كان اليوم شتويا يوحي بالكثير من الحزن الطبيعي، لم يحل بيني وبين فضاء الشارع البئيس سوى تلك الرياح التي كانت تهب من جهة الغرب، مبشرة أو منذرة بعاصفة مطرية تمتد لساعات طويلة، ولحفر بحجم الذاكرة في بلدي، الصباح تلوح ساعته باقتراب موعد الالتحاق بوسيلة نقل لتقلني إلى المؤسسة التي أدرس بها، تذكرت، وأنا في الطريق، الطابور الذي يمتد طويلا، مكونا من الذين يودون الذهاب إلى نفس وجهتي أوجهة ملتبسة من وجهتي، وخفت داخلي ألا أصل في الموعد، لكن اليوم ممطر وقد لا يأتي الآخرون، قلت لنفسي، مختبئا وراء ستار الريح القوية، لعلي أستطيع سحب أقدامي من الإسفلت اللزج الذي يعيق مسيري، بحذائي الأسود الممتد إلى ساقي، نعم، لا بأس الحافلة وصلت للتو، وأمامي ربع ساعة لأصل، سيكون اليوم كغيره من الأيام، درس ثم الأسئلة والأجوبة تأتي بأزهار القراءات الأولية لفهم الدرس جيدا، تمر الحصة دون مشاكل تذكر، الأستاذ يتمنطق كتبه داخلا أو خارجا من القاعة، كما لوكان دينكوشوتا آخر، والاختلاف طبع بين السيف والكتب، ونحن، الطلبة، نتمتم ونحاول أن نتذكر ما كنا نستمع إليه، أحيانا باهتمام كبير، وأخرى دون اكتراث. صديقتي، تنتظرني كما العادة أمام الباب، مبتسمة، رشيقة وممتدة كالزرافة، هكذا كنت أمازحها، تستقبلني كأمير حل من جزيرة غير معروفة لديها، فنحن المغاربة لدينا عادة ربما تعتبر قبيحة، نحب كل ما هو غريب عن تربتنا، ومع أني أنتمي لنفس التربة، و نتنفس نفس الهواء ، فإن هذه التائهة في الوفاء لي تبتسم في وجهي كلما التقتني خاصة في الصباح، كما لو أني فعلا أنتمي لتربة أخرى قد تكون مصر أو إسبانيا أو جنوب إفريقيا حتى، كم أحب صداقتها وصدقيتها. تركنا الرياح تزمجر وراءنا ودخلنا، كان الجميع يثرثر دون أن أفهم ما يقولونه، لم نكثرت للأمر فالسماء قد تعصف بثرثراتهم بعد خمس دقائق، وقد تعصف بالصور المبعثرة في دنيا ترغد بطقوسها الآدمية الغريبة، حيث لم يعد أحد يفهم أحدا إلا بشق الأنفس، وكانت الابتسامة العنيفة المرسومة على وجه زميل لنا تتيح لنا فرصة لتصور ما يروج بين باقي الزملاء في حلقيته. أخذت وصديقتي مكاننا المفضل في الصف الرابع، حيث رسمنا بعض أحلامنا طيلة الشهور التي مضت من مساءات جميلة، بعد كل خروج للأستاذ لأخذ سيجارة من النوع الرفيع، انتشينا بالسؤال عن أحوال الليلة الماضية، وبعد هنيهة دخل الرجل الذي بدا اليوم على غير عادته حازما، كرقيب في جيش القيصر الروسي، أو كقائد لفرقة عسكرية هتليرية، ليطلب منا، دون أي تردد على اللوحة البيضاء لكتابة عنوان الدرس، كتابة قصة قصيرة، أو تحضير مقالة، أو إعداد موضوع نعرضه أمام الجميع، وألح على التزام الوقت المحدد في ساعة كاملة. تساءلت في قرارة نفسي عن سبب هذه المفاجأة غير مرغوب فيها. وبينما أنا أحدث صديقتي حول الاختيار المناسب، اهتزت أجسادنا على وقع طرقات قوية على مكتب الأستاذ، ليشد انتباهنا مرة أخرى، ويعلن تراجعه عن طلبه/أوامره، ونسبح جميعا في فرحة لم تطل، بإعلانه عزمه اختيار أربعة عناصر للقيام بالواجب، وهنا ألفيتني أحاول أن أداري نظرته المتفحصة، بالاختباء بجسدي النحيل وراء من كان أمامي، مطرقا برأسي على الطاولة، ربما أفلح في الهروب من هذا الامتحان العسير الذي قد يقلم به ذاكرتي وينضاف إلى الرياح التي صفعت جلدي الأبيض الخشن هذا الصباح الشتوي المتشبت بالمطر، الذي بدأ في الهطول غزيرا، واعدا إيانا ،عبر النافذة، بيوم قد لا نصل فيه إلى بيوتنا إلا مبتلين، وقد تهدنا، كما قراراته، نزلة برد مصحوبة بالحمى والسيلان الأنفي الذي أكرهه كما أكره الذباب في يوم صيف قائظ. أخيرا فلحت، وعيناي دامعتان، في التخلف عن الأسماء المقترحة، وكان أولها ذاك الطالب الذي فتحت ابتسامته العنيفة المرسومة على وجهه فرصة لتصور ما يروج بين باقي الزملاء في حلقيته التي فضتها رياح هذا الصباح. لكن كل البرنامج تغير، فهو مطالب بأن يستعد في ربع ساعة لإلقاء