بدء إغلاق صناديق الاقتراع في أمريكا    مشاريع مهيكلة بسيدي إفني ومير اللفت            29 برلمانيا بمجلس المستشارين يصادقون على مشروع قانون إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وثلاثة يمتنعون        وهبي يتهم جمعيات المحامين ب"الابتزاز" ويُكَذب تصريحات بشأن قانون المهنة    مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الداخلية برسم سنة 2025 يندرج في إطار مواصلة تفعيل مخططاتها وبرامجها الهيكلية (لفتيت)    نتنياهو يقيل وزير الدفاع جالانت بسبب "أزمة ثقة"    منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تطلق بباريس مراجعة سياسات الاستثمار في المغرب    الرباط.. إطلاق العديد من مشاريع التسريع المدني للانتقال الطاقي    حكومة إسبانيا تعلن خطة مساعدات بعد فيضانات خلفت 219 قتيلا    ذكرى استرجاع أقاليمنا الجنوبية    وقفة تستنكر زيارة صحفيين لإسرائيل        عندما طلب مجلس الأمن وقف «المسيرة « وأجاب الحسن الثاني : لقد أصبحت مسيرة الشعب    بنك المغرب يكشف حقيقة العثور على مبالغ مالية مزورة داخل إحدى وكالاته    الوداد يواجه طنجة قبل عصبة السيدات    "يوسي بن دافيد" من أصول مغربية يترأس مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة" إصدار جديد للشاعرة مريم كرودي    18 قتيلا و2583 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعاً بريدياً تذكارياً بمناسبة الذكرى العاشرة لمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر        أخنوش: خصصنا في إطار مشروع قانون المالية 14 مليار درهم لدينامية قطاع التشغيل    الأحمر يغلق تداولات بورصة الدار البيضاء        جدل في البرلمان بين منيب والتوفيق حول الدعوة ل"الجهاد" في فلسطين    مرحلة ما بعد حسم القضية..!    التجمع الوطني للأحرار يستعرض قضايا الصحراء المغربية ويشيد بزيارة الرئيس الفرنسي في اجتماع بالرباط    قرض ب400 مليون أورو لزيادة القدرة الاستيعابية لميناء طنجة المتوسط    بن صغير يكشف أسباب اختياره للمغرب    تحقيقات جديدة تهز كرة القدم التشيلية    كَهنوت وعَلْموُوت    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السقوط الكبير!
نشر في العلم يوم 20 - 01 - 2013

مازلت أذكر، إنْ لَمْ تَخُنِّي ذاكرتي، ذلك الفتى الضَّريرَ، الذي كان يُجاورُنا في الدرب، لكنني لاأذكر اسْمَه، وهو اليوم، على مابلغني، يشتغل أستاذا جامعيا، لأنه يكبرني بِخَمس سنواتٍ، والتقاعد في التعليم العالي، كماتعلمون، يتم في سِنِّ الْخامسة والستين خريفا!
كنا، ونَحْنُ أطفالٌ صغار، ننادي على هذا الفتى الكَفيف باسْمِ (طه حُسين) ويبدو أنه كان يُعْجِبُه ويتباهى به، ولايقلق منه، لأنه كان مُجْتهدا ومُتَخلِّقا ومَحْبوبا ومُحْتَرَما، لايَمُرّ أمامنا إلامُتَأبِّطا كتابا أومَجَلّة، ويُقَلِّد عَميدَ الأدب العربي في حركاته وثيابه، إذْ يضع على عينيه نظارةً سوداءَ، وعند الكلام أوالسلام، يرفع رأسه قليلا، ويُفَخِّم صوته، ويبتسم ابتسامة خفيفة، ثُمّ يُصْدِر حَنْحَنَةً، يَلْفِتُ بِها الْمُسْتَمِعين ويَجْذبُهُم إلى حديثه، ولَمْ تَكُنْ تنقصه إلاّسوزان (زوجة طه). وكان جيرانه في الدرب يُحِبّونه ويُقَدِّرونه، ويضربون به الْمَثلَ لأولادِهِم، لأنه لايتغيب عن حصص الدراسة، ولو مرض، ولَمْ يرسُبْ، منذ أنْ دخل الْمَدرسة، ولومرة!..والبعضُ منهم لايُخْفي أُمنيَّته في الْحَياة، وهي أنْ يُفْقِد ابنُه البَصَر، ليُنَوِّر الله له بصيرته!
