في بداية الْخَريف الْماضي، قبل أنْ يرحلَ إلى العالَم الآخر، قال لي بوجهٍ باسِمٍ، وصوتٍ هادئٍ، وهو على فراشه يَحْتضِر: لا تقلقْ، بُنَيَّ، سأعود في فصل الربيع، وإنْ قُبِضَتْ روحي! لَمْ تنزلْ من عيني دمعةٌ واحدةٌ، لأنني كنت أثِق به، أي أنه سيرْجِع إلَيَّ، وإلى أمي الْحَنون، التي لَمْ تُطِقْ فراقَه. لقد كان صادقا طولَ حياته، ولَمْ يثبُتْ أنْ كذب ولو مرةً علي أو على غيري! مرَّتِ الشهور بطيئةً، انتظرتُ فيها بشائرَ الربيع، لألتقي به من جديد. وما أنْ صَفَتِ السَّماء، وتفتح الزَّهر، واخْضَرَّتِ الأرض، وأيْنَع الشجر، حتى انصرفتُ من البيت، أبْحَث عنه في مَقاهي الْحَي. ذلك أنه كان يتردد عليها، ليُجالس أصدقاءه، ويتبادل معهم آراء وأفكارا في الأدب والْمعرفة والْعِلْم، وليطالع الْجَريدةَ من ألفها إلى يائها، لِحَدّ أنْ كان النادلُ يتجاسر عليه أحيانا، فيتقدم منه حانقا، لينتزعَ من يديه الصحيفةَ، ويَحْمِلَ من أمامه الصينيةَ، وبقايا الشاي الْمُنَعْنَعِ ما زالتْ في الكأس، ثُمَّ يَمْسح الْطاولةَ بعصبية، كيْ يَفهم أنه أمضى وقتا طويلا متسمِّرا فوق الكرسي، وعليه أن يتركه لزبون آخر...! ويوماً ما، بينما كنتُ أتَجَوَّل مع صديقي، أنظر هنا وهناك، إذْ بي أرْمُقُهُ صُدْفَةً، جالسا في مقهى أبي الْجُنود، ماسكا جريدةً، كعادته دائما، فهمستُ في أذن صديقي بعينين زائغتين: سُبْحانَ الله، إنه هو، إنه هو!..لقد عاد بِجِلبابه البُنِّي، وطربوشه الأحْمر، وبلغته الصفراء...! اِلتفَتَ إلَيَّ يسألني متعجبا: من تقصد؟!..ومن أين عاد؟! أجبته متأكدا: أبي!..عاد من العالَمِ الآخَر، كما قال لي!..لَمْ يُخالفِ الْمَوْعِدَ! اِنْفَجر ضاحكا، يضرب كَفاّ بكفٍّ، فأثار انتباهَ الْمارِّين بقهقهاته الغريبة، وقال بصلافةٍ ماعَهِدْتُها فيه: يا لك من أبْلَه!..أيرْجِعُ من يَموت إلى الْحَياة؟!..ماكنتُ أظن أنني أُرافق الْبُلَهاءَ والْمَجانين!..حقا، إنه يشبه أباك، لكنه رجل ثانٍ، لا علاقة له بك إطلاقا!..هيا، لنُغادِرِ الْمَكانَ، ولا تكنْ حالِماً أو واهِما! لَمْ أتأثَّرْ بِكلامِ صَديقي، فدَعَكْتُ عينيَّ ثَلاثا، وأرسلتُ إثْرَها نظري متمعِّنا بِجدٍّ، لأتأكَّدَ من شخصه. فأدْهَشَتْني هالة برتقالية خفيفةٍ من نور تَحُفُّه من كل جوانبه، كأنه من أهْلِ السماء! جذبني من ذراعي، فنزعتها منه بتحدٍّ وثقة، وبقيتُ واقفا في مكاني: دَعْني، أنا أعرف والدي جيدا، ولنْ أُخْطِئَ فيه!..اُنْظُرْ، ماذا سأفعل! أوْمَأْتُ له بيدي، فردَّ بإيماءة واضِحَةٍ، وابتسامة عريضة على مُحَياه، ثُمَّ لَمْ يلبثْ أنْ وضع الصحيفةَ جانبا، وأخذ يُلَوِّح لي أنْ آتيَهُ! قلتُ لصديقي فَرِحا: أرأيتَ؟!..