مشاهدات في بادية الخليج ( اليومية العاشرة) ها أنت يا أنت تمسك بين يديك غلافا أخضر، كم تعبت لتحصل عليه..! كانت موضة كل الشباب يومئذ هو أن يكون لكل منهم جواز سفر، إلى أين..؟ ومتى..؟ لا يهم، الأهم أن يستعد كل شباب للرحيل في كل لحظة، كان الجو ينبِئ ُ بأن الأيام القادمة اشد قتامة..و أبناء الأثرياء والمهاجرين الشرعيين وحدهم يسافرون إلى بلدان الشمال متى وأنى شاؤوا..؟ أليس من حقك يا أنت ومن حق أقرانك أن تروا تلك الجنات التي يتحفنا التلفاز بمشاهد ولقطات منها في برامجه وأفلامه ومسلسلاته..؟ أذكر يوم ذهب أمي إلى سيدي ميمون عند زوج بنت عمي لتطلب منه كفالتي حتى أحصل على جواز السفر، أو يتوسط لي عند السي العربي الموظف بالعمالة كي يساعدني في المهمة . إلى أين يريد ابنك السفر؟ قال السي ميلود . والله لقد أتعبني هذا الولد بحماقاته: يقول إنه يرغب في السفر إلى الخارج، أجابته أمي وهل رأى مدن المغرب حتى يفكر في التجوال في بلاد أوروبا؟ ربما حتى ضواحي مراكش لا يعرفها، أجابها ميلود مستهزئا. كان السي ميلود قد أعد لولديه جواز سفريهما، كما أعد شجعهما على الحصول على رخصة السياقة في حين يستصغر فيك يا أنت الحصول على جواز سفر عقيم. رجعت أمي وهي تتعثر في خطاها من سيدي ميمون حتى باب دكالة، دخلت المسكنية وهي تنهج من طول المسافة، أزالت النقاب على وجهها وقالت: سمع نقلْ لك.. من اليوم ضبر نفسك بنفسك.. ماذا حصل يا أمي..؟ ميلود لا يريد أن يتكفل بك لكن معه حق إلى أين تريد الذهاب؟ إلى فرنسا..؟ فرنسا عمراتْ بالشوموراتْ، اللي ما لاقي شغل يقول لك بغيت نمشي لفرنسا، تكمش فبلادك بحال قرانك واسكت. لقد مررت من امتحان عسير حصلت قبل أن أحصل هدا الكتيب الأخضر المشؤوم بعد أن لم تصبح له قيمته التي كانت له في السابق. فتحته أتصفحه حتى أتأكد من سلامة صفحاته، ماذا سأفعل لو أن فأرا قضم أسفل أو أعلى وريقاته؟ الحمد لله سليم لازال جديدا فقط تأشيرة يتيمة لفرنسا، كانت بالضبط خلال أزمة الجارتين العراق والكويت. لم يكن غزو بعدُ، كل ما هنالك أن الشرق الأوسط كان قِدرا يغلي على نار وقودها الناس والبترول، أمريكا وأذنابها تنسج خيوط العنكبوت لكل أهل الخليج. قبلها كان قد وعدني أحد المراسلين العراقيين بأن يساعدني في الحصول على عمل في باريس حيث يسكن، كي أشتغل وأصرف على نفسي في إحدى معاهد السينما التي كانت عشقي الثاني بعد المسرح. التقيت السيد المسعودي في إطار مهرجان السينمائي الأول الذي نظمته جمعية الأطلس الكبير مع شركائها وكنت يومها من الشباب الجامعيين النشيطين والذين تم استدعاؤهم للمشاركة في المهرجان وذلك بإنشاء مجلة تحت إشراف أحد الأساتذة تصدر بعد انتهاء المهرجان. كنا نحن الطبلة الشباب مثل الأسماك الصغيرة والتي هي دوما طعما لأسماك القرش الضخمة. آه..! كم كانت فرحتي وزملائي كبيرة جدا، لأول مرة سندخل فندقا من خمسة نجوم، وسنلتقي مع ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو ونقاد ونجوم سينما..!! في غرفة صغيرة بفندق من الفنادق المصنفة بمراكش، جلست أمام سماعة الهاتف حيث ناولني السيد مدير المهرجان ورقة بأسماء عدة ممثلات وممثلين مصريين، وذلك لأن المسؤولين المراكشيين كانوا قد وضعونا تحت تصرف السيد مدير المهرجان، كنت وزميلتي ليلى رفيقتي في الجامعة مكلفين بغرفة الاستقبال الخاصة بالهاتف الثابت حتى يكون في خدمة المهرجانيين. خذ هده أسماء وأرقام هواتف بعض الممثلات الممثلين المصريين إن اتصل أحدهم من أرض الكنانة، أو من مطار محمد الخامس على الفور أخبرني أو أحدا من المسؤولين ليبعث السائق بسرعة إلى المطار.. زميلتي ليلى فرحت فرحا لا يتصور وبدت نشيطة أكثر من اللازم ليلى علوي، محمود ياسين، كرم مطاوع عزت العلايلي..