تحتفل رواية منيف غالبا ببطولة المثقف الذي دخل مرحلة العد العكسي "تجاوزت الخامسة والثلاثين، غير متزوج، أحببت أكثر من مرة حبا جنونيا كنت في الثلاثين كنت في المئة، كنت كبيرا، وكنت صغيرا" الممتلئ بالمرارة بعد انهيار الكثير من اليقينيات "أحس في لحظات كثيرة، وكأني وحيد، وسط العراء في مواجهة كل الرياح، دون قدرة على المقاومة وأن هؤلاء الساسة الذين أسلمت لهم قيادي خدعوني، تخلوا عني"، "قالوا لا تفعلوا شيئا... تراجعوا تراجعنا.. وتركنا الجسر"، الرافض للقمع، ولرضى وصمت المجتمع (الشرقي العربي) الحالم بحياة يسودها العدل والمساواة والحرية، الطامح إلى تغيير واقع العالم العربي عامة والشرقي خاصة: "أكره طريقة الحياة والعلاقات في بلادنا ولن تزول هذه إلا بثورة تحرق كل شيء" وبناء عالم ثان على أنقاض العالم الأول، عالم بعيد عن جحيم النفط. هذا الوعي النضالي نابع أساسا من الإحساس بالظلم المسلط على الإنسان العربي "الشرقي" من طرف الأنظمة السياسية ذات الطبيعة الاستبدادية، وكذا من رفض التشويه الذي أصاب البلدان الشرقية العربية نتيجة تدفق أموال النفط. هذا التشويه الذي امتد ليشمل العلاقات الحميمية، علاقة "علاء السلوم" مثلا بنجوى العامري في رواية "عالم بلا خرائط" وكيف ستنقلب هذه العلاقة مما كانت عليه من إعجاب، وحب، إلى كره وقتل. حيث تتوسع الهوة نتيجة هذا التشويه بين المثقف والآخرين وتتأزم علاقته بالمرأة (المدينة) وبالعمل الحزبي، وبطولة المثقف في الكتابة الروائية لعبد الرحمان منيف شاهد على سلسلة التحقيرات التي مست شخصية البطل عبر تاريخ الرواية، وتغير إبداعي روائي مواز للتغير الإجتماعي والإقتصادي والسياسي حل محل مفهوم سابق كلاسيكي (المأساة) ربط البطولة بالآلهة، وبالسلطان، وأخيرا بالقوة البورجوازية، وشاهد على صعود فئة المثقفين العضويين بتعبير غرامشي، الواعية بدورها التغييري والداعية إلى بناء عالم عربي تصان فيه كرامة الإنسان. فالثقافة مع أبطال منيف ستتحول إلى أداة سياسية تهدف إلى التغيير، ذلك أن المثقف له وظيفة تاريخية باعتباره منتجا للفكر الإيديولوجي المناسب لمطلب التغيير. ومثقف منيف يرى أن العالم الشرقي (العربي) على العموم ينبغي أن يهدم لإنعدام التكافؤ ولغياب استثمار عقلاني لثروة النفط وبناء عالم أكثر إنسانية، وديمقراطية "العالم الذي نعيش فيه شديد القسوة والذمامة والظلم، وهذه الأمور يجب أن تنتهي لتقوم على أنقاضها معالم حياة جديدة" "طبعا للنفط أثره العميق، اكتشفه الأمريكيون، وعلموا الناس الخطيئة، بل الخطايا السبع كلها". فعالم الإرهاب والقمع والقتل الذي هو من إفرازات ظهور النفط سيولد بمقابله عالم الرفض والمواجهة وسيكون أساس التحرر من القمع وطقوسه واستثمار ثورة النفط استثمارا عقلانيا يخدم الصالح العام في تبني مثقف منيف للبعد الإيديولوجي في منحاه الاشتراكي والماركسي، وتبرز إيديولوجية مثقف منيف من خلال تبنيه الواضح لها، ودفاعه عنها "مهمة الاشتراكية أن تساوي بين الريف والمدينة، بين العمل اليديوي والعمل الفكري، وسوف يأتي يوم بالتأكيد، سيكون فيه لكل إنسان حسب حاجته". "لا أدري عما كانت تدور مناقشتكم، لكن أجزم أنها حول واحد من