(الجزء 1) عندما تبدأ السنة الدراسية في شهر شتنبر، كان طلبة النظام القديم بالجامعة ينتظرون أربعة إلى ستة أسابيع لبدء الدراسة، وثلاثة إلى ستة أسابيع لاكتمال العدد النهائي في الفصل، وهناك من الطلبة من يلزمه أسبوعين كاملين لعزم النية وشد الهمة والتقرير في الأمر وكأنه "حارڭ للطاليان" كي يتوجه أخيرا إلى مقر الجامعة. كان الأساتذة منذ أول يوم يبدؤون مباشرة في إلقاء الدرس دون تحية أو سلام أو حتى التعريف بأسمائهم ولا حتى اسم المادة، فهم يعلمون أن لا فائدة من تضييع ساعات من الوقت في "ركن التعارف"... فالطلبة غير مواظبين على حضور الحصص، والطالب "للي كيجي ليوم ماكيجيش غدا"، وهناك من الطلبة من يحضر أول حصة ومن ثم يختفي إلى يوم الامتحان. كان من بعض الأساتذة من يقعد بمكتبه طيلة الحصة، يشرح ويملي بينه وبين نفسه حتى لا تكاد تسمع صوته، ولا ينظر إلى وجوه الطلبة بالمرة، ربما "باش مايربيش الكبدة"! وعموما، فأسماء الأساتذة والمواد كانت كلها مدونة على استعمال الزمان الذي غالبا ما كان يغير بعد أسبوع من بدء الدراسة، فيضطر الطلبة إلى تغيير المجموعات، وتعم الفوضى، ولا تستقر الدراسة حتى يبدأ تلامذة الابتدائي في امتحانات الدورة الأولى! كان نوفل، طالب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يستيقظ كل صباح متسائلا ماذا يفعل في حياته! ربما من شدة الروتين وانعدام الحماس. يرتدي ملابسه، ويأخذ وقته في الاستمتاع بوجبة الإفطار، لأنه في كل الأحوال، سيضطر لانتظار "لأونز 11"، الطوبيس الشهير الذي يظهر مرة عند اكتمال القمر. ثم يوقظ والده بمشقة الأنفس، ليأخذ "120 ريال" ثمن التذكرة آنذاك ذهابا وإيابا، ليحس كل يوم أنه "طلاب" بالجامعة. ثم يخرج ليركض وراء الحافلة ربع ساعة، ليستقلها النصف ساعة المتبقية وهو واقف في ازدحام رهيب بين الطلاب والموظفين المحترمين حتى ينتكش شعره ويتسخ حذاءه ويصبح منظره وكأنه عائد من "الحرث". تصل الحافلة إلى بوابة مدينة العرفان، فيصبح لدى نوفل اختيارين: إما أن ينزل في المحطة الأولى، حيث الطريق معبدة، ولو أن منحنياتها الكثيرة تمتلئ بالماء عند هطول الأمطار لتصبح الكلية أشبه ب"براكة" وسط المستنقعات، إضافة إلى كونها طريقا جد طويلة حيث يقضي نوفل نصف ساعة في المشي، يستطيع أثنائها أن يرتب مظهره قبل الوصول إلى الجامعة منهك الأطراف، فكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالعاصمة تقع وراء شارع العرفان، بالناحية المجاورة لحي "القامرة" على هامش السكة الحديد، حيث لم تكن هناك بعد مساكن طلابية أيام النظام القديم، وكان الأمن كلمة جد مفقودة. وإما أن ينزل بالمحطة الثانية، الأقرب إلى الكلية، لكنه يكون مجبرا على المرور من "أعماق أدغال الأمزون"، حيث رمال الحمري تصبح شديدة الانزلاق عند هطول الأمطار، إضافة إلى الحفر والأحجار التي تقطع أحذية السويقة د "لكاملوط". وما عسى لطالب جامعي يدرس من الثامنة صباحا حتى المساء أن يرتدي، فهو لا يملك الوقت