بينما كُنا نَحْنُ نتسَكّع في الأحْياء والدُّروب والأسواق، فنتسلّى، مثلا، بطَرْق أبواب البيوت طرْقا مُزْعِجا، ونَرْشُق الأطفالَ الذين يصغُروننا بالْبَلّوط (كرَما منا، بدَلَ الْحَجَر) أونَهْوي على قِفاهُمْ بقبضة اليد. وياوَيْلَ من يعترض أويتحدى أويُقاوِم، فإننا نَجْتَمِع عليه كالنّحل القارص، فنُكْرِمه بضرباتٍ متلاحقة على رأسه ومؤخرته، ولاينفعه الْمِسكين عندئذٍ، إذا أراد أنْ يَنْجُوَ بنفسه، غيرَ أنْ يَحْنِي رأسه، ويرفع الراية البيضاء، أويُطْلق رجليه للريح يسابقها. وأظن أنّ صاحبنا الضّرير، لو كان بصيرا، لَمَا حادَ عن سلوك هذه الْعِصابة، لأنّها كانتْ مدرسةَ الْمُجْتَمَع الْمُفَضّلةَ، تُلَقِّن أطفالَ الْحَي دروسا في فن العيش، تَحْتَ شعار:الْحَياةُ غابة موحِشة، يصول فيها الذئاب والثعالب، لاالأرانب والْخِرْفان، ولكي تعيشَها سالِماً، يَجِب أن تكون صُعْلوكا!
يوماً ما، بينما كنا نتعشّى، أنا وأمي وأخَوايَ، سَمِعْنا طَرْقا خفيفا على باب بيتنا، فقام أخي يفتح الباب، ليجِدَ أمامه والدَ ذلك الفتى: إنّ ولدي سيجتاز غدا امتحانَ التعليم الثانوي، وبِما أنه كفيف، لايقدر على الكتابة، فإنني أرْجو من أخيك مُرافقتَهُ لكتابة الأجوبة التي سيُمْليها عليه!
في ذلك العهد، على ما أذكر، لَمْ تكنِ الكتابة بطريقة (لْويسْ بْرايلْ) شائعةً في الْمَغْرب، وإنّما كان الْمَكْفوفون يعتمدون في دراستهم على السَّمْع. بل الكثير من الْمُبْصرين الذين لَمْ يكونوا مُسَجّلين في الْمَدارس، وفاتَهُمُ القطارُ، تعلموا في جامِعَي الرصيف والقرويين بالإنْصات فقط، وحصلوا على شهاداتٍ، كالابتدائية، بوسيلة ما، توظّفوا بِها في زمن (الْغَفْلة) ومنهم من تدَرَّجَ في سِلْك الوظيفة، فأصبح الآمِرَ النّاهِيَ!..ولِماذا أذْهَبُ بعيدا، وأُخْتي أقرَبُ إلَيّ من حَبْل الْوَريدِ؟!..فبعد تَرَمُّلِها في عُمْرِ الزُّهور (ستّةَ عشرَ عاما) شاركَتْ في دروس مُحاربةِ الأُمِّية، فَنالَتِ الشّهادة الابتدائية، مَكّنَتْها من وظيفة كاتبة في مؤسسات دبلوماسية بِمصرَ ولبنان والسعودية وإيران..إلى أنْ تقاعدتْ عن العمل!
وبالنسبة لِهَؤلاء وأولئك، كانوا يصحَبون معهم التلاميذ الْمُبْصرين لكتابة مايُمْلونَهُ عليهم، شَرْطَ أنْ يكونوا أصْغَرَهُمْ سِناًّ، وأقلَّهُمْ مُسْتَوى تعليميا. ولاتَهُمُّ الْمُصحِّحين الأخطاءُ الإملائية والنحوية واللغوية، بقَدْر ماتَهُمُّهُمُ الأجوبة الصحيحة، لأنّهُمْ يعرفون مستوى الْكَتَبَة!
