من المعروف تاريخيا أن الرواية اقترنت بالمجتمعات التي اعتنقت الفكر الديمقراطي وآمنت بقيم التعدد والاختلاف. كما أن كتاب الرواية الحقيقيين هم كذلك من اعتنقوا وآمنوا عن حق بالمبادئ التي تتأسس عليها الديمقراطية. إن الرواية، كما تؤكد الأبحاث والدراسات النظرية والنقدية، هي جنس أدبي تتطلب نشأته وتطوره ضرورة أن تتوفر له مجموعة من الشروط، وتتعلق أساسا بالقيم التي تنبني على التنوع الذي يطبع الحياة الاجتماعية على مستويات مختلفة، لغوية وفكرية وإبداعية، إضافة إلى ما ينبغي أن يتمتع به الفرد من حريات وحقوق تسمح له بممارسة أنشطته في الحياة بصورة طبيعية. ولا ترتبط هذه المعطيات بزمن محدد تحديدا خارجيا صرفا، فنقول مثلا القرن الفلاني، أو العهد الفلاني، أو كذا من المؤشرات الزمنية التي تدل على تاريخ معين، بل ترتبط بزمن الرواية الخاص، وهو زمن الوعي المتجدد بقضايا الشكل الروائي، باعتباره الشكل الأكثر تجسيدا للقيم الديمقراطية، ولذلك فإن الرواية لا تولد في مجتمع غير ديمقراطي تهيمن فيه طبقة أو فئة اجتماعية محددة، فتنشر الفكر الأحادي الثابت الذي لا يعترف بالآخر. والأعمال الروائية التي يتم إنتاجها في هذا الاتجاه تكون هي أيضا أحادية الصوت والرؤية، ولا تتأسس على المقومات الفنية الحقيقية للرواية، فلا تعدو هذه الأعمال أن تكون أكثر من سرود قد تتفاوت قيمتها الأدبية، لكنها جميعها تنتمي إلى السرد بمعناه الواسع، وهو عنصر تشترك فيه كل الشعوب والمجتمعات والطبقات والأفراد على تنوع الأزمنة والأفكار والمعتقدات، فيما الرواية (الحقة) تنتسب إلى زمنها، وهو زمن الديمقراطية، بما هي إطار للتعدد والاختلاف الذي يضمن حرية التعبير والتفكير وتدبير شؤون الحياة الخاصة والعامة، وهو أيضا زمن ووعي الفرد، ليس بوصفه ذاتا ضيقة بلا أفق، ولكن باعتباره كيانا يمتلك قدرات خاصة على التفكير والبحث والتحليل في عالم متغير، أي بتعبير آخر الفرد المبدع (المنتج) وليس الفرد الانطوائي الذي يعكف على ذاته فيكتفي بها ولا يتجاوزها. والرواية إذا لم تتوفر لها شروطها الطبيعية في مجتمع ما (غير ديمقراطي) فإنها، لكي تتجاوز العوائق وتنتصر، تصنع شروطها من وعي الكاتب الذي يؤمن بالقيم التي تحتفي بالاختلاف (مهما حصل تجاهلها)، وبنمط الحياة الذي يتميز بسيادة أساليب الحوار وتعدد أشكال الإبداع والكلام (بوليفونية، وذلك كله بالارتكاز على القيم الكونية التي تؤمن بالديمقراطية بوصفها منظومة أفكار وأسلوب حياة يسمح للشكل الروائي باحتواء اللغات المتنوعة وطرائق التفكير والميول الطبيعة والخصائص التي تميز مصائر الأفراد. لذا، فإن زمن الرواية لا يتوقف، إنه وعي متجدد بالشكل ومقتضياته الفنية والفكرية والاجتماعية، فلا يمكن أن تكون الرواية إطارا لعرض قيم فكرية وإيديولوجية مغلقة وثابتة، ذلك لأنها ليست وسيلة تستعمل لأغراض لم تنشأ لها وخارجة عن زمنها ووظائفها الجمالية ورسالتها الإنسانية الخاصة، كما أنها ليست وسيلة تعليمية تتم الاستعانة بها لتبليغ دروس (أو مواعظ) في هذا الحقل أو ذاك، كل هذا يتعارض مع طبيعة الشكل الروائي وأهدافه، فقد قال القدماء إن لكل مقام مقال، فلا يستقيم الكلام سوى باختيار الاطار الذي يناسبه (في الزمان والمكان). إن الأجناس الأدبية لم تولد من فراغ، هناك عوامل وشروط وحيثيات تتحكم في ولادة كل جنس أدبي (شعريا كان أو نثريا) ، أي أن لكل جنس أدبي زمنه، كما أن له آلياته التي تميزه وتمنحه فرادته (من دون أن يعني ذلك عزلة الأجناس عن بعضها، فكل أشكال التعبير تتقاطع وتتحاور في ما بينها). من هنا يتأكد أن الرواية ليست جنسا مغلقا، فالجنس الأدبي المغلق لا يحاور محيطه، بل يكتفي بنفسه (مونولوج) فيما الرواية هي جنس منفتح، وغير مكتمل كما يقول ميخائيل باختين، وهو قابل للتجدد بفعل قدرته على الحوار واستيعاب الأجناس والثقافات الأخرى، وهذا من شأنه أن يطور باستمرار أدوات التعبير لهذا الشكل الذي اتخذته الطبقة البرجوازية للتعبير عن قضاياها ومشاكلها، فارتبط بها ارتباطا وثيقا إلى حد أن ف. هيغل وصف الرواية بالملحمة البورجوازية (في مقابل الملحمة اليونانية). وانطلاقا من ذلك يظهر بجلاء أن للرواية زمنها الخاص، المتجدد والممتد، فهو زمن لا يتوقف بحكم الحاجة الدائمة إلى الحوار والتعبير بواسطة الأشكال التي تتوفر على إمكانية احتواء مظاهر التعدد (على اختلاف تجلياته) الذي يكون مصدر غنى وثراء في الأدب والحياة على حد سواء. *كاتب مغربي