لوْ لَمْ يكنْ أبي، هل كان سيأْبَهُ بي؟! هَزَّ كتفيه غيرَ مُبالٍ: رُبَّما أراد الرجل أنْ يُجاملَك، وهذا غالبا ما يقع! وصمت قبل أنْ يسأل: هل قرأتَ ما تيسَّر عن حياة الفراعنة، أوالعراقيين القدامى؟! تساءلتُ بدهشة: لا، ما علاقتي بِهِمْ؟!..أنا في الْمَغرب، وهُمْ في الْمَشْرق! أردَفَ كأستاذ في عِلْمِ التاريخ: أنت تُذَكِّرني بِمُعْتَقداتِهِم في البعث والْخُلود!..فَمُنْذُ بضعة أسابيعَ، دَلَّتِ الْحَفْريات في الضاحية الْجَنوبية للقاهرة على مركب فرعوني يرجع إلى الْمَلك السادس (دن) في العهد الأول للفراعنة، كان الْمُتَوَفَّى يَحْتَفِظ به في مقبرته للعبور إلى العالَمِ الآخر!..كما أن العراقيين القدامى، كانوا يقسمون العالَمَ إلى نصفين: عُلْوي وسُفْلي. ويعتقدون أنَّ (تَموز) إله الطبيعة الْخَضْراء الْجَذابة، يهبط في الْخَريف إلى العالَمِ السُّفلي، ويؤوبُ إلى الْحَياة في الربيع، حاملا معه نِعَما لَهُمْ! ربَّتْتُ على كتفه: أُبَشِّرُك، يا صديقي، بأنني لَمْ أقرأْ شيئا عن الفراعنة ولا عن العراقيين، لأنني بكل بساطة أهتم بالْمُستقبل فقط! كان أبي يعاني من آلام الرَّبْوِ، لايَخْفُتُ سُعالُه، ليلَ نَهارَ، ولَمْ ينفعْ معه دواءٌ، سواء ما وصفه له الأطباء أوالْعَشَّابون. وكنتُ متعلِّقا به، منذ نعومة أظفاري، أتألَّم لِمُعاناته، ولا أفارقه إلا لِماماً، حتى أصبح هاجسي في يقظتي ومنامي. ولِهَذا كان يَخشى أن تأتِيَ بغتةً لَحْظَةُ موته، فتمَسَّني نوبةٌ قوية، تُفْقِدني حياتي، وأنا في عِزِّ شبابي...! تقدمتُ منه بِخُطى مضطربة، فيما كان صديقي يسير خلفي في دهشة وذهول عارمين، يبلع ريقَه غيرَ مُصَدِّقٍ، لكنه أراد طَمْأنَةَ قلبه! عانقني أبي بِحَرارة، وقال لي، وهو يُرْسِل طَرْفَه إلى صديقي، كأنه يعنيه: ألَمْ أقلْ لك إنني سأعود؟..ها أنا الآن ماثِلٌ أمامك، لكنْ...! اِعْترضْتُ دَهِشا: ماذا تقصد، أبي؟! قطعتُ عَهْدا على نفسي، أنْ أظلَّ في الْعالَمِ الآخر، لأنني ألفَيْتُ فيه الرجالَ الرائعين من السابقين واللاَّحقين، وراقني الْجَوُّ هناك، فَلَمْ أعُدْ أعاني شيئا من آلام الرَّبْو البغيض، الذي نَخَرَ صَدْري وسَلَّهُ!..