1 شاي على حساب نَجيب: كان ذلك في سنة 1992 عندما التقينا في مقهى الريش بشارع طَلْعَتْ حَرْب، وعلى بعد بضعة أمتار من مكتبتي مدبولي وشروق الشهيرتين بالقاهرة. اِلتفت إلي، وهو يتصفح بعض الكتب التي حَمَلْتُها له من الْمَغرب، فيما أنا أحتسي كأس شاي، وسألني: كيف حال الأديبين مُحَمد زفزاف وعبد الْجبار السحيمي؟ اِبتسمتُ، وتأخَّرتُ في الإجابة، فأردف يسألني ثانية: ما الداعي إلى هذه الابتسامة؟ أجبته، والابتسامة مازالت مُرْتسمةً على وجهي: أنْ تسألني عن مُحمد زفزاف، فهذا أمر عاديٌّ جدا، لأن شهرته طَبَّقَتِ العالَمَ العربي بِما نشر من قصص وروايات في الْمجلات الْمصرية واللبنانية. أمّا أن تسألني عن عبد الْجبار السحيمي، الذي نشر كل أعماله داخلَ الْمغرب، ولَمْ يكنْ يأبَهُ بالنشر في دول أخرى، أو يلهث وراءَ مؤتَمرات وأنشطة بِها، أو يُجْري حوارات مع كُتابِها وصِحافِييها، فهذا مافاجأني! تلألأتْ عيناه، واعتدل في جِلْسته على الكرسي الْخَشبي قائلا: اِسْمَع! ذات يوم، كنت متوجها إلى مقهى الفيشاوي، وفجأة، لَحِق بي مطبعي صائحا: ياأستاذ، ياأستاذ نَجيب، انتظر قليلا من فضلك! توقفتُ، وكنتُ أعرفه، فحياني: صباح الْخير، يا أستاذ! أجبته: صباح الفل! خيرا إن شاء الله! قال: لقد عُرِضتْ عليَّ هذه القصص لطبعها، وهي لكاتب مغربي، فأرجو أن تعطيني رأيك فيها! تناولتُ منه الْمَجموعة قائلا: سأطلع عليها، وغدا مُرَّ عليَّ! ما أنْ بدأتُ في قراءة القصة الأولى، حتى أحسستُ بأنني أقرأ شيئا جديدا، فأخذت ألتهمها صفحة صفحة، حتى أتْمَمْتُها في ذلك اليوم. وهنا عرفت أن كاتبها هو عبد الْجبار السحيمي، الذي لَمْ أكنْ أسْمعُ به من قبل. وكان الْمَطبعي يستعدّ لطبع الْمَجْموعة، لولَمْ يُصَبْ بالإفلاس، فأُغْلِقَتِ الْمَطبعةُ بالْمَرّة، بل شُمِّعَتْ! إنه كاتب جيد، يقتصد في اللغة، ويقول في سطور مايقال في صفحات، أي يركز على الْمَعاني ويكثفها، ويوجزها في جُمَل بليغة. ويغوص عَميقا في شخصياته، فهو يذكرني بالكتاب الروس، أمثال مكسيم غوركي وأنطون تشيكوف ودوستويفسكي ..هؤلاء نفذوا إلى عالَمِ الإنسان البسيط ونقلوا آلامه..إذن، هكذا عرفته! قلتُ له: يأبَى عبد الْجبار إلا أن يظلَّ مغربيا، فالْمَجموعة التي حدثتني عنها، لَمْ تصدُر بِمصر، ولا بأي بلد آخر، إنّما في وطنه بعنوان: (الْمُمْكن من الْمُستحيل). وفي الرحلة القادمة، سأحضر لك نسخة. وكل مرة، أزور مصر، أنسى أن آخذ له معي النسخة، إلى أن توفي، فقدّمتُ تعزيتي لزوجته وابنته، وبُحْتُ لَهُما برغبته في الْحُصول على الْمَجموعة! 2 شاي على حساب عبدالْجبار: لا أذكر تاريخ الْحادثة بالضبط، لكنَّها تعود إلى البداياتِ الأولى للكتابة عندي، وإنْ نشرتُ قبلَها مقالاتٍ بصحيفة (الشعب). ففيها حَفَّزَتْني نفسي على نَظْم قصة شعرية، تروي معاناةَ رجل تائه، لا يَمْلِك بوصلة في حياته، تَهْديه إلى الراحة النفسية. وهنا فكّرتُ في أيِّ الْمَنابر يُمْكنني نشرها، فقَرَّ رأيي على (العلم). وبِما أنَّ الفنَّان العربي الصَّبان كان زميلا لي في مِهْنَةِ التدريس، قبل أن ينتقل إلى أسرة تَحْرير العلم، فقد سلّمته القصة لنشرها في الصفحة الثقافية.