ردّ أخي بطيبوبته ونيته الْخالصة:
هذا شرف كبير لنا، ياسيدي، أنْ يرافق أخي ابنَك رِجْلاً برِجْلٍ، طيلةَ أيام الامتحان. وأقلُّ مايُمْكِنُنا أنْ نقدِّمَه لِجارٍ لَمْ نرَ منه سوى الْخَير والكلمة الْحَسنة!..ألسنا جيرانا منذ أكثرَ من عشر سنواتٍ، والْجار للجار رَحْمة؟!
اِطْمَأنّ الرّجُل لرَدِّ أخي، فودّعَه باشاًّ:شكرا جزيلا، سيدي عبد الوهاب، هكذا يكون أولاد العائلة وإلاّفلا!
رد أخي: الشُّكْر لله تعالى، سيدي مُحَمّد!
عاد أخي إلى الغرفة طَلْقَ الوجه، فسألته أمي عَمّا يريد جارُنا، فأجابَها باسِما، وهو ينظر إلَيَّ بطرفه:
اِسْعَدي وافْرَحي، فإنّ ابنَك سيلتحِق غدا بالإعدادية!
وضعتْ أمي اللُّقْمةَ على حافة الصّحْن، كأنّها لَمْ تُصَدِّقْه، وقالتْ له:
واللهِ إنّك تُحَدِّثني بألْغاز!..كيف يُجيزونَ لولد طائش بالدراسة في الطّور الإعدادي؟!..لا لا، أنتَ تُمازِحُني!
رَبَّتَ على رأسي، ثُمّ التَفَتَ إلى أمي قائلا:
تأنَّيْ وتريَّثي قليلا!..لو لَمْ يَثِقْ جارُنا في أخي الصغير، أصلحه الله، لَمَا أتى في هذه الليلة الشتائية طالبا راغبا في مرافقته لابنه..!
جذبتْ أذني ضاحكةً:
وهل يفقه طويلُ الأذنين حرفا واحدا مِمّا يُعَلَّمُ في هذا الْمُسْتَوى؟!..إنه مازال يتعثر في دراسته، لاينتقل من فصل إلى فصل أعلى إلابشَقِّ الأنْفُس، كأنّ رأسَهُ قُدَّ مِنْ حَجَرٍ صُمٍّ، والْعِياذ بالله!
صباحا باكرا، خرجتُ من بيتنا، وتَسَمَّرْتُ بِمَدخَل الدَّربِ، أنتظر الفتى طه حسين. وبعد حينٍ، حضرَ صُحْبَةَ أبيه، الذي عانقني بوجه بشوش، ثُمّ دَسَّ في يدي خَمْسَةَ دراهِمَ. ولِهَذا الْمَبلغِ قَدْرٌ وأيُّ قدرٍ!..فقد كنا نشتري بأربعة دراهِمَ كيلو لَحْماً، ونؤدِّي ثَمَنَ الكهرباء درهَما في الشهر، أمّا الْماء، فيأتينا عذبا صافيا، ومَجّانا، عبر العيون والسَّواقي الْجارية تَحْتَ الأرض، ولَمْ تكُنْ هناك عَدَّاداتٌ ولاصَنابيرُ ولافَواتيرُ..!
