نشطت الحركة الفنية المسمّاة «جماعة 65» وتقوَّت، خصوصا بعد انضمامها لجماعة مجلة أنفاس(سوفل) اليسارية التي كان يديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي إلى جانب أعضائها الطاهر بن جلون ومصطفى النيسابوري والراحل عبد الكبير الخطيبي، وكلهم يكتبون باللغة الفرنسية. وتضاعف هذا النشاط كثيرا داخل جماعة «الثقافة الجديدة»، ولاسيما بعد ظهور بيان الكتابة الذي وقعه كل من الشاعر محمد بنيس والرسام محمد القاسمي حول التفاعل بين الشعر والتشكيل، إذ تم إنتاج العديد من الكتيبات المشتركة وPorte-Folio التي تجمع النصوص الشعرية والأعمال التصويرية المصاغة بتقنيات طباعية متنوعة كالحفر والسيريغرافيا، فضلا عن الحيوية الفكرية التي اتسمت بها بعض الملاحق الثقافية آنذاك، خصوصا بجريدة المحرر وأنوال.. فمفهوم المحلية يتخذ في هذا الإطار معنى يكاد يكون أحاديا «يشير إلى طابع وأصول جمالية وتطبيقية على صلة بخلفيات عَقَدية واجتماعية واقتصادية ومجمل مراحل التاريخ الثقافي لمجموعة بشرية أو لشعب بعينه. وغالبا ما يكون هذا الطابع بأصوله الجمالية والتطبيقية على صلة بتقاليد فنية موروثة أو مبتدعة أحيانا، وبتصورات واهتمامات ومقاصد تحددها بيئة العمل الفني ومحله. وضمن إطار المحلية قد يتحدد دور الفنان في ارتباط تختلف درجاته أو تتعدد وظائفه في حياة الجماعة أو الشعب، ذلك إلى جانب اتصال هذا المفهوم أحيانا بدائرة من تقاليد ثقافية شفاهية أو مكتوبة تسجل رؤية الجماعة أو الشعب لتجربته الحياتية أو التاريخية»(15). في حين «يحمل مفهوم الهوية في أغلب استعمالاته الشائعة دلالة السكون والوحدة، وإذا كانت الأصول المنطقية للمفهوم تتوخى بواسطته تعيين وضبط حدود الأشياء والظواهر المشار إليها بالكلمات، فإن نقله من مستوى الإشارة المحددة للظاهرة في لحظة بعينها إلى مستوى الإحاطة بدلالاتها على وجه الإطلاق، ساهم في تركيب تصورات لا علاقة لها بمعطيات المسميات الفعلية في تحولها. وتتضح هذه المسألة بصورة قوية عندما نفكر بواسطة المفهوم في الظواهر المتصلة بقضايا التاريخ والإنسان والمجتمع والثقافة، حيث تتحول الموضوعات المذكورة بفعل الدلالة المباشرة للمفهوم إلى وحدات مغلقة لا تعبر فعلا عن طبيعتها المتغيرة، قدر ما تشير وتعين سمة من السمات الموصولة بها في لحظة من لحظات صيرورتها، فلا نعود ندري ونحن نتحدث عن مفاهيم الحضارة والثقافة والإنسان عن أي بشر أو ثقافة أو حضارة نتحدث»(16). ارتباطا بهذين المفهومين الملتبسين، وبكثير من المجازفة الإبداعية، غير المحسوبة، قامت جماعة 65 وبرزت بالمغرب كحركة طليعية وضعت في مقدمة أهدافها صون التراث البصري والجمالي الوطني وإدماجه في بنية التعليم الفني. إنها معضلة كبيرة مرّ منها الإبداع التشكيلي بالمغرب باعتبار أن هذا السؤال (الهوية الوطنية) لا زال سطحيا لدى العديد من الرسامين والنحاتين المغاربة. فلا يمكن والكلام للفنان بوشعيب هبولي- للهوية المغربية أن تتحقق في الفن التشكيلي بمجرد رسم القباب أو المناظر الطبيعية أو رقصات المناطق أو بعض الأشكال..لا يمكن أن يكون وجود ذلك كافيا ودالا على الهوية المغربية. لنأخذ ظاهرة التشخيص في المغرب، هل ما يقوم به الفنانون المغاربة ضمن هذا التوجه جديد؟ لا أعتقد..لأن كل ما ينجز في هذا الإطار كان قد أنجز في فترات سابقة من طرف التشكيليين الغربيين الإسبان والفرنسيس والأمريكيين، لم يتركوا شيئا إلا ورسموه بدءا من المنظر ونهاية بالفلكلور والرقصات والرموز..لا بد من الجديد، وهذا هو الخطأ الذي يسم الممارسة التشكيلية في المغرب. أعتقد أن هذا ناتج عن ثقافة سائدة وعن ضعف المخزون المعرفي عند الكثير من الفنانين التشكيليين المغاربة، بسبب ضعف التكوين في المدارس التشكيلية، والمخرج هو الرفع من مستوى التعليم بإخراج المدارس العليا للفنون إلى حيز الوجود، فهي الباب الذي يمكن أن يؤدي إلى تكوين رصين ورفيع. لا أعرف كيف يمكن لك أن تتحول إلى فنان ممارس بمجرد كونك خريجا لمدرسة الفنون الجميلة، هذا خلط لا يقع إلا في المغرب، مما ينتج عنه ضعف في العمل الفني. كما أن الفنانين العصاميين- وأنا واحد منهم- لا يمكن أن يقدموا أشياء خارقة، أي لا يمكن أن يتجاوزوا قدرات الفنان العصامي، لأن الأفق المعرفي عند هؤلاء