عفو ملكي على 1304 أشخاص بمناسبة ذكرى 11 يناير    اطلاق ثلاث خطوط جوية جديدة تربط الصويرة بباريس وليون ونانت ابتداء من أبريل المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    طنجة : الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة للثقافة والإعلام    المنتخب المغربي يودع دوري الملوك    مراكش... توقيف مواطن أجنبي مبحوث عنه بموجب أمر دولي بإلقاء القبض    حرائق لوس أنجلوس .. الأكثر تدميرا والأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا (فيديو)    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    تهنئة السيد حميد أبرشان بمناسبة الذكرى ال81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    وزير الخارجية الفرنسي "يحذر" الجزائر    توقيف شخصين في مراكش بتهمة النصب والاحتيال وتزوير وثائق السيارات    "الباطرونا" تتمسك بإخراج قانون إضراب متوازن بين الحقوق والواجبات    مدن مغربية تندد بالصمت الدولي والعربي على "الإبادة الجماعية" في غزة    إيكال مهمة التحصيل الضريبي للقطاع البنكي: نجاح مرحلي، ولكن بأي ثمن؟    هذا ماقالته الحكومة عن إمكانية إلغاء عيد الأضحى    مؤسسة طنجة الكبرى في زيارة دبلوماسية لسفارة جمهورية هنغاريا بالمغرب    الملك محمد السادس يوجه برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنان الراحل محمد بن عبد السلام    المناورات الجزائرية ضد تركيا.. تبون وشنقريحة يلعبان بالنار من الاستفزاز إلى التآمر ضد أنقرة    أحوال الطقس يوم السبت.. أجواء باردة وصقيع بمرتفعات الريف    الضريبة السنوية على المركبات.. مديرية الضرائب تؤكد مجانية الآداء عبر الإنترنت    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    الملك محمد السادس يهنئ العماد جوزيف عون بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية    توقف مؤقت لخدمة طرامواي الرباط – سلا    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إيداع 10 علامات تجارية جديدة لحماية التراث المغربي التقليدي وتعزيز الجودة في الصناعة الحرفية    أسعار النفط تتجاوز 80 دولارا إثر تكهنات بفرض عقوبات أميركية على روسيا    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    فيلود: "المواجهة ضد الرجاء في غاية الأهمية.. وسنلعب بأسلوبنا من أجل الفوز"    "الأحرار" يشيد بالدبلوماسية الملكية ويؤكد انخراطه في التواصل حول مدونة الأسرة    تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، محطة نضالية بارزة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية وتحقيق السيادة الوطنية    القِرْد سيِّدُ المَشْهد !    ميناء الحسيمة يسجل أزيد من 46 ألف من المسافرين خلال سنة 2024    جماعة طنجة تعلن نسبة تقدم أشغال تأهيل معلمة حلبة ساحة الثيران    من هو جوزيف عون الرئيس الجديد للبنان؟    وفاة صانعة محتوى أثناء ولادة قيصرية    حوار بوتين وترامب.. الكرملين يعلن استعدادا روسيا بدون شروط مسبقة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    بوحمرون يواصل الزحف في سجون المملكة والحصيلة ترتفع    ملفات ساخنة لعام 2025    تحذير رسمي من "الإعلانات المضللة" المتعلقة بمطارات المغرب    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الترابي لِلهلباوي: "دع عبد الكريم يتيه كما تاه من قبله"

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الحلقة الثامنة: الحركة الإسلامية المغربية وما ابتليت به مبكرا
لقد ابتليت الحركة الإسلامية المغربية مبكرا بخمس بلايا:
فتية من الشباب لا خبرة لهم بالصراع السياسي ومكره وأهدافه فسقط بعضهم فريسة لكل صاحب مطمع.
وحياد لبعض كبار الحركة ألجئوا إليه بالإرهاب والقمع المادي والمعنوي.
وأجهزة أمنية شرسة لا حدود دينية أو أخلاقية أو إنسانية لتصرفاتها.
وأطماع منظمات خارجية تخطط للاستيطان في البلاد وتحاول استقطاب بعض الشباب وركوب سذاجتهم ومطامعهم ومخاوفهم.
وأطماع للخطيب الذي يمثل أيضا يدا للقصر وأصابع للأجهزة ويسعى لتحقيق مآربه السياسية والمالية والشخصية بخدمة النظام.
