تأكيدات «الصنايعي» بدء، يجب الإقرار أن الطيب الصديقي لم يتوان قط عن بسط منظوره للمسرح عموما، ولمسألة القالب المسرحي الأنسب للمغاربة الذين هم جزء لا يتجزأ من النسيج الحضاري العربي الإسلامي. إلا أن إمداد الباحثين والمهتمين بما يلزم الساحة النقدية المسرحية المغربية والعربية من آراء ومواقف وتعليلات المعني الأول بهذه الدراسة اتخذت في الغالب طابع الندرة لمدة غير يسيرة، وذلك لأن القدر الأوفر من هذه المادة الحيوية للباحث كان شفهيا، موثقا جزئيا لحسن الحظ في برامج وحوارات تلفزيونية، ومفقودا في الغالب في شق الجلسات الحميمية ومداخلات الندوات وحفلات التوقيع والتكريم. كانت «المادة الورقية» لبوح «الصنايعي» قليلة (1) قبل السيرة الذاتية (المذكرات) التي أسعف وفاجأ بها الدكتور حسن حبيبي الجميع (2) قبل ثلاث سنوات نقادا ومنظرين، باحثين وممارسين، مغاربة وأجانب (3)، عربا وأمازيغ، أصدقاء وخصوما، مؤيدين ومعارضين. وضوح المرافعات استهللنا الجزء الأول من هذه الدراسة بالتأكيد على أن مسألة «الشكل» أو «القالب» تحتل الصدارة في اهتمامات الطيب الصديقي (4)، ولا يمكن لأية مقاربة نوعية التغاضي عن هذا المعطى، سيما وأنه يفضي مباشرة إلى اختيارات الصديقي الإجرائية المترتبة عنه، وفي مقدمتها اعتماد «الحلقة» و»البساط» في أعماله، شكلا ومضمونا ومكونات. ولقد جاءت التأكيدات في «الطيب الصديقي: قصة مسرح» صريحة ومباشرة، ومتناثرة هنا وهناك في إجابات الطيب عن أسئلة حسن حبيبي التي شملت كافة مناحي التجربة الإبداعية الصديقية؛ إلا أننا نسوق منها للقارئ الكريم استشهادين اثنين فقط، نرى أنهما وازنان، ولا يحتاجان إلى تعليق: يقول الطيب الصديقي في أولوية الشكل: «...والواقع أن المبدع المسرحي إذا لم يضع يده على الشكل المسرحي، فلن يستطيع القيام بأي عمل إبداعي يذكر. فالمسرح الإيطالي مثلا هو شكل قبل كل شيء. الشكل أولا ويأتي بعده المحتوى. إذا استطعنا ضبط الشكل فنحن نستطيع أن نملأه آنذاك بما نريد.» (5) ويقول في موضع آخر، رابطا مسألة الشكل بالفرجة: «إن محاولة سجن المسرح في علب سردين مسماة مسرح الجيب لا تعمل إلا على قتل الفرجة التي تعتبر المهمة الأولى للمسرح.» (6) الخروج من المدارة إذا كان السؤال/ الإشكالية حول تبني العلبة الإيطالية أو رفضها ملحا في وقت مضى، فيجب الاعتراف أنه فقد حدته مع الزمن إلى عتبة البهوت، ممارسة وتنظيرا. إنها الحقيقة الفارضة ذاتها على من رحب بها عن طيب خاطر، ومن قبلها على مضض، بمن فيهم الصديقي نفسه. والواقع أن قبول الصديقي «الانصياع» لمتطلبات وإكراهات العلبة الإيطالية، جاء بدوره من عمق الممارسة، والظاهر أن الصديقي لعب إجمالا في الفضاءات المغلقة أكثر من لعبه في الفضاءات المفتوحة بحكم التحقيب الكرونولوجي لمسيرته الإبداعية. لكن الملفت للنظر أن الأمر يندرج في لطائف «رب ضرة نافعة»، إذ كان في اشتغال الصديقي وغيره، داخل الشكل الإيطالي كل النفع، بدءا بالوظيفية الوازنة للكواليس، وانتهاء بتوفر الظروف الآمنة للتجمع الاحتفالي الفرجوي، وإذا اكتفينا بهذين العاملين فقط، وغيرهما موجود، تبدو مسألة تبني القالب الإيطالي أو رفضه متجاوزة. الإنارة والبعد السينوغرافي ما فتئ الطيب الصديقي يشيد بدور الإنارة المسرحية داخل منظومة الإخراج المسرحي، فهو القائل «إن من لا يتقن الإنارة لا يستحق لقب مخرج»!...