فردوس عبد الحميد..إنعام محمد علي و... و... أهذه الأسماء ستتصل بنا..؟ وسنتصل بها..؟ سنسمع صوتها على الهاتف..؟! وعما قريب سنراها..؟! هنا...! معنا...! في الفندق يالله..! ما أجمله من مهرجان قالت ليلى . كان السيد مدير المهرجان كلما دخل غرفته الاستقبال وطلب مني الهاتف أرى زوجته من ورائه ترتدي جلبابا مغربيا وابنتيهما واحدة بجانبه وواحدة بجانب أمها لا يفارقونه أبدا..حتى أنه لا أحد يعرف دورهم بالضبط في هذا المهرجان..وكنت أنا وليلى نقول: زوجة مدير المهرجان هي المديرة حقا لأنها تلازمه كظله وغالبا ما تنهره كلما اختلت به. كان الجميع في الفندق متضايقا من هذه الأسرة التي كانت تمثل تخلف وفوضى مدير مهرجان إحدى دول العالم الثالث. أخذ السماعة من أمامي بنرفزة ودون استئذان: بجانبه ابنته الكاسية العارية ووراءه اصطفت زوجته وابنته الأخرى. واضح أنه اتصل بأحد الممثلين في مصر الدين وعدوه بحضور المهرجان لكنه مؤكد كما فهمتُ من خلال محاورته في الهاتف بأن بعض الممثلين لن يحضروا. وضع السماعة وعلامة الأسى بادية عليه، التفت إلى زوجته وابنتيه قائلا: عملوها.. عملوها الكلاب. فهمت من كلامه أن إحدى الجمعيات السينمائية في مصر تقف ضد إقامة مهرجان سينمائي في المغرب... هكذا علل المدير ما حصل لأسرته وللمسؤولين المراكشيين الدين عينوه مديرا للمهرجان ووعدهم بأن يحضر لهم معظم النجوم المصريين الذين كان المغاربة يعيشون معهم كل ليلة في مسلسل أو فيلم من الأفلام..لكن الذي كان يروج في الكواليس وكنت أسمعه مرة وأفهمه بداهة مرة أخرى، هو أن حضور أولئك ربما ضد إقامة مهرجان في المغرب مديره هو السيد المدير نفسه. خرج مدير المهرجان المغلوب على أمره وهو يردد : عملها الكلب وهبة وأتباعه.. مشى خطوات ثم رجع عندي فورا . اتصل بليلى علوي..هذا رقمها حاول عدة مرات: وإذا مسك معك الخط ناديني فورا . لم تتمالك ليلى التي تجلس جانبي نفسها..نثرت الورقة التي عليها أرقام الهاتف من بين أصابعي ثم احتضنت السماعة قائلة وعيناها جاحظتان. أنا عفاك.. أنا من سيتصل بها الله يخليك.. ولما رأتني مندهشا من تصرفاتها هدأت من روعها قليلا ثم قالت: الله يرحم أبوك فقط دعني اتصل بليلى علوي وأنت لك فرصة الاتصال بالآخرين.. فقط لليى علوي أتكفل بها أنا. حسنا ليلى.. فقط اِهدئي وتمالكي نفسك وأنت تتحدثين إليها. بعد محاولات عدة مسك الخط لكن لا أحد يجيب.. غضبتْ ليلى ووضعتِ السماعة بعنف. لكن ليلى لم تستسلم، في كل مرة تعيد الاتصال.. وأخيرا وجدت والدة ليلى علوي والتي أخبرتها بأن ابنتها تصور مسلسلا في أحد أرياف مصر، كم فرحت زميلتي دلك اليوم.. أخبرت جميع الأصدقاء والصديقات بأنها تحدثت إلى ليلى علوي. خذ يا أنت.. هذا رقم هاتف بيت محمود ياسين.. دورك اتصل به أنت.. قالت ليلى كانت ليلى بنفسها تدير الأرقام.. آلو.. هدا بيت محمود ياسين؟ نعم... من المتصل..؟ كان الصوت بعيدا..وكنت أسمع صراخ ولعب أطفال صغار..كانت الخادمة لوحدها في البيت مع الأولاد. مين أنت؟ وعايز مين؟ الأستاذ محمود ياسين موجود؟ لأ.. أنت أمين؟ وحرمه السيدة شهيرة موجودة؟ لأ يا سيدي ..أنت مين؟ مشْ سمعاك... أنت من ومن أي بلد بتتكلمْ.. أخبريهم من فظلك أن إدارة المهرجان السينمائي من مراكش تريد أن تسألهم عن يوم وساعة قدومهم للمغرب. حاضر..حاضر.. آه..! يا لها من ذكريات..! هذه الأسماء التي كنت اتصل بها أيام الشباب هاتفيا.. سأراها مستقبلا رأي العين..وأين..؟ في بلاد مكة..وكأن عينايَ أخذتا على نفسيهما عهدا بأن تريا نفس الأشخاص الذين سمعت أذناي يوما ما أصواتهم..