان على طرَف لسانه الطّليق، ينتظر نوْبَتَه ليقفز من فمه: وهذا الصّبي أعمى الْبَصيرة، فَما الضّرَر في أن يسأل؟! تشَجّع الطفل، فأرْدَف قائلا: أنا من سُكّان الدّرب، ياسيدي! في أيِّ دار تقطُن؟ الدار الأولى على اليمين! اِبْتَسمَ الفقيهُ مُلاحظا: كل الدّور على اليمين، لأن حائط مسجدنا هذا يشْغَل اليسارَ، وأنت داخل إليه!.. ما علينا، إنْ كنتَ، فِعْلا، تسكن الدارَ الأولى، فإنّني أُبَشِّرك، ياولدي، بأنّ أول مطبعة بالْمَغرب، كانتْ توجد فيها! ثُمّ أضاف قائلا، وهو يتوَخّى أن يُخَفِّف من التَّوتُّر الذي رانَ بُرْهةً على جوِّ حَلقة الدرس: هل تتوسّط لي لدى أبيك فيطبعَ كتابي؟ اِلْتَفَتَ الْحاضرون إلى الطفل القاعد في الْخَلف، وأطلقوا ضَحْكَةً أخْجَلَتْه، فيما لاذَ هو بالصّمت الْمُطبَق! منذ ذلك اليوم، والطفل ينظر بفَخر إلى دربه وبيته، حتى أنه، ذات مساء، بكى بكاءً مُرّا، عندما قرّر والداه أن يرحلا إلى حي آخر، ودار أخرى، فعدَلا عن فكرتِهِما، حينما أقنعهما بالبقاء، مُتَعَلِّلا بوجود الْمَسجد قريبا، يصلي فيه، ويتلقى بين جَنَباته الدروس الدينية! وبِالْمُناسبة، فإن هذه الدروسَ كانت تشحَذ خيالَه، بِما يطرحه بعض الْمُتَتَبِّعين لَها من أسئلة عجيبة غريبة، تُحَفِّز عقلَه على التفكير. ومِمّا يذكر أن رجلا سأل الْفقيه: هل يَجوز لِلْمُرشد السياحي أن يتكلم باللغة الأجنبية في رمضان؟ فعبس الفقيه قائلا: أيُّها الأبله، وماذا تقول عن الإيرانيين والأفغانيين والشيشانيين، بلْهَ الفرنسيين والإسبانيين الْمُسلمين، الذين لايَنْطِقون إلالغتَهُم؟! وسأله آخر: هل يَجوز أن يصعد الرجل الدُّرْجَ وراء امرأة بدينة؟وقبل أن يرد عليه، بادر عجوز بصوت مبحوح: يَجوز في النزول، ولايَجوز في الصعود!ضحك الفقيه: غدا، سأُخْلي لك مكاني، لتقعد فيه، فتنوبَ عني، أيُّها العالِمُ الْعَلاّمة، والفاهم الْفَهّامة! وكان هذا الْمَسجد يشهد حركةً دائبةً من الْمُتَظاهرين، الْمُطالبين برحيل الْمُسْتَعْمرين، فيتجمَّعون في رِحابِه ليقرأوا )اللَّطيف( ثُمّ ينطلقون من بابه الْمُفْضي إلى الرّصيف، ليجْتازوا طريقا طويلا، وهم يردّدون الشعاراتِ التي تندِّد بالاحتلال، ويُكَسِّرون أبواب الدّكاكين الْمَفتوحة، وأبوابَ منازل الْخَوَنة. ويذكر يوماً من سنة 1954 كانت فيه حُشود من الْمُتظاهرين، إذا قال، مثلا، ثلاثة آلاف، فقلْ أنتَ بالْفَمِ الْمَلآن ولاتَخجلْ أوتتردّدْ، ستةَ آلاف؛ حشود ليس لَها أول يُعْرَف، ولاآخر يوصَف!.. أطلق عليها الْجُنودُ وابِلاً من الرصاص، فسقط