والحال أن تصميم إنارة عمل مسرحي، وتشغيلها، بدءا بوجود مصدر للطاقة (تيار كهربائي)، وتوفر متطلبات الحفاظ على نفس التصميم عند توالي عروض نفس المسرحية لأيام أو شهور، وتأمين ثبوت التجهيزات والمعدات، وعدم تعرضها للإتلاف أو السرقة، كل ذلك يتيسر بسلاسة في المسارح المغلقة، مقارنة بالفضاءات المفتوحة. لقد استطاع الطيب الصديقي أن يضفي على أعماله جمالية سينوغرافية من خلال الإنارة، ويجب الاعتراف أنه تفوق في ذلك في الفضاءات الخارجية كما الداخلية؛ لكننا نجزم بمرونة الاشتغال داخل المبنى، والصديقي من المسرحيين الذين كانوا ينادون ببناء المزيد من المسارح، خاصة في الدارالبيضاء التي لم تكن تتوفر إلا على «المسرح البلدي» الذي أبنه ورثاه الطيب بإحدى روائعه (7)، وتم التأبين في مبنى متوفر طبعا على إنارة نفس المبنى. يقول «شاطر»، الشخصية المحورية في «حفل عشاء»، مخاطبا المبنى، معددا نقائصه ومعاتبا عتاب المحبين: «علي أن أعترف أنك لم تكن أبدا جميلا بالمعنى المتعارف عليه: هندسة متواضعة، بل جد متواضعة... مجرد صندوق تافه للفرجة... مجرد آلة لا ميزة خاصة لها... يصعب على بعض المتفرجين أن يبصروا ما يجري فوق الخشبة، ويعسر على آخرين أن يستمعوا بوضوح لما يقال... رغم هذا، بل من أجل هذا: نحبك!... « (8) وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطيب الصديقي لم يكن ضد هدم بناية «المسرح البلدي» لأن الأمر كانت تفرضه معطيات معمارية تقنية لها علاقة بشروط السلامة، لكنه ربط قبول الهدم بالتعويض ب «بناية» أخرى: «كنت من الأوائل الذين طالبوا بإزالة هذه البناية وتعويضها مباشرة ببناية مسرحية بنفس الشكل، شريطة أن تستجيب لمتطلبات العرض المسرحي» (9). ولا نتصور هذه الشروط دون احتساب تجهيزات الإنارة. يستطرد «شاطر» مخاطبا هذه المرة باقي أبطال «حفل عشاء» (10)، وليسوا سوى المسرحيين والكتاب والممثلين الذين مروا، أو مرت شخوصهم أو أعمالهم المسرحية أو ذكراهم، بخشبة المبنى، طيلة 62 سنة من حياته وسط مدينة الدارالبيضاء (11): «..تقدموا... اجتمعوا كلكم فوق الخشبة: سأخترع أضواء جديدة احتفاء بكم، قبل أن تقتلع الأيادي الآثمة الأسلاك وتقطع الكهرباء»!. (12). وهناك أخيرا ملمح آخر لعامل المرونة المذكورة أعلاه يفرض نفسه في هذا المقام، ذو صلة بالحضور الفيزيقي للطيب الصديقي، ويتمثل في الأعمال التي شارك فيها الطيب ممثلا فضلا عن الإخراج، حيث كان تقنيو المبنى يتكلفون بتشغيل وتدبير إنارة العرض وفق تصميم وتعليمات المخرج، فيتفرغ مبدعنا تفرغا تاما للتشخيص. عود على بدء من المفارقات أن المسألة الأمنية لم تكن واردة بتاتا في ذهني وأنا أرصد - كأي متتبع مهتم- منذ عقود مصير الاختيارات النهائية في مسألة فضاء العرض عند الصديقي. كان ذلك طبعا قبل ما سمي خطأ ب «الربيع العربي» (13)، وقبل الأحداث التي عرفتها بعض التظاهرات الاحتفالية المنظمة في فضاءات خارجية كحادث إحدى دورات مهرجان «موازين» الموسيقي بالمغرب، وحادث