وبالله عليك، كيف تريدنِي أنْ أهْجُر أرضا كلها جَنَّات وعُيون، وناس يقابلونك بوجوه ناعِمَة، لا تسمع منهم إلا سلاما سلاما؟! بادَر صديقي يسأل حائرا: ألَمْ تَحِنَّ إلى ولدك الوحيد وزوجتك الوفية، اللذين يذكرانك دائما، ولا تغيب عن عيونِهِما برهةً، منذ أنْ رحلتَ عنهما؟! طأطأ رأسَه يفكر، ثُمّ رفعه: أجيبكَ بلا لَفٍّ أو دَوَرانٍ، بأنني لا أستطيع أنْ أتَخلَّى عن شخصيات مرموقة، ما كنت أحْلُمُ أنْ ألتقيَها كلَّ حينٍ، بل هي التي تلتقي بي لتسألَني عن حال الدنيا، لأنني آخر من حلَّ بتلك الأرض الطيبة! لَمَسَ صديقي جبينَ أبي: عفوا، سيدي، ألَمْ تُصِبْك ضربةُ شَمسٍ قويةٌ، وأنت في طريقك من منزل الزوجة الثانية إلى هذا الْمَقهى؟! اِفترَّتْ شفتاه عنِ ابتسامةٍ وَدودٍ: أصْغِ إلَيَّ، ولاتُسِئ الظَّنَّ بأنَّ لي بيتا ثانيا!..سوف لاتصدقني إذا قلتُ لك إنَّني رأيتُ بعينيَّ إخوانا مُتَحابِّين، متآلفين، مستأنسين، على سُرُرٍ مُتقابلين، يقضون أوقاتَهم في إلقاء الشعر، وقراءة القصص، وتعطير جلساتِهِمْ بالفكاهة الْمُهَذَّبة، ولايكترثون بتاتا بالسياسة والسياسيين، والْمُعضلات الاجْتماعية والاقتصادية. وكل ما يُنَغِّص نفوسَهم، ويُكَدِّر أمْزِجتَهم، كما الأمر هنا عندكم. فأنا جئتُ فقط لأفِيَ بوعدي لابني، فِلْذَةِ كبدي، ثُمَّ أعود، ريثما يُمْضي سنواتٍ من حياته في الدنيا، ولَمَّا يشيخ مثلي، ويتْخَم بِحالِها السيئة، يلتحق بي لينعم بتلك الرِّياض الفسيحة! وكأن صديقي لَمْ يسْتَسغْ جوابَه، فسأله لِيُحْرِجَه: وما أخبار الذين سبقوك؟..أعْني كيف حالُهُمْ هناك؟ اِسْتَوى في جِلْسَتِه قائلا: الآن، أشهد أنك تفكر جيدا!..ما أن وَطِئَتْ رجلايَ العالَمَ الآخر، حتى رأيت حلقة تَحْتَ شجرة عظيمة، وارفة الظلال، تنشُر طيبَها الزَّكي، وتنثُر زَهْرَها العَطِر على الرؤوس. فانضَمَمْتُ إلى الْحَلقة، لأن جُلَّها من الْمَغاربة وبعض الْمِصريين. هل تدري من يترأسُها؟! اِبْتَسَم صديقي مُجيبا، وهو يغمزني: طبعا لا، لأنَّ أجَلي لَمْ يَحِنْ بَعْدُ، فأصْحَبَك إلى هناك! إنه الأستاذ الشاعر علال الفاسي! وكيف عرفتَهُ؟! كنا، ونَحْن أطفال صغار، نلتقي في منزل الأستاذ مُحَمَّد مَكْوار بساحة البطحاء لنردِّد الأناشيدَ الوطنية، وكان سيدي علال يَحْضُر، بين الفينة والأخرى، ليتفقدَ حالَنا!..ما علينا، بِمُجَرَّد أنْ رآني أتَّخِذ مكاني بين الْمُتَحَلِّقين حولَه، توقَّف عن الكلام، وأشار إلَيَّ: مرحبا بك، أخي!..ألا خَبِّرْني عن فلسطين، فأنتَ آخر من التَحَق بِنا؟! أجبته بصوتٍ متقطِّع: أليس..من الأَوْلى..أنْ تسألني عن حال حزبك؟ نظر إلَيَّ طويلا، ثُمَّ ردَّ باسِما: أنا مُطْمَئِنٌّ تَماما عليه، ولاداعِيَ إلى السؤال عنه، لأنه ينهج، منذ تأسيسه، سبيلَ التعادلية والوسطية، التي تساير الطبيعة البشرية، ولوِاخْتَلفتْ آراءُ أبنائه. لذلك لَمْ أسألْكَ عنه، وإنَّما عن البلد العربي، الذي تركته مُحْتلاًّ، وأنا ألفظ نفَسي في رومانيا، وكانت فلسطين من بين آخر مانطقتُ به! وهنا انبرى الأديب عباس مَحْمود العقاد شاهدا: يكفي الأستاذ علال فَخرا أنْ ترك لأبنائه ((النقد الذاتي)) الكتابَ الذي قرأته بشوق ولَهفة، وكتبتُ عنه في مَجلاتنا الْمِصرية، بل تَمَنَّيْتُ لو كنتُ أنا مُؤَلِّفَه. ففيه يَجِدون الأسسَ الثابتة لبناء البلاد، وتَجْذير القيم العليا بين أفراد شعبها، وهذه الأسس لا غِنى عَنْها لأية دولةٍ وأُمَّةٍ. وكنا إلى جانبه، عندما كان بيننا في القاهرة، ينادي باستقلال دول الْمَغرب العربي جَميعِها، وتَحْرير فلسطين. ولَمَّا عاد إلى مراكش (يقصد الْمَغرب) دعا إلى تَحْرير الصحراء، وتَجْديد الفكر، وإلى التربية والتعليم الْحَديثين، دون التَّفريط في القيم الْعربية، وإلى إقرار دستور جديد، والتضامن والتكافل بين كافة الفئات الاجْتِماعية، حتى أطلقنا عليه اسْمَ: (مُحَمَّد عبده الْمَغْربي)! سكت العقاد، فاغتنمتُها فُرصةً لأجيبَ سيدي علال بوجه حزين: يؤسفني أنْ أخبرك بأنّ فلسطينَ ما زالتْ، كما تركتَها، بين أيدي الغُزاة، يعيثون فيها فسادا، ويقضِمون أرضَها قطعةً قطعةً، ويُلْقون بشعبها في الْمُخَيمات، على مَرْأى من ساسة الْعالَم! اِلْتَفَتْتُ إلى يَميني، فوجدتُ الشاعر الكبير مُحَمَّد الْحَلْوي جالسا بِجانبي: أأنتَ، الآن، مُطْمَئنُّ البالِ، أم مازلتَ مُغاضِبا؟! ردَّ علَيَّ، وعلامةُ الرضا ترتسم على شفتيه: أجل، أنا في غاية السرور!..كيف لا، والواحد منا، كما ترى بعينيك، ينعَمُ بعيشة راضيةً، ما حلم بِها من قبلُ؟!..لَمْ أعُدْ في حاجة إلى مالِهِمْ، أو دوائهم وعلاجهم..ليكْنِزوها في صناديقهم. فهنا، ولله الْحَمد، لا نشعر بِجوع أو ظمإٍ، ولايُصيبنا مرض أونزلة برد، ولاتضربُنا شَمْس أوتُصيبنا كوارث، ولا نسمع أخبارا سيئة!..أتذكر حين تنكروا لعطاءاتي الشعرية على مدى ستين عاما فأكثرَ، فحرموني حوالتي الشهرية، وأنا على فراش الْمَوْت؟! نعم، مازلتُ أذكر تلك القصائد الْجَميلة!..كانتْ كلها اعْتزازا بالوطن ورجالاته، وبالأرض وشعبها، ومازالتْ مكتبتي في الدنيا تَحْتفظ بنسختين من كل دواوينك، لِحُبي الشديد لَها، وما تتميَّز به من لغة رصينة، وتعابير دقيقة، وشكل فني عالٍ، يُعيدنا إلى عصر فُحولِ الشعراء كالْمُتنبي والْحَريري...! وتنفَّس عَميقا، كأنه كان يَحْمِل على كاهله عِبْئا ثقيلا: شكرا لله الذي أسكنني فسيحَ جِنانهِ، فَخَلَّصني من جيل ناكرٍ للجَميلِ! لا تنسَ أنَّ شِعْرَك ما زال يُدَرَّس في كل الْمُؤسسات التعليمية من الابتدائية إلى الْجامعية، فَلَمْ يَجِدوا من الشعراء من يَمْلأ غيابك. كما أنّ كاتبَ قصتنا هذه، حَمَل نسخا منها إلى مكتبة الإسكندرية، ليعتمِدَها الطلبة والباحثون من كل أنْحاء الْعالَمِ! وهنا انبرى الأديب طه حسين شاهدا: لنْ أنسى تلك الأيامَ التي أمضيتُها في تطوانَ وفاسٍ، فبين جَنباتِ القرويين، ألقى علي الشاعر الْحَلْوي نصاًّ شعريا رائعا، هَزَّ كلَّ أحاسيسي. قُلْتُ أثْناءَها: ((ماسَمِعْتُ مثلَ هذا الشعر لا في الشرق ولا في الغرب))!..