محدود، ولا يستطيع أن يخترق حجبا كثيرة. فالحِرفية وحدها لا تكفي، بل يحتاج الفنان التشكيلي إلى أن يكون صاحب بحث متواصل، وهذا لا يجيء بالصدفة ولا بالسليقة، بل بالعلم»(17). ما قاله الفنان هبولي يرسم في عمقه الصورة المتخلخلة للممارسة التشكيلية في المغرب الغارقة في الحِرفية والنمطية السلبية، والتي لم تستفد من المواكبة النقدية المتخصصة والمنتظمة (لانعدامها) ومن التكوين العلمي والثقافي الذي يؤسس للتجربة الفنية سواء في بعدها الفردي أو الجماعي. فمن المعروف أن الفن الأوربي تجاوز مسألة الهوية - بالمعنى الجغرافي والثقافي- و»ركز على التعامل مع قضايا تشكيلية عديدة، كقضايا اللون والشكل والمحمل والمادة والأداة والشيء والفضاء. فبرزت عدة مفاهيم ومصطلحات لم تكن موجودة من قبل كالتباين والتوزيع الشكلي ولمسة الفرشاة والمسطحات اللونية المترامية الأبعاد واستعمال المواد المرسكلة واستعادة المواد المهملة وتنظيم الفضاء وملمس الأثر الفني وحضور الفنان خلال العمل أو حياده..وهذه القضايا والمفاهيم في الحقيقة هي وليدة الصراع بين نزعتي التشخيص والتجريد اللتين عرفهما القرن العشرون وما تولد عنها من قضايا كصراع الرسم واللون وصراع التمثيل والعرض وصراع التكوين والتنظيم»(18). من ثم غدا القرن العشرون قرن الابتكار الذي لا يقف عند حدود. وثمة اتجاهات فنية بدأت بالانتشار في نهاية القرن أطلق عليها النقاد اسم اتجاهات ما بعد الحداثة، حيث بدأ الفنانون يتمردون على كافة الاتجاهات الحديثة إلى صيغ فنية مستقلة فاستخدموا في أعمالهم مواد متباينة كالنفايات والمواد المتروكة والمهملة، واستفاد الفنان من التطورات التقنية المعاصرة التي توسعت توسعا كبيرا يصعب حصره. وهذه التغييرات جعلت من البعض يرفضون اتباع الأصول الأكاديمية، بل أصبح التمرد على الموروث الموجود وبإضافات شخصية..ما فتح باب التعبير على مصراعيه. ومن الاتجاهات الحديثة التي جسدت مرحلة ما بعد الحداثة نراها في الأعمال الفنية المركبة وفي فن الأرض وفن استخدام الكومبيوتر وفن الفيديو والتسجيل والتلفزيون وفن الجسد، وهذا يعني أن مفهوم المادة التي كانت تستخدم في الفن توسعت توسعا كبيرا إلى حد لا يخطر على بال. ومثل على ذلك، استخدم البعض مجال الالكترونيات والدوائر التلفزيونية المغلقة لخلق أعمال مدهشة»(19). والسؤال المطروح، هو: أين الفن التشكيلي المغربي من كل هذا التنوّع الإبداعي الحديث؟ وهل لا يزال ينحصر فعلا في إنتاج اللوحة بكل مساوئها وعلاتها؟ يتساءل الباحث الجمالي موليم العروسي: «أليست هناك أشكال تعبيرية أخرى؟ إذا كان النحت قليل الانتشار بالمغرب فماذا عن الفن الفوتوغرافي والفيديو والتنصيبات والبرفورمانس..؟ يبدو لي، وهذه وجهة نظر شخصية، أنه من السابق لأوانه إدماج ممارسات لم نتمكن بعد من ضبط لغتها في مثل هذه الظاهرة. أقصد هنا فن الفيديو والتنصيبات والبرفورمانس وكل الانتاجات الفنية المتعلقة بالتقنيات الحديثة. إنه لمن الحكمة إعطاؤها كثيرا من الفرص لتعرض أمام الجمهور وحتى يتمكن النقد من إنشاء لغة خاصة بها لا تخلطها مع اللوحة»(20). ومن دون أي إدراك جمالي وبصري لهذه التحولات والأبحاث التشكيلية الجديدة التي شهدتها أوربا وأمريكا في الحقل الإبداعي، سقط الكثير من الفنانين المغاربة في مصيدة التقليد والاستنساخ مقدمين بذلك أعمالا فنية مسكوكة ومنسلخة عن جذورها وبعيدة عن المناخات والشروط الإستتيقية التي أسستها. وقد ساهم في رسم هذه الصورة القاتمة التي تنخر جسد الإبداع التشكيلي بالمغرب: - غياب منظومة نقدية تشكيلية وجمالية قادرة على إبراز مكامن القوة والضعف في التجربة الفنية بالمغرب. - انعدام العلاقة بين الفن والخطاب (الأدبي والثقافي والفلسفي). - عجز الفنان المغربي عن النظر إلى عمله الشخصي بعين متأملة، أو بتعبير آخر افتقاره إلى مرجعية نقدية ذاتية تؤطر التجربة الإبداعية لديه. وفقا لهذه الوضعية المخجلة، كان من الطبيعي والمتوقع أن يفشل التشكيليون المغاربة في نزع الاعتراف والإقرار بشرعيتهم كنماذج فنية عالمية. كما أن معظمهم ظلوا منشغلين بالانخراط في حداثة عبثية استهلاكية ازدادت سوءا بعد تسلط الكبار على الصغار وظهور أجيال مرتبكة تتبادل الجحود. تعذر نشر إحالات المادة نظرا لكثرتها وضيق الحيز