مشاهدات في بادية الخليج اليومية السادسة في الغرفة المجاورة كان الموجه الثاني المكلف بتوقيع العقود والتعيينات يجلس مرتديا بذلة ذات لون بني فاقع..كان المسكين يبدو غير مرتاح في هذه البذلة التي فرضت عليه فرضا هو الذي اعتاد لباس الثوب الأبيض الفضفاض.. لون الجورب كان أحمر فاقعا وربطة عنق صفراء. يبدو المسكين بشوشا وهو يمتحن الأساتذة الأغراب ، الضحايا، سمهم ما شئت.. وبعد هذه المقابلة التي تبدو شكلية عليك أن تتجه عند الموجه لثاني الذي يبدو هو صاحب الحل والعقد ين يطلب من الملتحقين بغرفته أن يختاروا مدينة من المدن التي لا يزال العدد فيها لم يكتمل..إنها المدينة التي سيكون من حظك وقدرك مواجهتها..فالمدن غالبا ما تضع لك قدرا غير ذاك الذي صنعه الله لك...وعليك أن تستسلم منذ البداية ودون مقاومة. أمام مكتب صغير جلس رجل مغربي ذو لحية طويلة، حسبه الجميع في البداية موظفا في الملحق الثقافي السعودي، إنه يبدو وكأنه الآمر الناهي. يطلع على الملفات أكثر حركة وأكثر أخد ورد في الكلام مع الأساتذة وأكثر ثرثرة مع الرجلين الخليجيين. آه..كم سيخيب ظننا في هذا الرجل الذي كان يقدم لهم خدماته مجانا ..! أخيرا تبين للجميع بأنه لم يكن موظفا في الملحق الثقافي السعودي.ومن هنا سيختار له الأساتذة لقبا جديدا وغريبا « التيس» هذا هو لقبه الجديد. بينما أنا أنتقل بعيني من منظر إلى آخر، وسط زحمة المناظر التفت إلي صديقي، وقال:يا أنت..! لماذا لا تذهب إلى مركز للا عائشة؟ لقد سمعت عن أستاذ حالته تماما تشبه حالتك وقد قبلوه للسفر معنا وصرحت له الوزارة بالسفر .. أأنت متأكد يا نور الدين..؟ لست متأكدا تماما، ولكن أغلب الظن أن طلبه قوبل بالإيجاب.. وأين يوجد مركز للا عائشة..؟ خد الشارع الطويل إلى أن تصل القنصلية الإسبانية .. فهو بالقرب منها.. لكن أسرع..فنحن ضد الوقت.. وسفرنا بعد يومين أو ثلاثة على أبعد تقدير.. خرجت وئيد الخطى لا أملك أي إحساس بالفوز في هذه لمحاولة التي تبدو لي مجرد حلم آخر من لأحلام الهاربة.. لكن لا عليك يا أنت حاول مرة أخرى..لن تخسر شيئا ..من يدري..؟ ربما تنجح هذه المرة. فالسنوات القادمة بالنسبة لك جحيم لا يطاق، لقد اقترضت من البنك عشرون ألف درهم لتدفعها لذلك السمسار اللعين كي تحصل على تأشيرة لأمريكا.حيث كان يصور لك نفسه القنصل الأمريكي فلا أنت حصلت على تأشيرة إحدى الدول الإسكندنافية أتذكر ذلك اليوم الأسود يا أنت..!؟ لقد وقفت يوما كاملا أمام سفارتها تنتظر دورك صابرا لإهانات الشرطة والسماسرة .. وبعد أن وصل دورك قالت لك تلك الموظفة الأجنبية الشقراء..آسفة..! يا أنت.. أين هي ورقة كشف الحساب البنكي..؟ كتمت يومها ضحكتك في أعماق في أعماقك وقلت: حساب بنكي..؟ ما أغباك أيتها السيدة..وهل مثلي يكون عنده حساب بنكي..حتى إن وجد فهو بدون رصيد حتما.. كانت السيدة تتأملني وأنا سارح الخيال أمامها..فقالت : حقا آسفة سيدي..أعرف بأنك قضيت الليلة نائما في الصف الطويل..لكن حقا أنا جد متأسفة.. لا عليك سيدتي ..لا عليك.. رغم اليأس والإحباط أحسست بالخجل مع كثير من الاحترام لهذه السيدة الجد محترمة..لست أدري هل هذا الأدب والاحترام مصطنع أم طبيعي..كنت أود أن أصرخ في وجهها..لماذا تتعاملون معنا بكل هذا الأدب واللباقة وحسن السلوك.. ؟ هذه المعاملة هي التي شجعتنا على أن نهاجر هذه البلاد.. غيروا معاملاتكم معنا..عاملونا بقسوة كما نُعامل هنا من قبل بني جنسنا..