منها من سقط، وفرّ الباقي لتبتلعَه الدروب الْمُلْتَوية، التي كان الْجُنود يَخْشَوْن أن يُغامروا ويُخاطروا بِحَياتِهِم فيدخلوها. وبقي هو وأصدقاؤه مُتَسَمِّرين في مكانِهم، إلى أن حَضر بعض الْمُتَعاونين مع الْمُسْتعمرين، وألقوا عليهم القبض، ثُمّ تفرّسوهم بعيونٍ تتطاير شَرَرا، واحدا واحدا، وأخيرا، أومَأ مُقَدَّمٌ لَحيمٌ، أصْلعُ الرأس إلى الطفل، الذي كانت فرائصه ترتعد خوفا، حتى أنّه بلّل سِروالَه القصير، ونزل الشَّلاّلُ عبرَ فَخِذَيه ليملأ فَرْدَتَيْ حذائه: هذا زعيمُهُمْ!..أنا متأكِّد مِمّا أقوله مِئة في الْمِئة! سأله جندي في دهشة: كيف عرفتَه؟! ردّ، وهو يفْتِل شُعَيْراتِ شاربِه الطويلة بعصبية، كمَنْ يستعرض عضَلاتِه: عيناه تتلأْلآن، كعيني الْهِرِّ في ظلام الليل الْحالك! وغَمَز شَخْصين، فأشْهرا عصاةً غليظة، طرفاها مربوطان بِحَبْل. وخلعا فَرْدَتَيْ حذائه، ثُمّ أدخلا قَدَمَيْه في الْحَبل، وأخذ يَهْوي عليهما بِحِزام جلدي، وجبينُه يرشَح عَرَقا، وطقْمُ أسنانه يُطِلّ بين الْحين والْحين، كأنّه يتأهّب للقفْز ليَتَخلّص من صاحبه، هو الآخر، فيما أصدقاء الطفل يبكون ويصرخون، ظنّا منهم أن دورَهم سيأتي بعدَه، لكن شيئا من ذلك لَمْ يَحْصُلْ بالْمَرّة! كان الْمُقَدَّم يَهْوي بكل قوته على القدمين الصغيرتين، بلارأفة أورحْمة، مُردِّدا بين الْفينة والأخرى: ألاتُريد أن تلْزَم حَدّك، أيّها الصّبي الطائش؟!خُذْ، يابْنَ الْكَلب، وتذكّرْنا دائما! أين أولائك الذين دفعوك إلى التّظاهر على أسيادِك؟! نادِ عليهم الآنَ أن يأتوا ليُنْقِذوك من أيدينا، إذا كانوا رجالا أفذاذا، ولدتْهُمْ أُمَّهاتُهُمْ أحْراراً! ولَمّا أخْلَوْا سبيلَه، ووَلّوا عائدين، الْتَقط صديقه )عبد العالي التّازي( حجَرا صُمّا، وكان يكبره بِحَوالَيْ ثلاث سنوات، وقذف به قَفا الْمُقَدّم، فانبَجَس الدّم منها جاريا على جلبابه الصّوفي الأبيض! أطلق الْمُقَدّم صيحةً عالية من أثَرِ الْقَذْفة القوية: ياوَيْلي، ياويْلي!أمسكوا بأولاد الزِّنى!لعنةُ الله عليهِم إلى يوم الدِّين! فأخذ بعض الْمُواطنين يتظاهرون بالْجَري والصِّياح وراءَهم، وهم يَكْتمون ضَحَكَاتِهِم، فيما أطلق الأطفال أرجلَهم للريح يسابقونَها، من حَيٍّ إلى حَيٍّ، إلى أن وصلوا رحبةَ الزَّبيب، فدَلَفوا إلى بيوتِهم هَلِعين فزِعين، ولَمْ يُغادِروها إلا بعد أيّام قليلة، حين هَدَأ الْوَضْع تَماما، ولَمْ تَعُدِ العيون مبثوثةً، هُنا وهُناك، وعادتِ الْحَياةُ إلى حالِها الطبيعي (مُؤَقّتا طَبْعا)!