أما أتباع كل ناعق من حمَّالي الإشاعات والأكاذيب والتّجوال بها في كل صقع فلا يؤبه بهم ما داموا مجرد أبواق لمن خَلْفَهم.
وما زلت أذكر حادثة اجتمعتْ فيها كل هذه البلايا إذ ألقى الشيخ أبو بكر الجزائري درسا دينيا في المسجد اليوسفي بالدار البيضاء ودعا للجهاد مع الحسن الثاني لتحرير الصحراء، فانبرى له الشابان اللذان ذكرت سابقا أنهما كانا يتسللان إلى مظاهرات اليساريين لتخريبها، وشتما الشيخ الجزائري وتجرآ على إمساكه من لحيته، فما كان من الأجهزة الأمنية إلا أن أقنعاه بأن فعلهما كان بأمر عبد الكريم مطيع وتدبيره، والله يشهد أنني لم آمر أحدا بذلك، بل لم أسمع به إلا بعد وقوعه، ولا أرضى هذه التصرفات لأحد من خلق الله، أحرى أن تكون في حق عالم. وبعد الحادثة نظمت وزارة الأوقاف للشيخ الجزائري جولة في جميع مناطق المغرب يخطب في مساجدها تشهيرا بي وتحريضا عليَّ وقذفا لي بما لم أرتكبه، من غير أن يسألني أو يتبين موقفي، ثم عندما هاجرت إلى السعودية واصل الأميري والخطيب والأجهزة الأمنية استثمار غضبه مني وأرسلوا إليه شابين آخرين يشكواني إليه ويحاولان القيام بما فشل فيه الأميري في جولاته السابقة بالسعودية والكويت، فلم يكن عادلا إذ لم يسألني، ولم يكن عادلا إذ أرسلهما إلى الشيخ بن باز يطالبه بدعوتي ومحاكمتي بحضور مجموعة من المشايخ، وفعلا اتصل بي الشيخ بن باز ودعاني للغذاء عنده دون أن يخبرني بالغرض من الدعوة، كما دعا أيضا الأخوين حمد الصليفيح وعبد الحميد أبو سليمان، وفي جلسة الشاي أخبرني برسالة أبو بكر الجزائري فطلبت منه أن أراها فأمر كاتبه بتمكيني من نسخة منها، فإذا بها تطالب بمحاكمتي، فعلقت ضاحكا: يا شيخ إنه يطالب بمحاكمتي، فمتى كنت زوجا أو زوجة لأحد منكم، فأُحْرِجَ الشيخ ابن باز وعلق:" لا تجد على الشيخ الجزائري فأنت تعرف حماقته، لكنني سألتك لأسايره بجواب يحفظ ماء وجهه، ويبين له ما غاب عنه من الموضوع"، فما كان مني إلا أن قدمت للشيخ بن باز بيانا بطرد المعنيين بالأمر من الحركة، لم أحرره بيدي وإنما حرره محمد يتيم بنفسه بعد أن أبلغني حيثيات الطرد عندما زارني في مكة المكرمة، وسلمه زميل آخر له إلى الصحفي الذي نشره في مجلة البلاغ الكويتية، فسلم الشيخ بن باز بشرعية الطرد واعتذر عن تصرفات الشيخ أبي بكر الجزائري، ثم كتب له رسالة أعطاني نسخة منها يحضه فيها على معاملتي بما ينبغي أن تكون عليه علاقة العلماء فيما بينهم، ومع ذلك لم أجد أي غضاضة في زيارة الشيخ أبي بكر لكونه كان بعدم تثبته وغضبه لنفسه ضحية ألاعيب الاستخبارات المغربية وأعوانها.
وعندما أذكر هذا الشيخ غفر الله له، وهو نموذج نادر في العلماء ، فإنما أتذكر أيضا غيره من العلماء اليقظين الأفذاذ الذين اتصلت بهم وتعاونت معهم في هجرتي لصالح حركتنا ومضطهدينا، وعلى رأسهم العالم الفقيه اليقظ الشيخ سعيد حوى رحمه الله الذي قدم لأداء العمرة بعد خروجه من سجن حافظ الأسد فسأل عني وزارني في الفندق، وقضينا ليلة كاملة نفاتش أوضاع الحركة الإسلامية في العالم ونتبادل تجاربنا فيها، ثم لما وقف ليودعني أدخل يده في جيبه يهم بأن يناولني من ماله الخاص، فلما امتنعت عن الأخذ عاتبني محتجا بعلاقة الأخوة بيننا، فضاحكته مقترحا أننا في وضع واحد، والعدل أن نقارن مقدار ما عند كل واحد منا، ومن له المقدار الأكثر يعود به على صاحبه، فلما قارنا كان ما عندي أكثر مما عنده فضحك رحمة الله عليه وعلق: (لقد ربحتَ المباراة، وأقسم ألا تعود علي بقرش واحد)، وودعني فكان ذلك آخر عهدي به.