لو فعلتم معتا ذلك..حينها لن نفكر في أن نطرق أبوابكم.. على كل حال لازلت احتفظ لتلك السيدة بنفس التقدير ونفس الاحترام حتى الآن وإلى أبد الآبدين .. وصلت القنصلية الإسبانية..يا أ الله..! طابور طويل..الجميع يريد أن يهاجر..آه يا جبال الأطلس آه..! أبناؤك يصدون وجوههم عنك..أنت التي سمي المحيط باسمك..لست قادرة حتى أن تلمي شمل أبناء شاطئك الضائعين.. هل ضاقت سفوحك بأبنائك حتى هذا الحد؟ كل ذلك الحمل الذي استمر مخاضه سنوات بكل حسراته وآلامه وعذاباته وفي النهاية تئدين مولودك حيا في التراب دون حياء أو خجل..؟ ولسان حال مولودك وهو في المهد يقول : لو خيروني ما اخترت غير بلادي لكن ليس في طلب العيش خيار..! حقا..كان المخاض مؤلما والولادة متعسرة لكن الأدهى والأمر أن تكون الولادة مشوهة.. لا عليك يا أنت فأنت واحد من هذه الولادات المشوهة..ابحث لك عن رحم آخر ربما تولد من جديد. حسنا سأفعل.. دخلت مركز للا عائشة..رجال ذاهبون راجعون يسألون كلهم عن الراتب في بلاد الخليج..منهم من بلغ الشيب في رأسه ما بلغ..قضى عهدا من الحسرة..وربط علاقة حميمة مع الطباشير الأبيض الملوث والسبورة السوداء المشوهة..عاش المسكين عمره ولا يزال بين النقيضين...فانتقلت عدوى الطباشير الأبيض إلى شعيرات رأسه الأشعث .. ولون السبورة المثقبة إلى شبح يراه أمامه كل غروب إلى أن يتبين الخيط الأبيض ليبدأ يومه الرتيب من جديد.. هو الآن يحلم بأن يسافر إلى السعودية..على الأقل يضمن حجة له ولأسرته. ربما لقب الحاج يعوض له ما ضاع.. دون أن يدري أنه في طريقه نحو ضياع آخر من نوع آخر..لكن مع ذلك، عليه أن يسأل عن الراتب؟ وعن مقر العمل..؟ كان أحد المسؤولين عن هذه الصفقة في الوزارة قد تعب من كثرة الأسئلة..أحيانا كنت أسمعه وحتى يبرىء ذمته ينصح الكثيرين بعدم السفر..لأن الراتب غير مغر..ولأن سنوات الخدمة التي قضاها بمؤسسته هنا بالمغرب سوف تضيع منه هباء..وبعد عودته من هذه الهجرة الحجازية يجد نفسه وكأنه بدأ للتو مهنة التدريس من جديد.. يا سلام عليك يا قوانين الدول السائرة في طريق النمو! ما أحلاك وما أبهاك..! والأدهى من كل ذلك أنه مطالب بدفع التقاعد عن كل سنة قضاها خارج المغرب من جيبه.. كثير هم الناس الذين بدأوا يتراجعون عن هذه الوجبة العفنة.. هذه فرصتك يا أنت تقدم وأسأل هاذا السي فلان.. أستاذي..أنا أستاذ خدمتي في التعليم فقط ثلاث سنوات وأرغب في السفر إلى السعودية..ودون أن أكمل له باقي التفاصيل..أمسك بيدي ونادى على أحدهم يعمل تحت إمرته: السي محمد سجل هذا الأستاذ..رح اذهب إليه بسرعة.. دخلت القاعة..هرج ومرج كالمعتاد فوضى عارمة لها نكهة خاصة..كثيرون تراجعوا عن السفر.... معظمهم يحسب على الآلة الحاسبة كم سيصرف..؟ كم سيتبقى له؟ كم سيوفر؟ لا ثم لا..قال أحدهم الميزات التي تعطى للمدرسين المتجهين إلى أوروبا أحسن بكثير.. لماذا..؟ رد أحدهم في استهزاء.. ألا تعرف لماذ قال الأستاذ العجوز..؟ لأن العرب جرب يا أستاذ.. املأ هذه الاستمارة..وبسرعة لكي نبعثها إلى الوزارة الوصية..وانتظر الرد بعد ساعة... كل شيء مطبوخ ومعد سلفا مع أمنا الوزارة.. حسنا وهو كذلك لم تدري يا أنت كيف ملأت تلك الاستمارة ولا السرعة التي تم بها ذلك. جاء الشاوش وهو يلهث يحمل كومة من الاستمارات أخيرا يا أنت تعال جاءت الموافقة أسرع بأربع صور شمسية..طويت الورقة في جيبي وجريت في إحدى شوارع العاصمة أبحث عن مختبر للتصوير السريع..