طالتِ الْمُدّة، وأنا أنتظر بِحُرْقة نشرَها، حتى أصابني القلق، فعَزَمْتُ على زيارة زميلي، لأستفسر عن مآلِها، وما إذا كانتْ سترى النورَ أم لا؟!..وما أنِ اقتربتُ من مقر الْجَريدة بشارع علال بنعبد الله، حتى سَمِعْتُ صوتا يناديني، فالتفتْتُ ورائي، فوقعتْ عيناي على عبد الْجَبار السحيمي في الرصيف الآخر، وهو يُلَوِّح لي أنْ ألتحِقَ به! جلسنا إلى طاولة في الْمَقهى الْمُقابِل للمَقر، وقبل أنْ يُفاتِحَني في مسألة القصة، طلب مني أنْ آخُذَ مشروبا على حسابه، ثُمّ قال لي بوجه بشوشٍ: قرأتُ قصتك الْمَنظومة مرتين، وتبين لي ألاّ علاقةَ لك بالشعر، لأن هذا الفنَّ تطور كثيرا، ولَمْ يعدْ كلماتٍ مرصوفة، ولِهَذا أنصحك بالابتعاد عنه. ويظهر أنّ لك أفكارا تصلح للنثر أكثرَ مِمّا تصلح للشعر. أجبته ببرود، ودمي يغلي في عروقي: أنا لستُ شاعرا، ولنْ أكونَهُ، لأنني أمضيتُ طفولتي وشبابي في اللعب، وأقبلتْ عليَّ الدنيا ضاحكةً، وإنْ لَمْ تَخْلُ أحيانا من مُنَغِّصاتٍ. وشكرته، وأنا أصطنع ابتسامة، ثُمّ نَهَضتُ من على الكرسي لأنصرف، فجذبني من يدي قائلا: متى تأتيني بقصة نثرية أومقالة؟ أجبته متلعثما: حين..أشعر..برغبة في الكتابة! ولَمَّا كنتُ عائدا إلى بيتي، تبادر إلى ذهني مثال من سيرة الْعالِمِ الكبير أبي شُعَيْبٍ الدُّكَّالي، فتساءلتُ بيني وبين نفسي: أين أنا من أبي شعيبٍ، عندما أخطأ في قراءة آية، فضربه معلمه بلوحة خشبية، حتى فار الدم من جبينه، وأُغْمِيَ عليه، فقال عَمُّه الْمَسؤول عنه: (لاتقلقوا عليه، فإنْ تُوُفِّيَ ابنُ أخي من أجل الْعِلْمِ، فوفاته شريفة)! وبعد ثلاثة أيام، مَرَّ صديق عليَّ في مقهى، وقال لي مُعْجَبا: لَمْ أكُنْ أدْري أنك شاعر وقصاص، حتى رأيتُ قصتك الشعرية منشورةً هذا الصَّباح في الصفحة الثالثة من جريدة (العلم)! أصابتني دهشة، فقمتُ في الْحين، واقتنيتُ نسخةً من أحد الأكشاك. فوجدتُها، فعلا، على مدى نصف صفحة، مصحوبةً برسْم مُعَبِّر! لقد خشي عبد الْجبار أنْ أتأثّر بِمُلاحظته الوجيهة، فأحْجُم عن الكتابة بالْمَرَّةِ، وأنا مازلت شابا في مُقْتَبَل الْعُمْر. ولِهَذا نشرها ضِمْنَ موادَّ غير أدبية، وبِحُروف صغيرة! ولِماذا تراجع عن رأيه، فأقْدَم على نشرها؟! كان يتردد في ذلك العهدِ، أنَّ كاتبا أصدر مَجْموعةً قصصيةً، فوُوجِهَ بنقدٍ حادٍّ من قِبَلِ قاص وروائي كبير، مِمَّا جعل الكاتبَ يهجُر الكتابة، ويُطَلِّقها ثلاثا. فلو لَمْ يتأثر بالنقد اللاَّذع، لَتَفادى أخطاءه، وطَوَّر تَجْربته، وقطع شوطا طويلا في الكتابة، ورُبَّما أصبح كاتبا كبيرا، كسائر كُتَّابنا، الذين بدأوا الكتابة على الصفحات الأدبية، وانتقلوا إلى الْمَلاحق، وفي الأخير، توّجوها بالنشر في أمَّهات الْمَجلاّت العربية، ودور النشر، مثل الروائي الراحل مُحَمّد زفزاف، ومُبارَك الدْريبي، وهكذا! لَمْ أتوقّف عن الكتابة لِمُجَرَّد ملاحظته الصائبة، التي نبَّهَتْني إلى أنني لَمْ أُخْلَقْ لأكونَ شاعرا، إنَّما تابعتُ قراءاتي للآداب العربية، والغربية الْمُترجَمة، شعرا ورواية وقصة ونقدا وبَحْثا، أفرزتْ أعْمالا نقدية، نشرتُها في ملاحق العلم والبيان، وفي مَجلاّت سورية ولبنانية ومصرية،كالآداب والأديب والْمَوْقف الأدبي وإبداع، وجَمَعتُها في كتب، لتصدر في الْمَغرب وخارجه!..