ذاكرة تعيد تشكيل الماضي وفق رؤية تصل الجذور بالفروع والمنقضي بالمستمر احتفاءً بدوره في التنشيط الثقافي، واعترافاً بمساهمته المهمّة في الشعر والنقد الأدبي مغربيّاً وعربيّاً، نظّمت ثانوية للامريم بمدينة أكادير مؤخرا، لقاءً تكريميّاً للأستاذ عبد اللطيف الوراري، تخللّته شهادات وقراءات احتفى فيها أساتذة شعراء ونقاد من داخل الثانوية وخارجها بمسار المحتفى به وتجربته الشعرية والنقدية. وقد أدار اللقاء الشاعر سعيد الباز الذي ثمّن هذه البادرة ورأى أن المحتفى به يستحقّ كل تكريم، وعاد بذاكرته إلى سنوات خلت جمعته به في أكثر من لقاء شعري قبل أن يلتحق للعمل بالثانوية نفسها. وأما مدير الثانوية أحمد السعيد فقد أشار إلى أن المحتفى به يعكس وجه الأستاذ النموذج الذي جمع بين عمله الجادّ في الفصل الدراسي ومبادراته الثقافية في الأنشطة الموازية التي صقلت المواهب الناشئة وأغنت معارفهم، كما أعطى للثانوية إشعاعاً جهويّاً ووطنيّاً ودوليّاً نتيجة الفعاليات الثقافية التي بادر إليها وأشرف عليها، مؤكّداً أن «هذه اللحظة تاريخية.. فلا يعقل أن نبحث عن أناس بعيدين عنّا للاعتراف بهم، وبين ظهرانينا يحيا مبدعون أفذاذ». وباسم اللجنة المنظمة قدم التلميذان مينة يحياوي ومعاذ العروة كلمة عبرت عن أهمية الملتقى الذي يعرف تلامذة الثانوية على شخصيات معروفة في الوسط الثقافي، وعن قيمة المحتفى به الذي نبغ في الشعر ورسم مسيرة موفقة في مجال النقد الأدبي. وفي شهادتها البليغة حيّت الأستاذة الشاعرة نادية القاسمي المحتفى به، وقالت: «لحظات جميلة هاته التي نعيشها في أجواء هذا الاحتفال الشاعري في فضاء مكتبة المؤسسة بأحد الأسماء التي وضعت بصمتها الإبداعية في سجل الساحة الثقافية المغربية والعربية.. بكل تواضع ورزانة تنمّ عن طاقة إبداعية وازنة ورصينة في تثبيت خطواتها ونشر الوعي الثقافي»، وأضافت: «كلّما اقتربت من عالم عبد اللطيف الوراري إلا وتجد فيه الإنسان الخلوق والطيب والمقدم يد المساعدة في أي لحظة». وفي ورقته المعنونة ب»شيء عن عبد اللطيف الوراري الشاعر والناقد»، آثر الأستاذ الأديب عبد العالي النميلي أن يعود إلى بدايات المحتفى به: «طفولة موسومة بالدهشة والتساؤل إزاء الناس والذات والعالم، وفي بلدة صغيرة تعج بالمتناقضات والغرائب والسحر، تستحضر الأجواء العجيبة الممتعة ل»ماكوندو» الراحل غارسيا ماركيز في خالدته (مئة عام من العزلة)». كما تحدّث عن شغفه بالقراءة، وكيف «كان في طفولته يرسم على الحيطان ولكن بالفحم والجير، باحثاً عن منفذ الحياة وعن سبل إلى البيان»، وقد بدأ شاعراً رومانسيّاً يكتب بالشكل العمودي، وكانت تذاع قصائده على أثير الإذاعة الوطنية في برنامج «مع ناشئة الأدب»، وهو ما «منحه شحنة قوية من الثقة بالنفس والإرادة ليشقّ طريقه الصعب في مغامرة الصدع بشعره الذي حسبه في