وأذكر نموذجا آخر من خيرة الشهداء هو الشيخ السوري عدنان عقلة رحمه الله تعالى، وكان الوحيد الذي اتصل بي في هجرتي عندما علم بأني محاصر في ليبيا بدون جواز سفر وعرض أن يوفر لي جوازا، فلما سألته عن مصدره لم يُخْفِ عني أنه من السلطة العراقية وبعلمها، فاعتذرت بأني على علم تام بالعلاقة الشخصية الوثيقة التي تربط سفير المغرب في العراق أحمد رمزي بصدام حسين الرجل الثاني في الدولة آنئذ، ولم يكن الأخ عدنان عقلة يعرف هذه العلاقة فتفهم عذري وقبله.
كما أذكر الشيخ حمد الصليفيح رحمه الله تعالى وقد زارني في آخر سنة لي بمكة المكرمة فوجد في ضيافتي بالفندق أفرادا من عائلتي منهم أختي وخالتي وأخت زوجتي رحمها الله مع زوجها والمحامي مأمون الفاسي وشيخه في الطريقة الصوفية، وفي المساء رجع إلي وفي يده مقدار من المال أنفق منه على ضيوفي، ثم أدى لصاحب الفندق ما له علي إلى نهاية موسم الحج.
وعلى النقيض من هذا حضرت مجلسا للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وقد زاره أربعة دكاترة من دكاترة الإخوان في الولايات الأمريكية المتحدة، يسألونه تمويل نشاطهم فيها، وقد جمع لهم في نفس المجلس حوالي عشرة من كبار تجار المملكة السعودية تبرعوا لهم بما مجموعه حوالي ثلاثة ملايين دولار، ثم لما سافرت إلى الكويت بعد أسبوعين تقريبا وجدتهم يزورون تجارها لنفس الغرض، ولما حدث أحدهم صاحبه بحضورى وحضور بعض الإخوة المطلعين بأنهم حصدوا في الكويت ثلاثة ملايين أخرى وبصدد زيارة باقي دول الخليج لنفس الهدف، تدخلت وسألت أحدهم هل ستزورون المغرب؟ فأجاب نعم قد نستريح في الدار البيضاء لبضعة أيام ثم نواصل إلى الولايات المتحدة، فعقبت: (حبذا لو اتصلتم ببعض إخوتنا وساعدتموهم بقسط بسيط لأسر المعتقلين، ألف أو ألفي دولار مثلا) فأجاب: (الأمانة تقتضي ألا نتصرف فيما جمعناه). وضحك صاحبي، فلما غادر وفد الدكاترة سألته عن سبب ضحكه فقال: (يا أهبل، هم يريدون استئصالك من جماعتك وبلدك وأنت تريد أن يساعدوا أنصارك فيزدادوا تعلقا بك)، فقلت: (يشهد الله أني لم أفكر بهذا قط). ثم علمت فيما بعد أنهم عرجوا في طريق عودتهم على الخطيب وأنهم يساعدونه على استزراع (القرعة) بين كتفي الحركة الإسلامية المغربية.
وفي السياق نفسه وأنا في مكة المكرمة، فوجئت بصديقين في الحرم الشريف من بريطانيا كانا عضوين في الندوة الإسلامية العالمية، فلما رأياني تَفَلَّتا مني وتجاهلا رؤيتي، ثم صارت هذه عادتهما كلما جمعنا المسجد الحرام، وزارني كعادته الشيخ حمد الصليفيح في الفندق، وسألني عنهما قائلا: (صديقاك فلان وفلان هنا في فندق الفتح، هل رأيتهما؟)، فأجبت: (لقد رأيتهما يتجاهلاني ويزْوَرَّان عن لقائي فلم أحرجهما)، فغضب أنفة أن يهان له صديق، ثم قال: (لعلهما فَعَلا ذلك حفاظا على علاقتهما بالنظام المغربي)، فسألته: (وهل لهما تلك العلاقة؟) قال: (نعم علاقة وثيقة وتمويل وجوازات سفر، ولكن سوف أتصرف، هؤلاء لا يحرجهم الضعيف، سوف أزورك بعد قليل لأخذك مع صاحبيك إلى جدة)، وبعد حوالي نصف ساعة تقريبا، جاءني نادل الفندق يدعوني للشيخ حمد، فإذا الصديقان المحرجان بلقائي معه في سيارته، فأظهر كل منهما المفاجأة ثم الترحيب، وكان عناق وقُبَل، وسؤال عن الأحوال، وإظهار مشاركة وجدانية لما أصابني، ثم أخذنا الشيخ حمد إلى مكتب الشيخ عبده يماني في جدة، حيث عرض عليه الأخوان مشروع شراء عمارة في لندن وسألاه تغطية ثمنها فأعطاه إياهم من حسابه في بريطانيا.