إنّها حالة عامة، يَمُرُّ منها كل الأدباء والفنانين في بداياتِهم. ويَحْضُرني ماحكاه لي الدكتور إبراهيم السولامي عن صديقه الْحَميم عبد الْجَبَّار، وكتبه في مذكراته، وبه أختِم: ((في كل مسيرة عَثرات ومعاناة، وإثارات للمخالفين والناقمين، أذكر لك مِمّا أقول صورتين: عليك أن تعرف أن عبد الجبار صديق عمري منذ أن كنا تلميذين، هو في مدارس مُحمد الْخامس بالرباط، وأنا تلميذ بالْمدرسة الْحَسنية بالقاهرة، ففي هذه الفترة الزمنية تبادلنا أولَ رسالتين للتعارف ( وبالْمناسبة أحتفظ بأول رسالة له بِخطه). وفي بداية التحاقه بالعلم بعث لي مقالا بِخطِّ يده ( أحتفظ به هو الآخر) وقد كُتب على هامشه (لا يصلح للنشر) بقلم مدير الْجريدة: مُحَمد التازي)! 3 شاي على حساب زوجتي: ذاتَ ليلة شتائية، عُدْتُ إلى بيتي متأخِّرا، فوجدتُ زوجَتي تنتظرني بصبر نافد، وتُحَضِّر شايا لوالدتي، التي لا تنام إلابشُرْبه! بادَرتْ كعادتِها دائما: حَماتُك تُحِبُّك! قلتُ لَها ضاحكا، والنُّعاس يُداعبُ جُفوني: كيف تُحِبُّني حَماتي، وهي رحلتْ سنة 1967 قبلَ زواجنا بثلاثَةَ عشرَ عاما، ولَمْ أرَها وتَرَني،اللَّهُمَّ إذا كانتْ تناديني بأن ألتحقَ بِها؟ ذلك أنَّ من عادات وتقاليد الْمَغاربة، إذا كانوا يُهَيِّئون مائدة أوصينية، وفاجأهم قريب أوصديق، يَلْقَوْنه باسِمين بتلك الْجُمْلة التَّرْحيبية، أي لو لَمْ تكنْ حَماتُه قَبِلَتْهُ ورَضِيَتْ به زوجا لابنتِها، لَمَا أتى في الوقتِ الْمُناسب! سألتني مستغربة: أين غِبتَ عني كلَّ هذا الوقت؟!..ليس من عادتك أن تتأخر ليلا، والبرد قارس، والْمَطر ينهمر كالشَّلاّل! أجبتها بثقة: أنتِ تعرفين أكثرَ مني، أنني لاأستطيع أنْ أتغيب عن حضور الذكرى الأربعينية لرحيل عبد الْجبار السحيمي، الذي كان صديقا حَميما، ومن أوائل الأدباء الذين حفّزوني على الكتابة، بل دافع عني في عَمود بصحيفة (العلم) عندما هاجَمَني كُتّابُ (يوم الأحد) في جريدتِهِم، لكَوْني كتبتُ مقالا عن صديقي الشاعر مُحَمّد الطوبي! قالتْ ضاحِكةً: لا يعرفك غيري، أيُّها الثعلب! لستُ بَلْهاءَ لِهَذا الْحَدِّ، فأنا أعرفك جيدا، عاشرتك خَمْسة وثلاثين عاما! لقد فكّرْتَ في تبرير غيابك، وأنت عائد في القطار من الرباط؟! وصمَتتْ بُرْهةً، قبلَ أنْ تزيد: ما علينا! هل حضرتْ زوجته؟ أجبتها: طبعا، لكنها لَمْ تستطعْ صعودَ الْمِنصّة! قالت: لاشك أنّها مازالتْ مصدومةً بوفاته! أكدت لَها: أجل! إذا كنا، نَحْنُ أصدقاءَه، لَمْ نتحَمّل فراقَه لَحْظةً، فكيف بزوجته تنسى رجلا شَهْما مثله؟! لكنْ، هناك عامل آخر، يَجْهله الكثيرون، مافتئ حيّا في خاطري، لَمْ يُشَيِّعْهُ القدر إلى عالَمِ النسيان، وهذا (بيت القصيد)! اِسْتَوَتْ في جِلْستِها، وناولتني كأسَ شايٍ مُنَعْنَع: لاتَحْلو سهرتنا إلابذكر بيت القصيد، كيلا تَحْشرَني مع (الكثيرين) الذين يَجْهلونه! رَشَفْتُ من الكأس رشْفةً طويلة، ثُمّ قلتُ: قبلَ الأوان، كان ياماكان، في الستينات من القرن الْماضي، أديب مغربي آية في الْحُسْنِ والْجَمال، أي كامل الأوصاف، اسْمُهُ (مصطفى الصَّبّاغ). كتب مقالات في الأدب والسياسة والاجْتِماع، صدرتْ له في كتاب موسوم ب(رحلة في حياة قصيرة). وكانتْ حياته، فعلا، قصيرة! ويالأَسَفي وحَسْرَتي على هذا الزمن الشِّحِّيح، لَمْ يَعُدْ أحَدٌ يكتب عنه، أويذكر اسْمَه، حتى في كتب التراجم والسِّيَر الْمُوجّهة للأطفال في الْمَدارس! جَمَعته صداقة قوية مع عبد الْجَبار، لايكادان يفترقان، سواء داخل مقر (العلم) أوخارجَه. وفي بداية زواجه، وهو في رَيْعانِ شبابه وفُتُوَّته (أعني الصباغ) كان يسوق سيارته بالقرب من سيدي علال التازي، ليلةَ 30 يوليو 1963 ليحضر حفل زفافٍ بتطوان، فاصطدم بِجَرَّار، يتوسط الطريق، ولا يتوفر على إضاءة. فأصيب أديبنا إصابةً بليغةً، وأصيبتْ زوجته الشابة بإعاقة. وبالْمُناسبة، فإن رفيقيه عبد الْجَبار ومُحَمّد العربي الْمَسّاري، اتصلا حينا بأخيكِ إبراهيم، ليُحضِر صديقا مصريا له، يعمل طبيبا بالْمُسْتشفى الإدريسي، لكن القدر كان أكبرَ مِنْهُم جَميعا، إذ توفي بعد لَحَظاتٍ قليلةٍ من الْحادثة الْمُرْوِعة! قاطعتني زوجتي بسخرية: يبدو لي أنك تُخَرِّف، ويَجْدُر بك أن تذْهب لتنام! أنا سألتك عن زوجة عبد الْجبار، وأنت تُحَدثني عن زوجة مصطفى! طَمْأنْنتها قائلا: تَأَنَّيْ وتريَّثي، وأعيريني أذنيك! لَمَّا توفي الصَّديق، لَمْ يَجِدْ عبد الْجَبار بُداًّ من الوفاء، وهو القاص ذو الْحِسِّ الْمُرْهَف، والرؤية الإنسانية العميقة، فتزوج من أرملته الشابة الْمُثقفة، خِرِّيجة الْجامعة العراقية، كي يواسيَها، ويَمْلأ رحيلَ زوِجها، ويظل قريبا منه، لصيقا به، لايفارقه طيفُه! وهنا ارْتسَمَتْ على وجه زوجتي ابتسامة خفيفة: حقا قلتَ، وصِدْقا نطقتَ! كان عبد الْجَبار رجلَ الوفاء، ومثله في هذا الزّمان الرّديء نادرُ الوُجود! نَهَضْتُ واقفا لأقصد غرفة نومي: هل تدرين لِماذا أقدر عبد الْجَبار؟! لقد علّمنا أن الْحَياة ليست مالا مُكَدّسا، ولا منصبا رفيعا، يَجْعل صاحبه يَقضي مصالِحَه بإيماءة، إنّما هي طريق مَفْروش بورود الْحُبِّ الإنساني، والوفاء والصّفاء، والإحساس الْحاد بآلام البسطاء. لأنّ الْمال والْمَنصب، وكل ما يَجْعَل الإنسانَ يسْتأسِد على أخيه الإنسان، ليستْ سوى مساحيقَ ومظاهرَ خدّاعة، لاتلبث أنْ تزول يوماً ما، وإنْ طال الزمانُ بِها! ولقد كان عبد الْجَبار كاتبا قصصيا وصِحافيا، يفعل مايقوله، وما يكتبه في نِتاجاته القصصية والصّحافية! وصِدْقا قال الشاعر لَبيد بن ربيعة العامري: ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّه باطِلُ وكلُّ نعيمٍ لا مَحالة َ زائِلُ ولَمَّا أدرك شهريار الصباح، سكت عن الكلام الْمُباح!