وأنا أستغرب، كيف لايُحْتَفى بِهَذا الشاعر؟!..لوكان ينتمي إلى دولة أوروبية، لأقاموا له مِهْرجانا كلَّ سنةٍ، كما تُنَظِّم فرنسا ذكرى شاعرها فيكتور هيجو! ونَحْنُ كذلك، إذْ بصوت ينبعث من يساري، فأدرتُ رأسي، فوجدتُ الكاتب الصِّحافي عبد الْجَبار السحيمي: تلك هي طبيعة ذلك الْجيل، لَمْ تتغير بَتاتا، وستظل إلى حين!..لقد حاولتُ سنين طويلة أنْ أُديرَ كلَّ الْخُيوط الْمُخَبَّلة الْمُتشابكة، لأنسُج زربيةً متناسقةَ الألوانِ، لكنها، والعياذ بالله، كانتْ تأبى أنْ تنْتَظِم! قاطعته في دهشة: وماذا تعني بالْخُيوط؟! حضرتُ العديد من الْمُؤتَمرات، أمَلاً في التَّوْفيق بين الأدباء والصِّحافيين والسياسيين، على اختلاف اتِّجاهاتِهِمُ الفكرية والْمَذْهبية. والْحَقيقةُ أنَّهُمْ قَدَّروا دَوْري النَّبيلَ بينهم، لكنَّهم آثروا مصالِحَهُم الذاتية، فجَنَحوا للفُرْقة والشِّقاق، وأبَوْا أنْ يلتَئموا ويلتحِموا. وكنتُ، كلَّ يومٍ، أعصِر قلمي، ليُفْرِز قصصا وأعْمِدة قصيرة، تَنقل هُمومَ الشَّرائح الْمَنْسية. وهذا في الْواقع آلَمَني كثيرا، وحال دون أنْ أعيش حياةً عاديةً، وإنْ حاولتُ عبثا أنْ أُخْفِيَ ثِقْلَ عذاباتي النفسية العميقة بِمُمارسة الرياضة وهِوايةِ صيد السمك. كما أنني لَمْ ألْهَثْ وراءَ الْمَناصِب، أو أفكِّرْ في تكديس الْمالِ، رغْمَ الفُرص الْمُتاحة. ولقد كابدْتُ الأَمَرَّيْنِ من موت الضَّمير والفكر في تلك الأرض، وفي النهاية، لَمْ أستطِعْ أنْ أتَحَمَّلَ مساحاتِ الْخَرائب، سواء في الساحة الأدبية أو السياسية، ولا تلك الْهَزائم والنكسات القومية الْمُتوالية، من معارك ستة وخَمْسين إلى سبعة وستين إلى ثلاثة وسبعين، إلى مآسي العراق وفلسطين..فَحَلَّقتُ في سَماء النِّسْيانِ، لَمَّا أيقنتُ باستحالة اسْتِئْصال الْوَرَمِ! شعرتُ بيد خفيفة تنزل برفق على كتفي. تَحَسَّسْتُها، فإذا هي يد الْمَؤرِّخ عبد العزيز بنعبد الله. أشار إلى الشاعر الْحَلْوي والكاتب السحيمي مؤيِّدا: لَمْ يقولا إلاَّحَقاَّ!..