وفي مكة أيضا كنت ألتقي بالشيخ منصور المحجوب رحمه الله، عميد جامعة البيضاء في ليبيا سابقا، وكان منفيا بالمملكة العربية السعودية في ضيافة رابطة العالم الإسلامي، فوثقت العلاقة بيننا رابطة العلم الشرعي والاستضعاف المشترك والهجرة، وجرى مرة ذكر المهاجرين الليبيين وعلاقتهم بالنظام المغربي، فقال: (لقد أبلغتني السلطة السعودية من قبل دعوة من الملك الحسن الثاني لزيارة المغرب لأمر هام، فلبيتها، فلما أنزلوني الفندق إذا بعشرات المنفيين الليبيين مثلي مدعوون أيضا، وبعد ذلك أخذونا جميعا إلى القصر الملكي، بحضور وزير الداخلية وعميد شرطة ممتاز من الأسرة العلوية، فلما حضر الملك الحسن الثاني، بالغ في الترحيب وأمر عميد الشرطة بتوزيع هدايا علينا هي عبارة عن مبالغ مالية مهمة لكل واحد، ثم أشار إلى وزير داخليته فوزع علينا جوازات سفر دبلوماسية، وعقب يخاطبنا:(كل ما تحتاجونه للإطاحة بمجنونكم نوفره لكم وبابي مفتوح لكم ولأنصاركم في كل حين)، إلا أنني اعتذرت عن قبول الجواز المغربي لأن لدي جوازا سعوديا صالحا، وعن مشاركة المعارضة في نشاطها بكبر سني وتفرغي للعبادة في الحرم الشريف).
وكان لابد أن يتداعى بي ما روى الشيخ منصور المحجوب إلى محاولاتي العديدة للحصول على جواز سفر يعوض جوازي الذي كادت صلاحيته أن تنتهي، ولجأت إلى أبواب كثيرة لحل هذا الإشكال دون جدوى، حتى إنني عندما زارتني زوجتي مع أبنائها سرا في مكة وفكرت في الاستقرار بهم في السعودية لجأت إلى الأخ أحمد توتنجي وكان نافذ الكلمة فيها ليساعدني بتسجيل أبنائي في إحدى مدارس مكة سأل عن الجواز الذي قدموا به ثم سكت وانصرف ولم يعد، واضطررت لإعادة أبنائي وأمهم إلى المغرب لعجزي عن الاحتفاظ بهم معي.
وعندما عُيِّن حسن الترابي عونا ونائبا للنميري وعُيِّن وزيرا للداخلية عضو آخر من حزبه كنت قد تعرفت عليه في جدة عند الدكتور الشاوي هو أحمد عبد الرحمن، وعدني أحد أعضاء حزب الترابي التقيت به في الكويت هو الدكتور التيجاني أبو جديري بأن يستخرج عن طريقهما جوازات سفر لي ولأهلي وأبنائي وطلب مني تمكينه من الصور والوثائق اللازمة فسلمتها له ثم سافر إلى السودان بعد أن طلب مني تذكيره بواسطة هاتفه وفاكسه هناك، ومرت مدة طويلة حاولت الاتصال به عدة مرات دون أن يرد على مكالماتي أو مراسلاتي، وكان الشيخ حمد الصليفيح يسافر دائما إلى السودان للتعاقد مع مدرسين يستجلبهم إلى السعودية فطلبت منه تذكير الترابي وأحمد عبد الرحمن وزير الداخلية، فرد الشيخ حمد ضاحكا: لقد قالوا إنهم راسلوا السلطة المغربية وينتظرون الجواب، وبقيت معهم وثائق أهلي وأبنائي شاهدة على نصرتهم إلى يوم القيامة، ثم ذكر لي الأخ كمال الهلباوي أنه بصدد الاتصال بالترابي لأمر بينهما فاقترحت عليه أن يذكِّره بالجوازات، فرد عليَّ الأخ الهلباوي بقوله: (إن الترابي يقول: دع عبد الكريم يتيه كما تاه من قبله).