سِرْتُ معه نَحْوَ مدرسة النهضة في حي الْمَخْفِيَّة، مركز الامتحان، وعقلي يرسم في الْهَواء ماسأفعله بالْمَبلغ!..هل أهَبُهُ لأمي الأرملة التي تشقى لتُوفِّرَ لنا لقمةَ الْعَيْش؟..أم أدخل بِثُمُنِهِ إلى السينما، وأحتفظ بالباقي؟!..وبينما أنا هائم في خيالي، إذْ بي أجد نفسي قُبالةَ الْمَدرسة. أوقفنا مديرُها الشاعر مُحَمّد أحْمَد الإدريسي، وسجَّل اسْمَيْنا في دَفْتَر (الْمُمْتَحَنين وكُتّابِهم) ثُمَّ أرسلنا إلى الْحُجْرَةِ الْخامسة، لنتّخِذَ أيَّ مقعد يبدو لنا فارغا. ولكم أنْ تَعْجَبوا أنَّ الكاتبَ إذا كان أطولَ قامةً من الْمُمْتَحَن، يُرَدُّ ويُطْرَد من قاعة الامْتِحان تلقائيا، ولو كان مستواه الابتدائي الثاني، إذْ كان طولُ الْجِسْم، يُحَدِّد مستوى الشّخص الدراسي!..ولَمَّا كان الشَّيْءُ بالشَّيْءِ يُذْكَرُ، فإنّ الظروفَ ستقودني إلى متابعة تعليمي في هذه الْمَدرسةِ، وسيُصْبِحُ مديرُها صديقا حَميما لي، نلتقي بين الفينة والأخرى، إمّا في أنشطة ثقافية، هنا وهناك، وإمَّا في مؤتَمَراتِ اتِّحاد كُتَّاب الْمَغرب، بل سننام في غرفة مشتركة بالفندق، وسيُهْديني مَجْموعة من أعْمالِهِ الشعرية، منها ((أوتار دامية)) و((سَمير الشباب)) والْمَسرحية ((الإيمان))..!
لاعلينا!..مَرَّ يوما الامتحانِ بسلامٍ، كما كان يشتهي طه حسين، إذْ كنتُ أمينا في كتابة كل مايُمْليهِ عليَّ، وهذا مُؤَشِّر جيد على نَجاحِهِ. لكن، وفي (لكنْ) تَكْمُنُ الكارثة، أردتُ أنْ أجْتَهِد، أنا الآخر، وأُبْرِزَ عضلاتي في الامْتِحان، الذي يُعَزُّ فيه الْمَرْء أويُهان!
ففي آخر مادة، وهي (الأشياء) التي يُصْطَلَح عليها اليوم ب(العلوم) طُلِبَ من الْمُمْتَحَنين أنْ يتحدّثوا عن الْهَيْكَل الْعَظْمِي للإنسان. ولَمّا انتهينا من الإجابة والكتابة، أشْرَقَتْ في ذهني (فكرة عبقرية!) ظننْتُ أنَّها ستُبَوِّئُ صاحبَنا رأسَ قائمة الناجِحين، ويالَها من إشراقة:
هل تريد أنْ أرسُمَ لك الْهَيْكلَ العظمي؟!
ردّ على الفَوْر:
لِمَ لا، إذا كنت فعْلاتُتْقِنُ رَسْمَه!
قلتُ له مؤكِّدا:
أجل!..لقد درسْناه ورسَمْناه في القسم الْخامس، ومابَرِحْتُ أتذكّر شكلَهُ عَظْما عَظْما، فكُنْ مُطْمَئنَّ الْبالِ!
في الْمَساءِ، باغتنا أبو الفتى، وهو يتأرْجَح بقُفَّتَيْنِ ثقيلتين كالبطة العرجاء، واحدةً بيد، وأخرى بيد ثانية، مَليئتين بالْخُضَر والفواكه واللَّحْمِ، وكل مالَذّ وطابَ، وقدّمَهُما لأخي قائلا: تقبّلْ هذه الْهَديةَ البسيطةَ ولاترفُضْها، فَمَهْما بذَلْتُ في حَقِّكم، فلنْ أوفِيَ جَميلَ أخيك (الْمُجْتَهِد) على ولدي العزيز!
ذُهِلَتْ أمي بِهَذِهِ النِّعَم التي تدَفَّقتْ، فَجْأةً، على أُسْرتِنا بفضلى، فعانقتني عناقا حارا، وطبعتْ خدي بقبلة، لَمْ أُحِسَّ بِوقْعِها من
قَبْلُ!..كيف لا تُقَبِّلني، ونَحْنُ لانذوق اللحْم إلايومَ الْجُمُعة، وأحيانا، جُمُعتين؟!
