المرجعيات الفلسفية والصوفية تغني لوحاتي دون أن تسلبها هويتها ومنابتها الأصلية جاء حصول الفنان التشكيلي المغربي محمد المنصوري الإدريسي، قبل بضعة أسابيع، على عضوية «الأكاديمية العالمية للفن» التي يوجد مقرها في فرنسا، وتتويجه فارساً من طرفها، تقديراً لمساره الفني الذي يمتد لأزيد من ثلاثة عقود، وكذلك عرفاناً بحرصه الدؤوب على تطوير الفنون التشكيلية في المغرب على مستوى البحث والممارسة والتنظيم النقابي والنشاط الجمْعي. وبمناسبة هذا التتويج، جرى هذا الحوار مع الفنان المنصوري الإدريسي: أي شعور انتابك وأنت تتوج فارسا أكاديميا من طرف الأكاديمية العالمية للفن؟ بقدر ما ابتهجت بهذا التتويج، بقدر ما داخلني الشعور بأنه ليس مجرد تشريف لشخصي، بل هو تشريف للفنانين المغاربة والعرب، وهذا ينطوي بدون شك على تكليف يجعلني مطالبا أكثر بالعمل على إغناء تجربتي التشكيلية بالانفتاح على الآخر وإشراك الغير في خطاب الهوية. كيف بدأت علاقتك بالفنون التشكيلية، وكيف تطورت؟ منذ الصبا استرقتني أهواء الصباغة والرسم. كانت المدينة القديمة للرباط وسطا ملائما لنمو هذه الغواية، إذ فضلاً عن جاذبية المكان «قصبة الأوداية» بالتحديد، فإن سوق المدينة كان بمثابة سوق يومي للون الذي تبدعه يد الصانع التقليدي، كما منحتني المدينة القديمة هبة التعرف عن قرب، على الألوان التي تبدعها ريشة رسامين مقيمين وثلة من رسامي الجيل الأول والثاني من تشكيليي المغرب، والتي كان قريبي «الحاج مكوار» يوفر قماش الرسم ويصنع إطارات لوحاتهم، في محل كان من المحلات القليلة جدا التي تؤمن هذه الخدمة في الرباط. وتوزع وقتي آنذاك بين المدرسة وصنعة الإطارات. في بداية الثمانينات ولجت الجامعة، لأدرس التاريخ. ثم هاجرت إلى فرنسا لاستكمال دراستي الجامعية، نلت شهادات عليا. وبالموازاة مع ذلك، انجذبت غريزتي مجددا إلى أهوائها، التحقت بالأكاديمية الأوروبية للفنون ببروكسيل بلجيكا، بعدها ولجت تدريبا مهنيا في فنون الغرافيك بباريس، تخصص الملصقات التشكيلية، لأكبر الفنانين التشكيليين العالميين. لدى عودتي إلى المغرب، التحقت بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية. اخترت طواعية العيش لفني ومن فني، بعد أن فزت بجوائز مباراة وطنية في التشكيل لموسمين متتاليين. تعلمت أسرار الصباغة على يد كبار الفنانين المغاربة والأجانب، وتمرست بما يكفي على الصباغة الزيتية. وكان لقائي مع فرنسوا دوفاليير، نقطة تحول في مساري الفني. لقد توجه النقاش مع هذا الأنثربولوجي الفرنسي المطلع على التراث السوسيولوجيو الانثربولوجي المغربي والعربي والإسلامي (وهو الذي ولد بمكناس وأحب المغرب، وفضل الإقامة به لعدة سنوات على أي مكان آخر) حول أسئلة من قبيل: إذا كان هذا البلد يعتبر في أعين من صنعوا تاريخه الجميل من كبار الرسامين العالميين جنة طبيعية للضوء واللون، فكيف لصوت من أصواته أن يضيف إلى هذه الهبة الطبيعية حفرا في الذاكرة البصرية المغربية العربية الإسلامية ، ما يكون سندا لوحدة لغة الفن التشكيلي، وصيدا يظفر به التشكيل لفائدة هذه الوحدة، فاختارت الصباغة محاورة التصوف من خلال أهم أقطابه ابن عربي، جلال الدين الرومي وفرنسوا داسيز، وهو تراث مرتبط بذاكرة بصرية قوامها فن المنمنمات والكاليغرافيا العربية الإسلامية والحفريات والرسوم الفرنسسكانية... ومرتبط أيضا بسياق حوار يجمع المختلف في لغة واحدة.. يصنفك بعض النقاد كأحد أبرز ممثلي الانطباعية الجديدة في المغرب، ما رأيك في هذا التصنيف؟ وما هي سمات هذا الاتجاه؟ ربما لأجدني أكثر ضمن نوع من الانطباعية الفائضة أو الانطباعية الجديدة التي تثور المعرفة. الانطباعية بصورة عامة هي اتجاه فني ارتبط في الموروث الجمالي الكوني بالتجربة البصرية لكل من «مانيه» و»مونيه»، ومنطلقها الخروج بالقماشة من ورشة الصباغة إلى عالم الطبيعة، مع ما يقتضيه هذا الخروج من اقتناص اللحظات الهاربة التي يتم تأبيدها عبر لعبة الضوء وعبر منح فسحة أكبر لانتشار الضوء في اللوحة وتوظيف آسر وساحر للألوان. والانطباعية الفائضة أو الجديدة تستمد جدتها من كونها تعانق المنجز التجريدي، إذ تتلخص من إكراه التشخيص والتمثيل، مع الاحتفاظ بحضور الضوء وتنوع الألوان وشفافيتها والمضي أبعد من معانقة الآنات المنفلتة. وأعمل في هذا السياق بمعية بعض الزملاء من الفلاسفة الجماليين المغاربة وغير المغاربة على تطوير وبلوة هذه التجربة الجمالية، فعلى سبيل المثال أسعى بشكل دائم برفقة الصديق الباحث الجمالي محمد الشيكر على طرح كثير من الأسئلة على تاريخ الفن الكوني وعلى متغيرات المشهد الإستتيقي العربي، وسنعمل بحول الله على إصدار عمل في هذا الإطار. قال الناقد الفني إيريك ديستوبيليير عنك إنك ترسم لاستفزاز الحياة وتذكيرنا بتلك المقومات الأبدية لحياتنا: التاريخ، الثقافة والحلم. كيف تتفاعل مع هذه الخصائص الأساسية؟ تبدو هذه العناصر التي تفضلتم باستيقائها من شهادة أريك ديستوبيلير عن تجربتي الشخصية مقومات ضرورية في كل منجز فني رائد، أو يريد لنفسه أن يكون في موقع الريادة الجمالية. فالفن الأصيل محكوم بالموروث أو الذاكرة اللذين يعبران عبر صيرورة التاريخ بالثقافة، وهو ما يسم كينونة الذات المبدعة، ويرسخ فيها بعد أن تنسى كل شيء . والحلم هو القدرة على تجاوز الحاضر، ولكن من غير السقوط في الإستيهام والهلسنة البصرية. إن ما أضيفه فوق هذا وذاك إلى تجربتي هو إغناؤها بمرجعيات فلسفية وميتافيزيقية وصوفية، تغني اللوحة بدون أن تسلبها هويتها وتلبسها لبوسا متألقا بدون اغتراب عن جذورها ومنابتها الأصلية. أنت معروف بنشاطك المكثف في عدد من الجمعيات والنقابات الفنية، ما هو الطموح الذي يحذوك من وراء هذا النشاط؟ في السنة المقبلة ستحتفل الدوائر الفنية المغربية، إن شاء الله، بانصرام نصف قرن على تأسيس حلقة 1965 التي كانت بصمتها مشهودة في الجسم التشكيلي الوطني والتي وضعته على عتبات الحداثة الكونية، وما كان يميز الفنانين الذين ينتسبون إلى هذه الحلقة أمثال بلكاهية وشبعة والمليحي وغيرهم هو التواجد في جبهات ثقافية وفنية ونقابية مختلفة والخروج من عالم الورشة نحو الجدار الخامس. وأعتبر نفسي امتدادا لهذه التجربة، فأنا بدوري التزمت وألزمت نفسي بعدم الارتباط بمختبر الصباغة فقط، يحدوني في ذلك الرغبة بمعية زملائي في الارتقاء بالأداء الفني للتشكيل المغربي. فكوني عضوا أو أرأسُ عددا من الجمعيات والمؤسسات والأكاديميات الفنية العالمية والوطنية لا يدخل ضمن الرغبة في الاستعراض، بل في تطوير التجربة الجمالية الشخصية والوطنية بما يكسب الهوية مقومات أكثر انفتاحا على الكونية. ألم يقل «بول ريكور»: إن الهوية هي حقيبة من الأصوات الغيرية؟ كيف تقيّم واقع الحركة التشكيلية في المغرب؟ أعتقد أن المشهد التشكيلي المغربي هو من التنوع والتعقد، بحيث يستعصي على المتتبع والمهتم والناقد تصنيف حساسياته وحصر اتجاهاته الكبرى. لكن يمكن القول مع ذلك إنه يتشكل من فنانين مبدعين ومن تقنيين مقلدين مع صرف النظر عن باعة الأعمال الفنية تحت المعطف وبصورة تتجاوز المتلقي والناقد والمحيط الفني سواء بسواء. ليس أمراً سهلا تقييم الحركة التشكيلية في المغرب في غياب الاهتمام الكافي وغياب تراكم الكتابات النقدية والمصاحبات الإعلامية المتخصصة. زد على ذلك عدم انتظام المعارض الفنية على شساعة ربوع الوطن. ولكن، عموما يمكن القول إن الإبداع التشكيلي في المغرب ما زال أسيرا للتقنية المستوردة من الغرب على الرغم من محاولات التأصيل والتحديث في تجربة مجموعة من الفنانين التشكيليين المغاربة لاسيما من الرواد وجيل المخضرمين وقلة من الفنانين الشباب. في ضوء ذلك، أضحى غالبية الفنانين التشكيليين المغاربة تائهين ومشدودين نحو المحترفات الأوروبية، وهي حقيقة يصعب فصلها عن واقع الممارسة التشكيلية المغربية اليوم التي تتم في ظروف غير مشجعة مفعمة بالارتباك والفوضى على أكثر من مستوى. إلى أي حد يمكن للمبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة حول الفنون التشكيلية في دعم هذا القطاع على مستوى الممارسة والتوثيق والبحث والنقد؟ نثمن الجهود التي يقوم بها وزير الثقافة محمد الأمين الصبيحي في تدبير القطاع، ونثمن عاليا الإشراف الفعلي والاستقصائي الذي يقوم به لمواكبة هذه الإصلاحات والتراكمات الإيجابية التي حققها قطاع ميدان الفنون بصفة عامة لما له من دور اقتصادي وكذلك تنموي. ونشكر له حرصه الدائم على النهوض بالواقع الثقافي المغربي لضمان استكمال مقومات البنية التحتية للثقافة، وهو مطلب أساسي للانطلاق نحو آفاق أوسع تتبوأ فيها الثقافة مركزاً أكبر في عمليات البناء والتأهيل لمجتمعنا المغربي. في كل الأحوال، ينبغي تثمين المبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة والمتمثلة في دعم قطاع الفنون التشكيلية إبداعا ونقدا وتوثيقا. ورغم أن «إرضاء الناس غاية لا تدرك» كما ينطق القول السائر، فلاشك بأن كل مشروع ناشئ تعتريه هفوات وهنات، إلا أن ما سيأتي أكيد سيطور مشروع الدعم الذي هو في المبدأ سيحرص على احترام قيم الإنصاف وتكافؤ الفرص وإن كانت هناك من صعوبات ونقائص فهي قي شكل تنزيله وأجرأته. ما هي مشاريعك المستقبلية ؟ أقوم حاليا، بعد معرضي الأخير بالقاعة الوطنية باب الرواح، بوقفة تأمل وتقويم لتجربتي الراهنة في أفق بلورة هذا الاتجاه الذي أمضي فيه والذي أسمه بوسم الانطباعية الفائضة. وهذا يقتضي ليس فقط الاشتغال على صعيد المرسم بل الانفتاح على مرجعيات فلسفية وفكرية بمعية أصدقاء وفي إطار منتدياتنا الفكرية التي تشرف عليها جمعية الفكر التشكيلي.