هذا الجواب ذكرني بسذاجتي السياسية وضمور حاسة الانتهازية لدي عندما زار المملكة العربية السعودية ممثل شخصي للنميري، واستضافته الندوة العالمية للشباب الإسلامي وكنت ضمن من اجتمع به مع الأخ عبد الحميد أبو سليمان وحمد الصليفيح وأعضاء أمانة الندوة، فلما عرَّض أحد الحاضرين بأوضاع الإسلام في السودان، وكان حسن الترابي في السجن وبعض أتباعه في المهجر، وحزبه محظورا، قال ممثل النميري:( الإسلام في السودان بخير والرئيس النميري يسعى جاهدا لنشره ونصرته، والدليل أن برامج المدارس الابتدائية بها حصة لتعليم الدين وحصة لتحفيظ القرآن، وأن الأذان يرفع في الإذاعة الرسمية) تدخلت فقلت:( ما ذكرته من تدريس الدين والقرآن ورفع الأذان يعمل به في كل الدول المسلمة شيوعية الأنظمة أو غير شيوعيتها، بل إن إسرائيل نفسها لم تستطع منع الفلسطينيين منه، لكن المقصود بالملاحظة هو وضع الدعاة الإسلاميين في السودان وهم ما بين معتقل ومهجر، ومادام الشيخ الترابي في السجن فلا يمكن أن نطمئن إلى أن الإسلام بخير). لقد أحرجت بتدخلي المضيفين السعوديين فلم يعلق أحد منهم، ثم لما رجع ممثل النميري وأفرج عن الترابي ضحك الشيخ حمد وعلق: ( لقد أفرجت سذاجتك السياسية عن حسن الترابي)، فقلت: (بل صدقي في الدفاع عن المسلمين).
وفي هذا السياق أيضا أن الشاذلي بن جديد كان قد أفرج عن أحمد بن بلة بعد اعتقال طويل، فاهتبلت فرصة هذا الانفتاح وكتبت مقالا طويلا في مجلة المجتمع بتوقيع (أبو أحمد البيضاوي) عن فشل التجربة الاشتراكية في الجزائر حمدت فيه الإفراج عن بنبلة، وطالبت الشاذلي بإطلاق سراح محفوظ نحناج، وأرسلت صورة من المقال إلى الشاذلي بن جديد باسمه الشخصي بريديا وعن طريق السفارة الجزائرية بالكويت، فلم يلبث إلا قليلا وأطلق سراح محفوظ نحناح.
ومن ذلك عندما اعتقل عباس مدني، أرسلت للشاذلي رسالة أستنكر فيها اعتقاله وأنبه إلى مخاطر ما قد تنزلق إليه الجزائر بقمع الحركة الإسلامية، وسلمت الرسالة يدا بيد إلى السفير الجزائري عبد القادر حجار، ونشرها الإخوة في موقع الشبيبة، ولا أحتاج للتذكير بتدخلي لدى الملك خالد بن عبد العزيز لصالح عبد السلام ياسين، والرسالة التي أرسلها في الموضوع إلى الحسن الثاني.
وعلى رغم صدقي في النصرة مع ما أنا فيه من استضعاف ومحاصرة وضائقة هجرة، فإنني لم أتلق من محفوظ نحناح ولو تحية شكر بالهاتف بعد خروجه من السجن، بل إنه لما رآني في فندق بطرابلس وهو مدعو لدى القذافي تجاهلني ولم يرد على تحيتي، وما ذلك إلا لأنني حاولت الإصلاح بينه وبين عباس مدني فلم يغفر لي هذه المحاولة، ومع ذلك فإنني لم أغادر لحد الآن (سذاجتي السياسية) التي تفرض علي ما ينبغي فعله نصرة للمؤمنين، لأني أعد ذلك عبادة لا أمنُّها على الله تعالى.