وبعد أيام قليلة، سَمِعْنا هَرْجا ومَرْجا في دَرْبِنا، فَخَرَجْنا نستطلع الْخَبر، ظانِّينَ أنّ جارا توفِّي، أوسقفا هوى على ساكنيه، إذا بنا نشاهد الْجيرانَ متحلِّقين حول باب منزل طه حسين، وهُمْ يُواسونَهُمْ ويُخَفِّفون عنهم حينا، ويُرَدِّدون مُحْتَجِّين في أسى حينا آخرَ:
هذا غير معقولٍ ولامقبولٍ!..كيف يُهان من يسهر الليلَ في حِفْظ دروسه، ويُعَزُّ من لايفرق بين النقطة والفاصلة؟!..لاتظلوا مكتوفي الأيدي هكذا، ينبغي أنْ تطَّلعوا على أوراقه، لتتأكّدوا من تصحيحها ونقطها!
أجابتهم أمه، وعيناها تفيضان دموعا:
لقد كانتْ كلُّ أجوبته صحيحة وسليمة، وحصل على أعلى النقط، كما شهِد بذلك الْمُدير و(الأساتيذ)!
يالَلْغَرابة!..وألَمْ يُعَلِّلوا لَكُمْ بالْحُجّة والْبُرْهان سُقوطَه؟!
قالوا إنّ كاتبه، حشَر أنفَه، فرسم له في الورقة (عِظامَ البشَر) مِمّا جَعَلَهُمْ يشكّون في أجوبته الأخرى!
وهنا، أدركتُ أنّ الأمر يعنيني، أنا بالذات والصِّفات، فملْتُ إلى الْهُدوء حُبا في السلامة، لاأنْبِسُ بِشَفَةٍ، ثُمّ لَمْ ألْبَثْ أنِ انْسَلَلْتُ من الْحَلْقة، أتراجع إلى الوراء خُطْوةً خُطْوَةً، برأسٍ منكسِر، ووجهٍ مُصْفَر، غاض منه الدم، وفرائصَ مرتعشة، وعينين زائغتين من الْخَوْف والْفَزَع!..كيف لا، وأنا أثَرْتُ هذه الزَّوبَعَة، التي طالَتِ العائلةَ الْمَكْلومةَ والْجيرانَ الْمُتَضامِنين معها؟!..والْمُتَحَلِّقون يرددون: مالِهذا الكاتب وعِظامَ البشر؟!..أين رآها وهي مَكْسوة باللحم؟!..لِماذا لَمْ يرسم عظام البقر والكباش؟!
وإذا بأُخْتِهِ ترْمُقُني، فبرزتْ أسنانُها كبروز نُيوبِ الأسد، ومدّتْ يدَها طويلا، تُشير إلَيّ، ثُمّ صاحتْ بأعلى صوتِها، كأنّ زُنْبورا لَسَعَها:
اِقْبِضوا عليه!..هاهو الْمَنْحوس، الذي بسببه سقط أخي!
اِلْتَفَتَوا نَحْوي، يُحَمْلِقونَ فِيّ، ويقيسونني بأعينهم من رأسي إلى أخْمَصِ قدمي، غيرَ مُصَدِّقينَ أنْ يكون هذا الْجِسْمُ الضّئيلُ فاعلا، لامفعولابه. فأخذْتُ أُهَرْوِلُ، فانْطَلقوا يتهافتون عليّ، كأنّني فريسة سيصطادونَها، ثُمّ جروا ورائي غاضبين صارخين، إلى أنْ دخلتُ بيتنا، وأغلقتُ بابه بالرِّتاجِ (الْمِغْلاقِ) وهُمْ يُشْبِعونَني شَتْما وسَباًّ، ويتوعّدونني بالثّأر، كأنني قتلتُ مائةً منهم!