البداية شأناً شخصيا». من جهته حيّى الناقد والأكاديمي رشيد يحياوي المحتفى ووجد أنّه «مبدع في مقالاته الأدبية ودراساته الأكاديمية وأشعاره التي مرّت من تجارب مختلفة»؛ فقد «اجتمعت فيه أكثر من حسنى، لذلك يستحق كلّ تنويه». وفي قراءة نقدية لديوان (ذاكرة ليوم آخر)، أبرز الدكتور رشيد يحياوي مشغل الذاكرة في العمل الشعري الذي يشتغل في مجمل نصوصه عليها، وهي «الذاكرة التي تعيد بعث الماضي وتشكيله وفقاً لرؤية تصل الجذور بالفروع والمنقضي بالمستمر»، من الذاكرة الفردية إلى الذاكرة الجمعية. وبدا له أن الديوان يشتغل شعريّاً على تجديد حياة تلك الذاكرات بمنزع يركز في جلها على تيمتي الفقدان والمعاناة، مؤكداً على «أن تجديد تلك الحياة يؤطره مقصد يهدف لتغيير الواقع، وخلخلة رؤيتنا له». وبعد أن وقف على قصائد من ديوان (ذاكرة ليوم آخر)، مثل «أحزان أبي العباس» و»العشاء الأخير للمعتمد بن عباد» و»تقاليب ضوء»، كشف الناقد رشيد يحياوي حرص الشاعر على تفعيل مبدأ الحوار النصي بين نصوص الذاكرة متمثلة في محكيات وعلامات وأسماء أعلام وبين القصائد ذاتها، ليستنتج أن الديوان «ينخرط في لغة مجازية لا تخفي التزامها بالانحياز إلى قيم التحرر والانعتاق من الظلم نحو الحرية والعدالة»، ولاسيما أن بعض نصوصه كتبت «في سياق التمثل الشعري لأحداث ما سمي بالربيع العربي». ثم استنتج الناقد من مقاربته للنصوص أن هناك لغة تحفر عميقاً في ذاكرتها المعجمية والدلالية، «تعطي للديوان سمة التفرد والخصوصية في المسار الشعري لعبد اللطيف الوراري خاصة، وفي مسار الشعر المغربي الراهن عامة». وفي كلمة له، ارتجل المحتفى به عبارات شكر فيها، بتأثّر عاطفي بالغ، كل من سعى إلى هذه الالتفاتة الكريمة التي تجسد في الفضاء التعليمي قيم الاعتراف والبذل والعطاء، ولاسيما مدير الثانوية أحمد السعيد، والقيّمة على مكتبتها الأستاذة نعيمة ساعة، والأستاذة الشاعرة ناجية عقا. كما سرد علاقاته الخاصة بفضاء الثانوية وأساتذتها وتلامذتها منذ أن التحق للعمل بها. كما وقف على أسباب نزول ديوانه الأخير (ذاكرة يوم آخر) بتياراته المتدافعة، وقرأ مقاطع منه. وفي ختام الأمسية سلّم مدير الثانوية درع وشهادة التكريم للمحتفى به الذي كان مصحوباً بحرمه الأستاذة جميلة مزيان وابنهما البكر ريان؛ ثُمّ جرى أخذ الصور للذكرى، وتوقيع بعض كتبه في الشعر والنقد، بموازاة مع حفلة شاي على شرف الحضور. وتجدر الإشارة إلى أن عبد اللطيف الوراري شاعر وناقد وأستاذ باحث، يهتمّ بقضايا الشعر والشعرية العربية قديمها وحديثها. نُشِرت له نصوص ودراسات وحوارات في عدد من الصحف والمجلات المغربية والعربية، وترجمت قصائده إلى بعض اللغات الأوربية ضمن أنطولوجيات. كما نال جوائز أدبية في لبنان والعراق والإمارات العربية المتحدة، وصدر له العديد من الكتب في الشعر والنقد.