لقد سارت الفترة الأولى في المملكة العربية السعودية هادئة اطمأنت فيها نفسي إلى بيت الله الحرام وفكرت في الاستقرار بها إذا ما أفرجت السلطة المغربية عن جوازات أفراد أسرتي وسمحوا لهم بالقدوم عندي، ونويت إن فعلتُ ذلك أن أتفرغ للعلم وحده ولتربية أبنائي، إلا أن السلطة المغربية كان لها برنامج آخر هو إذلالي والضغط علي لتركيعي وتسخيري، لذلك عندما نفض توفيق الشاوي يده من محاولة ترويضي وبايعت شرذمة المستلحقين صالح أبو رقيق، بدأت سفينتي في السعودية والكويت تتقاذفها الأمواج واشتد تحريض الخطيب وأعوانه للسلطات السعودية علي، بل جندت السفارة المغربية لمراقبتي أربعة مغاربة يتناوبون على متابعة كل تصرفاتي في الحرم الشريف في الليل والنهار، حاولوا التقرب إلي أولا فلم يفلحوا ثم أخذوا يعرِّضون بي كلما مررت أمامهم في الحرم ثم تطور تعريضهم إلى شتائم صريحة بصوت مسموع فلم أرد عليهم مطلقا ولم أشعرهم بأنني انتبهت إلى ذلك.
وكنت كلما اشتد الخناق عليَّ أغير المقام بالذهاب إلى الكويت التي كان لي فيها مسكن بسيط هو عبارة عن أحد دكانين متصلين ببعضهما بمرحاض مشترك يستخدم جانب منه مطبخا، ولكل دكان باب إلى الشارع ونافذة زجاجية عليها قماش يسترنا عن المارة، أسكن في أحد الدكانين صحبة أحد الشباب المهاجرين، ويسكن في الدكان الثاني فرَّاش العمارة التي فوقنا والتي يملكها عبد الله المطوع (أبو بدر)، ويسكن في إحدى شققها مصطفى الطحان، ومن طرائف مقامي مع هذا الشاب أنه كان أنوفا يحرص على أن يبدو في الشارع أنيقا، وكان يجهد نفسه اليوم كله في الكسب فيستغرق في النوم ليلا لا يشعر بما حوله، وكنت حديث عهد بمحنة، أصاب بالأرق، فتخرج الفيران ليلا من جحور الدكان وتستقبل أخرى تزورها من الشارع وتأخذ في اللعب والقفز والنط، فأتسلى بمنظرها وأنام، ولما ذكرت لرفيقي في السكن ذلك ضحك وطلب مني ألا أخبر به أحدا من معارفه في الكويت، ثم لما غادر الكويت بقي الدكان لي وحدي فأخبرت مالكه عبد الله المطوع بأني سأحتفظ به وأؤدي إيجاره فوافق، ثم لما ذهبت لمكة المكرمة مرة ورجعت وجدته مؤجرا لبعض العمال الأجانب، ولما سألت الفراش الذي يسكن (الجناح!) الثاني عن أمتعتي وكتبي التي تركتها فيه قال: (لقد رميناها في (الزبالة)، فلم أزد على أن ابتسمت وقلت له: (بارك الله فيكم)، ثم انصرفت. من ثم صرت كلما سمعت بمن يشيع عني وفرة المال ورفاهية المعيشة في بلاد البترول العربي وامتلاكي بعض (آبارها) أذكر قول المتنبي:
ماذا لقيتُ من الدنيا وأعْجَبُه أني بما أنا شاكٍ منه محسود
وأذكر بهذه المناسبة من طرائف هذا الحال أن جبهة الإنقاذ الجزائرية عندما كانت تعد للانتخابات زارني الأخ أبو الأمين زبدة مدير صحيفة الإنقاذ الناطقة باسمها وطلب مني مساعدة مالية فوعدته إن زار أروبا أن أسعى له عند بعض العمال المغاربة المتدينين كي يجمعوا له ما يستطيعون جمعه، فلما سافر إلى سويسرا اتصل بي هاتفيا يستنجز الوعد، فكلفت بعض الإخوة في فرنسا بذلك وجمعوا له مقدارا مهما من المال سلمه له في سويسرا أحد الإخوة جزاهم الله تعالى خيرا، فلما زارني الشيخ زبدة مرة أخرى قال: (لقد سألت عنك في فرنسا فقيل لي إنك تملك فنادق ومطاعم في أروبا وتبخل علينا) فضحكت وقلت له: (أعطيك تفويضا كاملا بأن تطوف الأرض كلها وكلما وجدت ملكا لي ولو جحر ضب فهو لك ملكا خالصا) فسكت.
وللحديث بقية....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.