أطَلَّتْ أمِّي من شُبّاك صغير صائِحَةً:
ألَمْ تَجِدوا غيرَ طفِلٍ صغيرٍ، تُحَمِّلونَه فشلَكُمْ وخَيْبَتَكُمْ؟!..واللهِ لنْ يُعْجِبَكُمْ حالٌ، إنْ لَمْ تَذْهَبوا من هنا، وتَغْرُبوا عن وَجْهي!..هيّا، ليقصِدْ كلٌّ منكم بيتَهُ، وإلاّصَبَبْتُ على رؤوسِكُمْ غَلاَّيَ ماءٍ حامٍ!
نظر كل منهم إلى الآخر مندهشين، ثُمّ طَأْطَاوا رؤوسَهُمْ، وغادروا الْمَكانَ مستغربين من رَدِّ والدتي، كأنّ على رؤوسِهِمُ الطيرَ!
وعندما حضر أخي في الغذاء، أخبر أمي بصوت حزين:
بالْكادِ، أقنعْتُ والدَ الفتى الْكَفيفَ، بأنّ أخي صغير كسائر الأطفال، يتصرف بتلقائية وعَفْويّة، وبلاتفكير في عاقبة أقواله وأفعاله، ولَمْ يَكُنْ يُريدُ غيرَ الْخَيْرِ لابنه!
سألته أمي:
وبِمَ أجابك الْمِسْكينُ؟!
قال لي: حقا!..كان على ابني الأكبر منه ألاّيوافقَه، لأنّ الكفيف، بطبيعة الْحال، لَمْ يرَ في حياته هيكلا عظميا، ولاأشياء أخرى، ولأنّ الْمُصَحِّحينَ اعتبروا ذلك غِشاًّ في الامْتِحان، والْحَمْد لله الذي لَمْ يتّخذوا إجراء ضِدَّهُما!
قالتْ له أمي بتَحَدٍّ: ولِماذا كل هذا اللَّغْط؟!..هل الأمر يتعلق بشهادة عليا، لَها قيمة؟!
وهنا، تلأْلأَتْ عينا أخي، فردّ عليها: اِسْمَعي جيدا: إنّ ((شهادة التعليم الثانوي)) ستُخَوِّل له الْحُصولَ على وظيفة في مركز الْهاتف، أومعلم مَكْفوفين، مثلاً، لكنها، لو يريد، ستنفذ به إلى الْجامعة الْمِصرية ليتابع الدراسة فيها، لكنْ، بعدَ أنْ يُعيدَ السنةَ الأخيرةَ. ذلك أنّ الكثيرين من الْمَغاربة، يكتفون بنَيْلِ هذه الشَّهادة الوسطى، التي يُطْلَقُ اسْمُها على الباكالوريا في مصر، ليَلِجوا إحْدى جامعاتِها. غير أنّ الرياحَ، بالنسبة لصاحبنا، جَرَتْ بِمالاتَشْتهيهِ السفنُ، وماعليه الآنَ إلاّ أنْ يُكَرِّرَ السنةَ!
لَمْ أعُدْ أطْمَئنُّ لِمُصاحبةِ الْكَفيفين، بعد أنْ وقعتْ لي معهم مشاكل أخرى، وأكتفي بِواحدة منها. فقد كانَ لِجدّتي جار ضرير، يشتغل
(وَكيلاً) في الْمَحْكَمةِ الابتدائية بِحَي (الزَّيَّات) أي مُحاميا. ولاأدري هل مازالتْ هذه الْمَحْكَمة هناك، أمْ نُقِلَتْ إلى مَكانٍ آخرَ؟!..وشُغْلُ الْوَكيل، لايرتكز على شَهادات عليا أوسُفْلى في الْحُقوقِ والقانونِ، أوعلى دراسة وكَفاءة، وإنَّما على تَجْربة يكتسبها بالْمُمارسة، والْحُضور الْمُسْتَمِر إلى قاعة الْمَحْكمة، وطلاقة اللسان وفصاحته وسُرْعة الْبَديهَة والْجُرأة في الرَّدِّ. وبِما أنّ عُطْلةَ الْمَدارس كانتْ طويلةً، تَمْتَدّ ثلاثةَ شُهور، فإنّ هذا الوكيلَ طلب من جدتي أنْ أشتغل معه، فأحْمل له مِحْفظته، وأسير به من بيته بِحَيِّ (زُقاق الْحَجَر) إلى الْمَحكمة. وعندما ينتهي من مرافعاته، يَمنَحُني عشرين سنتيما، أويُكْرِمني زبونٌ بِخَمْسين، وهكذا..!