فأنا، مثلا، خَدَمْتُ لُغَتي خَدَماتٍ جُلَّى، وألَّفْتُ كُتُبا لا تُعَدُّ في تاريخ الْحَضارة الْمَغربية، أُعَرِّفُ بِها جيلَنا الْمَغربي، وأصونُها في موسوعاتٍ، كيلا تتلاشى وتندثِر. وحاضرتُ في العديد من كُبْرى الْجامعات في القارات الأربع، وفُزْتُ بِجَوائزَ تقديريةٍ من دول عربية وغربية. وقبل أنْ أتوفى بعشر سنواتٍ، أهْدَيتُ مكتبتي إلى جِهاتٍ ثقافية، كيلا تطالَها الأيْدي العابثة، وهي تضُمُّ خَمْسةَ آلاف كتاب بين مَخْطوط ومَطْبوع. ولَمَّا أتى أجَلي، لَمْ تُنْشَرْ عني إلا أخبارٌ مُحْتَشمة، كأنني لَمْ أساهِمْ في نَهْضةِ بلدي!..فهَبْ، لوكنتُ مطرِبا مُهَرِّجا، هل تدري ماذا سيحدث؟!..ستهْتَزُّ كلُّ وسائل الإعلام لرحيلي، من مرئية إلى مسموعة إلى مكتوبة إلى رقمية، وستُخَصِّص لي برامِجَ، تُعَدَّدُ فيها أعْمالي الفنية، ووو...! وهنا انبرى الكاتب الْمِصْري مُحَمَّد سعيد العريان شاهدا: هذا هَرَمٌ من أهرام اللغة العربية، وموسوعة علمية وحضارية تَمْشي على قَدَمَيْها في كل أنْحاء الدنيا. فأنا، مثلا، عندما قَدِمتُ إلى بلادكم مراكش الْكَريمة، لَمْ أجِدْ مَنْ يُحَفِّزُني على الكتابة إلاّ هذا الرجل الْفَذّ، فأمدَّني بِما لديه من مَراجعَ ومَصادرَ تاريخية وأدبية، ساعدتني كثيرا على تأليف كتب تعليمية للأطفال الْمَغاربة. وختم أبي كلامه متسائلا: إذنْ، بعد أنْ حكيتُ لَكُما غَيْضا من فَيْضِ لقاءاتي وجلساتي مع هذه الشخصياتِ الرَّفيعة، هل تفضِّلان أنْ أعودَ إلى ذلك العالَمِ الراقي، أمْ أظلَّ في هذا العالَم السفلي، بين جيل تائهٍ، لا يُقيم وزنا للثقافة والعلم والأدب؟! ردَّ صديقي على الْفَوْر: أنا لاأستطيع أنْ أجيبَكَ، سيدي، لأنَّ والدي توفي قبلَك بسنوات، ولَمْ يَعُدْ لِحَدِّ الساعة، ليخبرني بِما رأيتَ! تفرَّسَه أبي من قُنَّةِ رأسه إلى أخْمَصِ قدميه، ثُمَّ سأله: ومَنْ قالَ إنَّ أباك لَمْ يَعُدْ؟!..هل لديك دليل؟! رد صديقي مُستغربا: كيف، سيدي؟!..لَمْ أفْهمْ ما تعنيه! اِسْمَعْ، بُنَيَّ!..كل الآباء يغادرون الْحَياةَ، وكذلك الأُمَّهاتُ، لتتجدَّد الأفكار والرُّؤى والأعْمال!..هكذا يظهر لنا، لكنهم في الْحَقيقة، يستمرون فيها عَبْرَ أبنائهم وبناتِهِمْ، لأنَّهُمْ يُوَرِّثونَهُمْ بعضا من تضاريس شخصياتِهِمْ، مثْلَما يُوَرِّثونَهُمُ الْمالَ والْعَقارَ. فابني نُسخة مني، وأنتَ نسخة مطابقة لوالدك، وبالتالي، فإنّه دائما حاضر فيك! أطلق صديقي الْعِنانَ لِخَيالِهِ، وأبي لاذ بالصمتِ، لا ينبِسُ بكَلمةٍ، ينتظر عودته إلى أرض الواقع...! وبعد لَحَظاتٍ قليلةٍ، انتبه قائلا: صِدْقاً قُلْتَ، سيدي!..لقد عاد والدي في شخصي، ولَمْ أنتبِهْ! اِبْتَسَمَ أبي، ونَهَض من فوق الكرسي، ثُمَّ انصرف من الْمَقهى والْهالةُ تَحُفُّه، فيما بقينا نَحْنُ نتتبعه بأعيننا، حتى توارى عنّا وسطَ الزُّحام...!