درسه، وشرح متن القصة القصيرة التي اختارها له الأستاذ وكانت بعنوان: "لحوم في المزاد العلني" للقاص الكبير محمد إدارغة، أمر جد معقد، أن يطلب منك ذلك دون إشعار موجه قبلا، إلى سلطات التلميذ المعرفية المحدودة، تصورت الأمر وكانه يتعلق ببحث للشرطة القضائية عن مجرم خطير، بأزقة حي برج مولاي عمر أو بني امحمد او سيدي بابا، دون أن تكون لديها أية أوصاف أو معلومات عنه، وهي ملزمة بإحضاره إلى قسم الجرائم خلال ربع ساعة، شيء يدعو إلى الشفقة حقا، وقلت لنفسي مستنكرا ابتسامته الصباحية العنيفة: لماذا ابتسمت هكذا هذا الصباح؟ ما كان عليك أن تفعل، فالسماء ممطرة ولا شك، والرياح هائمة على وجهنا، وشعرك الذي يشبه شعر نيمار يوحي بإنسان ما قبل التاريخ ويجعل من يراك يتصور أنه أمام حزمة من القش، ههه ضحكت مع نفسي، دون أن أدري أن صديقتي تسألني عن سر ضحكي الملفوف بالصمت الصارخ، لأغطي وجهي بكفي بعد أن نزعت نظارتي ومسحت مقلتاي من الدموع. انتهى الزمن على حين غرة، وعلى الأصح انتهت المهلة التي أعطيت للطالب صاحب الابتسامة ..كما تنتهي المهلة الممنوحة للسجناء للقاء عائلاتهم دون احتساب فترة إضافية للخلوة الشرعية، وانتهت فترة تأملنا للمشهد ولذكرياتنا القريبة المرتبطة بمحاولات ربط علاقات عاطفية، على صفحات الفايسبوك، الذي أصبح ملاذ الكثيرين بعد أن هددت الوزيرة بالعقاب الحبسي النافذ في حق كل من بسبس أو غمز أو لمز، لكن لم تنته عاداتنا السرية والجهرية، والتأمت تأملاتنا لتفصح عن دعوة لأحد الطلبة لإبلاغ الطالب صاحب ..للإلتحاق بالقاعة لتأدية مهمته العسكرية، عفوا التربوية. في غيابه، طلب منا الأستاذ، وبنفس الحزم العسكري، أن نحرض ألسنتنا وحركاتنا على العمل من أجل إفساد الحصة التعذيبية للطالب، ولما دخل، بدأنا بعد صمت رهيب دام ربع ساعة في ثرثرة على نهر الإزعاج المتعمد، إزعاج الطالب/الأستاذ طبعا، فهذا يقوم من كرسيه، والطالب يلقي درسه، ويقول لزميله في نفس الطاولة: «ابتعد عني، لم تعد صديقي لا هنا ولا في الفايسبوك»، والآخر يردد عطسته بشكل يثير الاشمئزاز، وطالبة تنعث صديقها اللدود، بعد أن بدأ يبشبش لها ولا يبسبس خوفا من قانون الوزيرة التي تكره «التبسبيس» لأنها لم تتعرض له لما كانت يافعة، بأنه لا يحترم الدرس والمدرس، بينما آخران كانا وراءنا يتبادلان اتهامات بخصوص حصة الكراء للمنزل الذي يكترونه للإقامة فيه خارج أيام الدراسة في غفلة من والديهما. بينما اخترت أنا أن أذهب إلى «رب القسم» حينها، وأطلب منه التوقف عن إلقائه لدرسه، وأن يسمح لي بالحديث إلى شاعرتي المفضلة، التي تهاتفني من خارج باب المؤسسة، وحاولت أن أطالبه بذلك بعد أن التمسته منه في أدب ولم يكترث، وقابل طلبي بابتسامته العنيفة، آمرا إياي بالعودة إلى مجلسي، لأعاود كل مرة الكرة، وألوح بيدي في وجهه، متهما إياه بالفشل، وأخرج من القسم موقعة صوتا عنيفا، وأنا أصك الباب ورائي صكا، ليتبعني مهددا متوعدا ويعود، مقرا للطلبة أن الصوت كان بفعل الرياح العنيفة التي تهب في الخارج، بينما أنا متيقن بأنه كان يفكر في رياحي أنا، التي أفشلت ابتسامته الصباحية التي تشبه رياح فصل الشتاء وبرده القارص واستهزاء مطره العنيف. عدت، فابتسم الأستاذ المعين إداريا لأول مرة منذ دخوله القسم هذا الصباح حازما على غير عادته، قام من كرسي الطالب /الأستاذ، اتجه نحوه، شكره، طلب منه العودة إلى مجلسه، لزم وجهه اللوحة التي بقيت بيضاء كما كانت عند دخولنا، لبث طويلا موجها ظهره إلينا، لينقلب فجأة على صورته التي مثلها هذا الصباح، ويقهقة.. قهقه ..قهقه طويلا أيضا، تركناه لحاله، وحده يقهقه، بينما عم الصمت في القسم، والرياح تزمجر في الخارج، لتكسر الصمت والقهقهات، وتعدنا بيوم ممطر لن نستطيع فيه العودة إلى إقاماتنا إلا بلباس مبتل حتى وأنا أحمل مظلة صديقتي التي أنعتها بالزرافة فترد علي بابتسامة أفتقد صداقتها وصدقيتها اليوم بقوة.