وكنتُ، كلَّ يومٍ صباحا، أدخل صحبته إلى قاعة الْمَحكمة، وأقِفُ بِجانبه، أمام القاضي ومَنْ معه، حتى ينتهي من مرافعته، فأعود إلى حَيِّي، لأحكي لأصدقائي جُملةً مِنَ القضايا، التي تتبّعْتُها هناك.
وذاتَ صباحٍ باكرٍ، بينما كنا متوجِّهَيْنَ إلى الْمَحْكمة، إذْ بِجارٍ له، طويل الْعنُق كالزّرافة، يعترض طريقه قائلا بصوت مبحوح:
سيدي عبد السلام!..لقد رفع صديق لي دعوى ضدي، يطالبني بردّ مبلغ استلفته منه، قبل عام تقريبا، ولايوجد، الآن، في جيبي الأيْمَن درهم واحد، فكيف أرجع له قَرْضَهُ كاملا؟!
اِنْفَجَر الوكيل ضاحكا:
ومِنْ أين ستؤدي أتعابي؟!
أتعابك توجد في جيبي الأيسر!
هاتِها حالاً، وأكْرِمْ هذا الصَّبيَّ ببضع بَسِّيطاتٍ (تساوي البسيطة سنتيما، وهي عُمْلة إسبانية، كنا نشتري باثنين منها بيضةً، أونَعْناعا، مثلا)!
تسلّم منه قَدْرا من الْمالِ، كدُفْعة أولى، ووضعه في مِحفظةٍ جلدية مُعَلّقة بِحِزام سرواله، ثُمّ سأله:
وهل لصديقك شهود على هذا القرض؟
لا، أبدا!..لَمْ يَكُنْ أحَدٌ حاضرٌ بيننا!
اِطْمَئنَّ، ولاتقلَقْ!..ليقْبِضْ صديقُك الرِّيحَ!..هذه قضية بسيطة جدا، لنْ ينالَ منك مايُنَقِّي به أسنانَهُ (يقْصِد عودا دقيقا نستعمله بعد الأكل، لتنقية مايلعَقُ من طعامٍ بين أسْنانِنا)..هيا معي حينا!
ولَمّا وصلْنا الْمَحْكمةَ، وحَلَّ دَوْرُنا، نودِيَ علينا، فمَثُلْنا أمامَ القاضي، نَحْنَ والْمُدّعي، الذي أكّد طلبه، ونفى الْمُدَّعى عليه نفيا قاطعا صِلَتَهُ به أصْلا!
تدَخّل الوكيل قائلا بصوت عالٍ:
سيدي القاضي: أقِفُ أمامَكُمْ، لا لأدافعَ عن مُوَكِّلي، وإنَّما لأُبْدِيَ عَجَبي من هذه القضية!..هل أصْبَحَتِ الدنيا سائبةً، فيأتي كلٌّ منا الْمَحْكَمةَ، ليدّعِيَ ماشاء بلاحُجّة أوشُهود؟!..لالا، ينبغي أنْ نضعَ حَداّ لِهَذِهِ الظاهرة الغريبة!..قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتُم بدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل)) فأين هذا الْمُدّعي من كلامِه سبحانه!..لِماذا لَمْ يعْمَلْ به؟
سأل القاضي الْمُدّعي:
هل لك شاهد إثْباتٍ، أووثيقة تَحْتَفظ بِها، لتؤكّد طلبك؟
لا، سيدي!..لَمْ يَكُنْ مَعَنا إلاالله تعالى!
سَحَبْتُ يدي من يد الوكيل، وتقدّمتُ خُطْوةً نَحْوَ القاضي، وأنا أظنُّ أنني سأقدِّم خدمةً لصاحبي، يشكرني عليها، فقلتُ له مُتَلعْثِما:
سيدي..هل..هل تسمَحُ لي..لي بكل..مة؟
أجابني القاضي باهِتاً:
ماذا تريد أنْ تقولَ، بُنَيَّ؟!..تكلّمْ، وارْفَعْ صوتَك، لاتَخَفْ!