احتفال ب «عيد الحب» بألمانيا. إلا أن هذين الاستشهادين لا يبرران بالضرورة استصدار قرارات المنع النهائي لمثل تلك التظاهرات: فحوادث شبيهة وقعت من قبل وما زالت ذكراها الأليمة في الأذهان (حادث ملعب «هيزل» لكرة القدم على سبيل المثال)، بل إن من الحوادث المماثلة ما وقع داخل مبنى، بل مبنى مسرح بالذات (حادث احتجاز ثوار شيشانل رهائن - متفرجين- بمسرح في روسيا)... نعتقد جازمين أن الفرجة الاحتفالية - ومنها الفرجة المسرحية- ستستمر، سواء داخل بناء أو خارجه، لأن الاحتفال ظاهرة إنسانية بامتياز، ولأن الاحتفال المسرحي بالتحديد ولد في الهواء الطلق. لكن ما أردنا الوقوف عنده من خلال هذه الإطلالة: التأكيد على بروز الجانب الأمني كعامل مهم - للمستجدات المذكورة- يصطف إلى جانب العوامل النظرية والتقنية الصرفة المتعلقة بالمسألة موضوع الدراسة، اعتبارا للجنوح المنطقي حاليا لتكريس مبدأي «الأمن» و»السلامة» أولوية في كل تجمع بشري، والحال أن «نسب الخطورة» تتضاءل في التجمعات الجماهيرية عندما يتم التحكم في مسبباتها داخل بناية. فلكل ذلك، ومن أجله، ولغيره، لا يسعنا سوى تأكيد الأمر الواقع بخصوص قضية فضاء العرض الخارجي: التجاوز بعد الاحتواء. هوامش: (1) جلها نشر صحافيا عبر جرائد ومجلات. (2) حسن حبيبي، «الطيب الصديقي: قصة مسرح»، الطبعة الأولى، 2011، مطبعة دار النشر المغربية. (لنا قراءة تقديمية للإصدار بجريدة «الدليل الإخباري» الأسبوعية، العدد: 290 بتاريخ: 13/4/2012؛ و متابعة نقدية من 12 مقالا لنفس الإصدار في نفس الجريدة، من العدد: 314 بتاريخ:28/9/2012، إلى العدد: 327 بتاريخ:28/12/2012). (3) هناك حاجة ماسة وآنية لخروج ترجمات للسيرة الصادرة بالعربية، سيما إلى الفرنسية والإنجليزية. (4) «بيان اليوم»، العدد: 7188، ليومي: السبت والأحد 29 و30 مارس 2014 (عدد خاص، احتفاء باليوم العالمي للمسرح). (5)حسن حبيبي، «الطيب الصديقي: قصة مسرح»، ص: 119. (6)نفسه، ص: 106. (7)مسرحية «حفل عشاء» (النص الأصلي بالفرنسية: «Dîner de gala»). تحدث الطيب الصديقي بإسهاب عن هذا العمل، وأتى ببعض مقاطع النص، في: «الطيب الصديقي: قصة مسرح»، من: ص 129، إلى: ص 132. (8) نفسه، ص: 131. (9) نفسه، ص: 129. (10) سماهم: «شعب المسرح». حسن حبيبي، «الطيب الصديقي: قصة مسرح»، ص: 131. (11) منهم: «شكسبير، موليير، عبد الصمد الكنفاوي، البشير لعلج، بوجميع، بديع الزمان الهمداني، الجاحظ، سيدي عبد الرحمان المجذوب، أوديب، سكابان، جحا، أبو الفتح الإسكندري، هاملت، نجيب الريحاني، علي بن عياد، مصطفى كاتب». حسن حبيبي، «الطيب الصديقي: قصة مسرح»، ص: 130/131. (12) نفسه، ص: 131. (13) بدأت التظاهرات الأولى خريفا، في نونبر 2010، فكان الأنسب في رأينا تسمية الحراك ب «الخريف العربي» لأمانة التوثيق التحقيبي، وتجاوزا بالفصل الموالي مباشرة («الشتاء العربي»)، وعدم اعتبار الدلالات الاصطلاحية لتسمية «الربيع العربي» المتبناة إعلاميا على نطاق واسع محليا وجهويا ودوليا. (انظر مقالا لنا في الموضوع بجريدة «الدليل الإخباري» بعنوان: «الخريف المظلوم»، العمود الأسبوعي: «مع الناس»، العدد: 281، بتاريخ: 10/2/2012).