ثلاثة، المرأة، الله، السياسة... ولابد لي أن أسقط الله أيضا من القائمة بالنسبة لكم، عكس ما نفعل نحن هنا، لأن لديكم قناعة أن الطريق الآخر هو الذي يوصل إلى التقدم". وكذا من رفضه للقيم والأخلاق والعادات التي عليها المجتمع الشرقي "باريس باريس الفراشة الملونة التي تضج بالضحكات والقبل، باريس النساء، كل امرأة تعادل شرقك كله!". وإيديولوجية مثقف منيف ستولد بالضرورة إيديولوجيات معاكسة لها، وعن هذا الاختلاف الإيديولوجي ينشأ الصراع داخل الرواية. صراع بين إيديولوجيا مثقف منيف وإيديولوجية البورجوازية طبقة أثرياء النفط التي تعمل بإيديولوجيتها على الحفاظ على الوضع كما هو لما في ذلك من حفاظ على مصالحها ومكاسبها ونفوذها "إنه حاقد على كل واحد يملك قرشا، والمسقوف يريدون هكذا أيضا، بل يريدون أن يجعلوا الدنيا إباحية، الولد يتزوج أمه، أخته ليس عندهم حرام وحلال، صراع بين مثقف منيف والمجتمع (التخلف، التقاليد، القيم، الأخلاق، الدين...) "هكذا سمعت يقولون إنك أصبحت سياسيا فوضويا، لا أعرف!". صراع مثقف منيف مع نفسه (الحوار الداخلي، القلق، الهلوسة، الهيستيريا، المرض...) "كنت خارجا لتوي من المرض، كان مرضا غامضا طويلا" ،وفي صراعه سيعمل المثقف داخل النص الروائي لعبد الرحمان منيف على إضفاء صبغة مثالية على الذات وملحقاتها Idialisation وصبغة شيطانية على الآخر Diabolisation de l'autre خاصة وأن الإيديولوجية هي أقرب إلى الميثولوجيا في سحرها وامتلاكها لفكر ووجدان الإنسان، بحيث تقود صاحبها إلى الاعتقاد الوثوقي وبالتالي اتخاذ مواقف دفاعية عن هذا المعتقد والتضحية من أجله وعن هذا الصراع الإيديولوجي تصبح للرواية حبكة وللمثقف صورة. ولنزاهة مثقف منيف ولتمسكه بالمبادئ ولمواقفه السياسية ولكتاباته التحريضية، ولرفضه لأشكال الإستبداد والظلم وعشقه للحرية، سيتجرع ذل السجن، والحصار، والحرمان، والمرض، والموت "الضرب، السجن الانفرادي، التعليق في السقف، المياه الباردة أيام الشتاء، المنع من النوم". "مات طالع يوم الأربعاء مات" وسينضاف إلى هذا الذل مرارة الخيبة السياسية والخيبة العاطفية "أصبح صفاء يدرك، استنادا إلى كثير من المعلومات أني تمزقت سياسيا، لأني اكتشفت في وقت متأخر للأسف، أني كنت أحمل في داخلي مجموعة من البلاهات وعلى كتفي مجموعة من الجيف". "أحس في لحظات كثيرة وكأني وحيد وسط العراء، وأن هؤلاء الساسة الذين أسلمت لهم قيادتي خدعوني، تخلوا عني". وبعد تخليه عن العمل السياسي الحزبي، سيلجأ مثقف منيف في النهاية إلى الكتابة والكتابة الروائية على الخصوص، بشكل ومضمون جديد. هذا التحول يفرز معه مجموعة من الأسئلة منها: لماذا الرواية؟ وكيف ينبغي أن تكون هذه الرواية؟ لماذا الرواية إذن؟ إنه سؤال لا يتعلق بالثقافة العربية الراهنة (زمن الرواية) بل بما تتميز به الرواية عن باقي الأجناس الأدبية، كأداة تعبير قادرة على رصد التحولات الإجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات. فالرواية بتعبير ستاندال مرآة تجوب الشوارع، تعكس هموم الناس، آمالهم، وأحلامهم، ونوافذها مشرعة على عوالم سحرية متعددة، الفانطاستيك، الأسطورة، التاريخ، الموروثات، السينما، الصحافة، الشعر، الوثائق، الخطاب الصوفي... وهي مجال لتعدد الشخصيات وبالتالي تعدد الأصوات والرؤيات والإيديولوجيات والمواقف، وكما أن الرواية تتمتع بالقدرة على التقاط المسكوت عنه في الخطاب السياسي والإيديولوجي، وإذا عدنا إلى نصوص منيف الروائية وتأملنا صفحاتها جيدا سنجد مسبقا _أي قبل اختيار مثقف منيف للكتابة الروائية_ وجود تجربة شخصية وقلق إبداعي عنده يسمح بولوج عالم الرواية. فالكتابة الروائية مع مثقف منيف سواء التي تمت ممارستها إبداعيا "النوارس" و"شجرة النار" في رواية "عالم بلا خرائط" أو التي هي في بداية تحققها الإبداعي كما في رواية "شرق المتوسط" مع رجب، أو في رواية "الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" مع عادل الخالدي، أو في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" مع منصور عبد السلام، لم تعد تقدم نفسها ككتابة للتسلية والهروب من رتابة اليومي، بل كفعل وعي وفعل حياة، وأداة للفضح والتعرية "لن تضيع يا مرزوق، إذا لم أستطع أثأر لك، فسوف أكتب عنك أنك الإنسان". "أفكر أن أكتب أشعارا وروايات...، الشيء الذي لم أتوصل إليه الآن، كيف يجب أن تكون الرواية!؟ أريدها أن تكون جديدة بكل شيء، أن يكتبها أكثر من واحد، وفيها أكثر من مستوى وأن تتحدث عن أمور هامة والأفضل مزعجة... وأخيرا أن لا يكون لها زمن". فرجب في رواية "شرق المتوسط" يطلب من أفراد أسرته (أنيسة حامد عادل) المشاركة في مشروعه الروائي بكتاباته، لخلق رواية متعددة الأصوات، ليضمن بذلك تعدد الشخصيات واللغات والرؤيات والأحداث، ومن ثمة المتعة والتشويق والتساؤل. فرجب يطمح في رواية "شرق المتوسط" إلى كتابة رواية بعيدة عن التقليد، متجاوزة النمط التقليدي والفهم التبسيطي للرواية، رافضة لتشييء إنسانية الإنسان، واجترار الخطابات، رواية تفضح الجلادين وتعري عن واقع السجون العربية ومعاناة المعتقلين، رواية تحكي عن القهر والظلم بعيدا عن الوعظ والإرشاد المباشر، رواية تعانق اليومي وتمجد الموت البطولي والحياة المنبعثة من رماده كطائر الفنيق (فعل الموت المجدد للحياة). فمثقف منيف يمتلك من الوعي النظري ومن العشق والثراء الداخلي/والخارجي ما يؤهله لبناء رواية جديدة ذات ملامح عربية وهذا ما عكسته رواية "عالم بلا خرائط" والتي كانت بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا حيث الدعوة الصريحة للروائي علاء سلوم في (رواية عالم بلا خرائط) إلى ضرورة تحديث الرواية العربية وتأصيلها يقول علاء سلوم في حوار مع بطل رواية "شجرة النار". في رواية "عالم بلا خرائط" لا، لا رياض أنت لست بطلا بالمعنى التقليدي، لأنك أقرب الناس إلى التميز..." فمثقف منيف بعد خيبته السياسية والعاطفية سيعمل على بناء رواية جديدة تهتم بالإنسان العادي، ترصد علاقته بنفسه وبالعالم، وترتاد واقعا إنسانيا أكثر إغراءا، رواية تعالج المسكوت عنه أو كما قال رجب لأخته أنيسة في إحدى رسائله (في رواية شرق المتوسط) "أن تتحدث عن أمور هامة والأفضل مزعجة، رواية يغدو فيها البعد السياسي ممزوجا بالضلال والتشويق والإثارة التي ترسمها الحياة الروائية، لكي أتابع فيها كل ما يسكنني من الأحلام والطموحات".