أجبته حائرا مضطربا، وأنا أنظر يَميني ويساري:
لقد رأيْتُ بِعَيْنَيَّ، وسَمِعْتُ بأُذُنَيَّ، هذا الرجُلَ، يعترف بعظمة لسانه لصاحبي الْوكيل، بأنّه اقتَرض من صديقه مبلغا من الْمال، ولايريد إرجاعه!
قاطعني الوكيل بعَصَبيةٍ:
أرجو، سيدي القاضي، ألاّتأخُذوا كَلامَ هذا الصَّبي على مَحْمَلِ الْجِدِّ!
لاحَظَ القاضي مُعْتَرِضا:
يظهر لي أنه طفل مُمَيَّز، تَجاوزَتْ سِنُّهُ السابعةَ!..يُحْضِرُك، كلَّ يومٍ، إلى قاعة الْمَحْكمة، ويَحْمِل مِحْفَظتَك، التي تَحْتوي على وثائقَ أساسيةٍ، ويظل بِجانبِك حتى تنتهيَ من مرافعاتك. لِهَذا أرى أنّ من واجِبِ الْمَحكمةِ أنْ تسْتأنِسَ بِشَهادتِهِ، وتأخذَها بعينِ الاعْتبار. هل لكم في شهادته نظر آخرُ؟!
تَمْتَمَ الوكيل مُرْتَبِكا:
لا..لانبتغي..بِهَذِهِ الْمُلاحظة..إلاإقرارَ..الْحَقِّ!
اِبْتِسَمَ القاضي مؤكِّدا:
إذنْ، تُرْفَعُ الْجَلْسَةُ للمداولة!
وبينما كنتُ آخُذُ الوكيل إلى بَهْوِ الْمَحْكمة، إذْ بي أحْسَسْتُ بارتعاشة غير عادية تسْري في جِسْمِه، وبِخَلْطٍ في كلامه، مِمّا جعلني أتَوَجَّسُ خيفَةً منه، وأحْذَرُ من أيةِ حركةٍ عشْوائية تَبْدُر منه!
توقَّفَ بي في الْبَهْوِ الْمُزْدَحِم بالرجال والنساء، وسألني بصوتٍ مضطرب:
أين رأسك، أيُّها الشّيطانُ الصَّغير؟!
وضعتُ كَفَّهُ فوقَه، وأجبته في دهشة:
هاهو!..ماذا تريد أنْ تفعلَ به؟!
تَحَسَّسَ خَدِّي جيدا، ثُمَّ هَزَّ كَفَّهُ إلى أعلى لِيَهْوِيَ بِها عليه، فانفَلَتْتُ منه، وهَرَعْتُ من أمامه، وإذا بالضَّرْبَةِ تنزل قويّةً على مُؤَخِّرَةِ امرأةٍ، كانتْ صُحْبَةَ زوجِها، تنتظر صُدورَ حُكْمٍ!
قفزتِ الْمَرْأةُ عاليا من أثَرِ الضَّربة، وهي تَحُكُّ مَوْقِعَها كالْمَلْسوعة، فبادرَ زوجُها بصفعةٍ على خَدِّ الوكيلِ، وتدَخَّلَ الْمُدّعى عليه لِيَحْمِيَه..فيما تركْتُ أنا الفريقين الْمُتضارِبَيْنِ، وجَريْتُ سريعا، أجتاز الأحْياءَ والدروبَ الضيقة الْمُلْتَوية، حتى وجَدْتُني في حَيِّي، أحْكِي لأصْدِقائي آخرَ قضيةٍ عِشْتُها!
وبلغني أنّ الوكيل أسَرَّ لأحَدِهِمْ: لَمْ أُحِسَّ في حياتي بألَذَّ من ضربتي على مؤخرة الْمرأة، ولاأشَدَّ ألَماً من صفْعة زوجِها على خدي!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.