قضيت الصبيحة أحوم حول بيت الطبيب والطبيبة مرة أخرى. وعندما عدت إلى بيت الوالدة لم يهتم بي أحد كالاهتمام الذي لقيته بالأمس. حالة من القلق غير عادية ظهرت على الوجوه. وفي العيون. الوالدة وفضيلة كانتا جالستين في صحن الدار وتتطلعان إلى الوالد و هو يمشي ويجيء في الغرفة، وينظر إلى صور معلقة على الجدار. أصلع الرأس منتوف الحاجبين. كشخصية خارجة من رسومات أخرى. لم أكن أنتظر مشهدا كالذي أرى أمامي. على الأرضية مجلات وصور عديدة مرمية في كل اتجاه. لم أهتم كثيرا للأمر. جئت إلى بيته لأنني بحاجة ملحة إلى المال. بالأساس من أجل زينب التي لا أعرف بأي أرض نزلت. عندما دخلت كان حافي القدمين بجبة خفيفة على جسده، رأسه أصلع وحاجباه اختفيا. وعيناه منتفختان. كأنما بات يسكر ولم يجد الوقت للنوم. لا، لقد قضى الليل وهو على هذه الحال. لم ينم. بات يقص الصور التي يظهر فيها إلى جانب الملك ويعلقها على الجدران. أو يوزعها على الزليج. أحيانا يقف أمام إحدى الصور ويعلق عليها بكلمتين، ثم يردد بعض الآيات وينصرف إلى صورة أخرى. من الممكن كتابة قصص مثيرة حول هذا المشهد. ولكنه لن يكون مضحكا. ماذا يمكن أن تقول عن رجل أصلع الرأس منتوف الحاجبين، ويهذي أمام صور معلقة على جدار؟ اغرورقت عينا فضيلة بالدموع فقالت: هل أحضر لك كأس شاي وكسرة خبز قبل أن تسقط مغشيا عليك من الجوع؟ لقد لاحظت هزالي. وحالتي التي تضعضعت. ولكنني لا أرغب في الأكل. طلبت قهوة سوداء. وجلست بينما قصدت فضيلة والوالدة المطبخ لتحضير القهوة. وقفت من جديد وأنا أتساءل: ما الذي أتى بي؟ بدا لي أنني أخطأت. منظره مثير للشفقة فعلا. كان واقفا لا يتحرك وينظر الى قدميه. لم يكن ينظر إلي. جاءت فضيلة بصينية نحاسية وعليها فناجين من القهوة. ورشفت جرعة. القهوة باردة. خرج الوالد من الغرفة. وقف أمامي. قال وعيناه لا تزيغان عن قدميه الحافيتين: وإذن فقد صرت تكتب الاسكيتشات؟ تضحك الناس مثلي؟ هاهاها. هل تتوقع أن يمر ملك البلاد ليأخذك إلى قصره؟ مضى ذلك الزمان. أمر كهذا لا يحدث سوى مرة واحدة. وقد حدث والله يجعل فيه البركة. ينظر الآن إلى المائدة بيننا. وإلى فاجين القهوة. هل تنوي فعلا أن تعيش من عمل كهذا؟ قال، ودون أن يرفع بصره عن المائدة. لم يكن هدفي في الحياة أن أكتب اسكيتشات أسب فيه الحكومة. ولكن الان مع كل هذه الفوضى.. انفجر في ضحك عال واتجه نحو المطبخ. ثم عاد إلى مكانه وإلى وقفته. لماذا لا تكتب لي قصصا أسب فيها الحكومة ولو مرة واحدة في حياتي؟ بدت لي وضعيته بئيسة. كنت أنظر إليه وأتساءل إن كنت أستطيع الحصول على المال الذي أحتاج من رجل مثل هذا. هل قام في حياته بعمل نافع واحد حتى أظن به خيرا؟ هل يعرف كيف قضينا طفولتنا عندما تركنا؟ هل يعرف أننا كنا ننتظر فضلات الجيران؟ وما هي هذه الفضلات؟ بقايا بطاطس تعوم في قليل من المرق. لم نحظ يوما بحبة بطاطس كاملة. دائما أنصاف بطاطس وأحيانا كثيرة أجزاء صغيرة كحبات حمص تكون أصابع أخرى قد عجنتها ولعبت بها. ولكنها كانت لذيذة بالنسبة لأطفال صغار لم يأكلوا شيئا طيلة النهار. بينما أنت تهز بطنك في الحفلات وتسمن في الولائم. ما الذي أتى بي؟ كنت حانقا وأنا أراقب حركاته ونظرته الفالتة. قال بعد لحظات: تريد أن تخلفني في مهنتي؟ لهذا تسب الحكومة؟ حتى تضمن مستقبلك على حسابي. أنت محظوظ لأنك ستمر من الباب الواسع. ستقول لهم عند الباب أنا ولد بلوط المهرج. وسيفتحون الباب أمامك على اتساعه. كيف لا تعتبر نفسك محظوظا ولك والد مازال يشتغل مهرجا في القصر. تقريبا. لولا هذه الانتفاضة. هل مرت؟ نعم لقد مرت بسلام. وما عليك سوى أن تتقدم من أول باب وتعلن عن هويتك. لن تعرف قيمة الحظ الذي وضعه الله بين يديك حتى اليوم الذي تفهم فيه أن العمل ليس ملٍقى على الطرقات. ما الذي ينقصك حتى تعوضني في مهنتي؟ بالنسبة لي لا شيء. فقط الرغبة والثقة في النفس. أما الحظ فأنا كفيل بتوفيره لك. غدا ستبدأ حياتك الجديدة. سأتوسل إلى جلالته ليقبلك كمهرج ثان إلى جانبي. هكذا عندما أعتزل تكون قد تعلمت الحرفة. إنهم في حاجة إلى مهرج جديد. ما الذي أتى بي؟ فعلا، لقد أخطأت طريقي. كنت قد ابتعدت عن البيت عندما سمعته يصيح خلفي. الهلع أوقفني. كأنما دمي توقف عن السريان في ساقي. باللباس الصفيق نفسه والقدمين الحافيتين وشكله الغريب غير الآدمي. وقف يصرخ إنني أجهزت على كل أمل في عودته الى العمل، وفي الحياة: تريد أن تقتلني يا عدو الله؟ ترسلني إلى السجن؟ تتطاول على الوزراء؟ تضحك علي الحكومة؟ تتهجم على أسيادك الذين يطعمونك أيها الكلب. لعنة الله عليك إلى يوم الدين. سأتنقل بين بيوت معارفي من ضباط ووزراء ورجال أعمال لأتبرأ منك. أنا أحب الملك والحكومة. أحب بلادي وأموت من أجلها. سأشرح لهم كل هذا. الواحد بعد الآخر. تريد أن تقتلني يا عدو الله. أنت هو السبب. ضيعتني يا عدو الله. لا يوجد ولد على ظهر الأرض يتلذذ برمي والده في زنازين حبس منسي. سأشرح لهم أنه لا دخل لي فيما تفعل. لعنة الله عليك. كنت ولدا عاقا منذ طفولتك. أمام الشهود سألعنك. لعنة الله عليه إلى يوم الدين. لعنة الله عليه إلى يوم الدين. لا أنا و الدك ولا أنت ولدي. عيناه حمراوان ورغوة بيضاء تعلو شفتيه اليابستين. حمله بعض المارة إلى البيت بعد أن سقط مغشيا عليه. وضعناه على السرير. لباسه اكتسى بلون التراب الذي تمرغ فيه. عندما استعاد وعيه بدأ يشتكي من ألم في رأسه. كأنما شخص ما يشد عروق رأسه وينقر عليها لحنا يعذبه. مع حلول الظهر تضاعف ألمه فبدأ يهذي. يقول إنه يتلقى رسائل مجهولة يهدده أصحابها. زروال الأحدب الذي أصبح مهرجا خاصا يأمره بأن يغادر البلاد إلى اي منفي يختاره. إن له أعداء كثيرين. للإيقاع به ينصبون له فخاخا عديدة. ويطلبون منه أن يتخلى عن نكته التي قالها في حضرة الملك لكي يحرقوها. غاب مرة أخرى. غيابه استمر نصف ساعة تقريبا. كان صديقه الحلاق قد وضع خرقة مبللة على رأسه وهي التي أيقظته. قال له الحلاق: هل تعرفني؟ لم يهتم بالسؤال. لم يفهمه. كان قد دخل مرحلة أخرى من الهذيان. محطته الأخيرة. قال: لو بدرت منه أية غلطة كيفما كانت هذه الغلطة عليهم أن يستدعوه ويسألوه ويستنطقوه كما يفعلون مع الجميع. بلوط ليس مجرما. ولكنه مستعد أن يخضع للاستنطاق حتى يبرئ نفسه من أي تهمة قد تكون ألصقت به. ولكن بشرط، أن يستنطقه الملك بنفسه. وابتسم كأنما أشرق في عقله بريق أمل بسبب قصة الاستنطاق هذه. لابد أن الملك سيستدعيه للاستماع إليه. ذات يوم بعيد كان قد استمع إلى قصته عندما قتل الجنود الثلاثة. --- قد يضحك مرة أخرى، خصوصا أنه هذه المرة لم يقتل أحدا. جميعكم، جميع من في الغرفة من الحلاق حتى بنته فضيلة تعرفون قصتي من أولها إلى آخرها وتلتزمون الصمت. وتتظاهرون أن لا علم لكم بها. وربما كنتم مشاركين فيها بطريقة ما. يتمعن في ملامحنا ويقول إنه يعرفنا واحدا واحدا. ويعرف الشراك التي نصبها له كل واحد منا. يعرف كل شيء منذ البداية. ثم أمسك بتلابيب جلابية الحلاق لأنه كان أقرب واحد إليه وبدأ يرجه رجا ويصرخ فيه أن يعترف بالمؤامرة. كان بلوط يصرخ كواحد انتابته حمى مفاجئة. لماذا لا يأتون عنده مباشرة. بعد كل هذه السنين، و يتهمونه في وجهه؟ أكلوا ماله وعروه حتى العظم وجرجروه أمام المحاكم ولا يملكون حتى الشجاعة الكافية لمواجهته. إنه بلوط، المهرج الخاص لجلالته. وكل شخص لايزال يشك في الأمر ليتقدم أمامه ويصرح بما يعرف وبما لا يعرف. كان بلوط يهذي وبقي يهذي طيلة نصف ساعة أخرى. جاء الطبيب. أعتقده مبعوثا من القصر. فبدأ يناديه سعادة الضابط، ويسأله هل يقبل أ ن يكتب له كل ما يملك حتى لا يرث أولاده فلسا واحدا. والطبيب يهز رأسه وهو يمسك بساعده ليقيس ضغطه. والوالد يحذره من آفة الزواج: لا تتزوج.لاتنجب اولادا ثم يمسك بيده ويحلم انه سيعود إلى القصر . وأن كل شيئ سيأخذ مجراه الطبيعي كما في السابق. بدأت الوالدة تبكي عندما قال إنه يشعر بالبرد. هذ هي التعاسة التي حاولت أن تخفيها عنا قد عادت إلى الظهور. طلب غطاء ولم يخف البرد الذي يشعر به. طلب الطبيب من الوالدة ألا تفقد الأمل. وأن تضع ثقتها في الله. وعندما يتكلم طبيب على هذا النحو فمعنى ذلك أن الموت لم يعد بعيدا عن البيت. ناوله الطبيب حقنة غفا بعدها لحظات. بعدها دخل في مرحلته الأخيرة. كف عن الكلام. بالإشارة فقط يتكلم. نصفه الأيمن شل. واعوجت شفتاه حتى لامستا أذنه. العجوز يبدو صغيرا وتافها. ومشوها وكأنما لم يعرف الشباب طريقا إلى حياته. يحملق فينا بعينيه الصغيرتين المشوهتين. كما لو كان يسخر. يبدو بالغ التشوه. ويبدو كما لو كانت هذه صورته منذ الأول. وقد بلغت الآن حدها الأقصى. من المستحيل أن تكون امرأة ما قد أحبته. أو حتى قبلته على فمه المنكمش المعوج والخالي من الأسنان. واليائس. قد يكون ولد على هذه الصورة. عجوزا عاجزا وبدون أسنان. يوسف فاضل: «من لا دارجة له لا عربية له» دأب يوسف فاضل على القول إن الزاد الأول للكاتب هو طفولته. وفيما يخص طفولته، فالصور الأكثر حضورا في هذه الطفولة هي صورة المخزن الذي كان يبث الرعب والخوف في نفوس الجميع. في ظل هذا العنف الذي نشأ في ظله الكاتب أضحت البلاد، بهذا العنف، تبدو له كغابة. ولم يعمل كاتبنا في نظره، سوى على الكشف عن ظلال هذه الغابة. أما الزاد الثاني الذي ركز عليه الكاتب فهو المدينة التي ينشأ فيها الكاتب ويشب. وما دامت الدارالبيضاء هي موطئ رأس الكاتب فلابد له، في كتاباته، أن يواجه هذا الغول حيث يعيش الأغنياء الوقحون إلى جانب المعدمين والفقراء المذلين. مدينة المتناقضات والمفارقات. أما الزاد الثالث للكاتب فهم الكتاب المفضلون لديه. وبالنسبة للكاتب فهو لا يخفي تعلمه من محمد شكري ومحمد زفزاف وآخرين، سواء على الصعيد العربي أو العالمي. والزاد الرابع للكاتب هو لغته. ويوسف فاضل يميل إلى لغة عارية تعري وتفضح ولا تنافق أو تتقنع بأقنعة ما. والعربية في نظره لا متعة فيها إلا لأنها تماحك الدارجة اللغة الأم. ولولا الدارجة، في نظر الكاتب، ما تحملت العربية كلكل القرون الماضية فالدارجة، في نظره، تضعه في مكانه وزمانه المناسبين. يقول: «من لا دارجة له لا عربية له«. الأعمال الروائية والمسرحية ليوسف فاضل 1983، الخنازير (منشورات الجامعة) 1990، آغمات (منشورات الفنك) 1992، سلستينا (منشورات نجمة) 1996، ملك اليهود (منشورات الرابطة) 2001، حشيش (منشورات الفنك) 2006، مترو محال (منشورات الفنك) 2008، حديقة الحيوانات (منشورات الفنك) إضافة إلى أعماله الروائية له مسرحيات: « حلاق درب الفقراء» و«صعود وانهيار مراكش» (مطبعة الأندلس 1980) «سفر السي محمد»: مؤسسة بنشرة (1984) «جرب حظك مع سمك القرش» (منشورات عيون 1978) .. إلخ. كما كتب سيناريوهات أعمال تلفزية وسينمائية وخاض تجربة إخراج فيلم تلفزيوني بعنوان «طعم الصداقة»