حتى للبحث أو الدراسة بالبيت، ما بالك بوقت للعمل وإعالة نفسه وشراء ما يحتاجه من كتب ونسخ "فوطوكوبيات" لا تنتهي. وبعد عبوره تلك الطريق الخالية الموحشة، كان يتوجب على نوفل المرور من "الثقب". ومن من طلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط لا يعلم بشأن هذا الثقب، الذي شيد سنة 2005، على يد مجموعة من شباب الجامعة بالحائط الخلفي للكلية، ليستطيع الطلبة الوصول إلى أقسامهم بوقت قياسي. قبل هذا الثقب كان الطلبة يصعدون فوق سور كلية الاقتصاد المجاورة، جدار رقيق بعرض 20 سنتيمتر، ويقومون ببعض حركات السرك للحفاظ على توازنهم، ثم يقفزون إلى داخل كليتهم، وينزلون من على هضبة الحمري ليصبحوا أخيرا أمام الفصول الدراسية. لكن عند أول محاولة لنوفل للقيام بتلك المجازفة، التوى كاحله، فأصبح يفضل المستنقعات على أن يصل باكرا برجل مكسورة. لكن، أيا ما كانت الطريقة، فنوفل كان دائما يصل متأخرا إلى الفصل بسبب ندرة الحافلة رقم 11، ويبقى تحديد كيف يقضي أول ساعتين من يومه رهينا بنوع الأستاذ الذي يدرس بالقسم. حيث هناك ثلاثة أنواع من الأساتذة: نوع راق من الدكاترة، امتلأت أدمغتهم بالعلم حتى انحنت رؤوسهم تواضعا لطلبة في حالة مزرية تستدعي الرأفة، فهم يعلمون ما يمر به الطالب كل صباح ليصل إلى الجامعة راغبا في الدراسة ومتحديا أوضاعه البائسة. كان من الأساتذة من يترك باب الفصل مفتوحا لأي طالب في كل وقت ولا يأبه لدخول الطالب متأخرا للقسم، بل يكملون محاضراته بكل ثقة، منهم من يحاول تلخيص ما فوت الطالب من محاضرة تعاطفا معه أو محاولة لدعمه للاستمرار، فهدف تدريسه بالجامعة ليس إحباط عزيمة الطالب وتدمير ثقته بنفسه والتقليل من شأنه، لكن مساعدته على تحصيل العلم والارتقاء بذاته وسط الإذلال اليومي الذي يعيشه طالب العلم والمعرفة من ظروف مادية ومعنوية تعجيزية. هناك من هؤلاء الأساتذة من يعطي للطالب الذي أتى متأخرا كرسيه الذي يجلس عليه، ويبقي الأستاذ واقفا طوال الساعتين من شدة تفانيه في العمل ورقة معاملته للطلبة. لكن أيضا، لقلة المقومات الأساسية في الجامعة من كراسي وطاولات، وبؤس حالة الأقسام، حيث بعض النوافذ مكسورة، والصبورات مليئة بالمسامير، والأبواب تفتح من الداخل فقط لقدمها، و والأرضيات مبللة لتعفن الأسقف بالأمطار، إلى آخره من انعدام المقومات الضرورية للدراسة بشكل سليم بالكلية. وهناك النوع الثاني من الأساتذة، ذاك النوع الذي يرتبط بشكل غريب بوزارة التربية والتعليم، رغم أنه تابع لوزارة التعليم العالي، فهو في تعامله مع الطلبة أقرب لمعلم "التحضيري" منه إلى أستاذ جامعي. فلا يفتأ يرى طالبا متأخرا أو يسمع ثرثرة بالقسم أو يمسك بأحد الطلاب من الذين ينفذ صبرهم بعد نصف ساعة من بداية المحاضرة، ويفقدون التركيز، ويفضلون النظر إلى هضبة الحمري عوض وجه الأستاذ، حتى يبدأ في الصراخ وإلقاء محاضرات تربوية توجيهية لا نهاية لها، حتى ينتهي وقت الحصة. ومنهم من لا يخفي رغبته في تلقين الطلبة عقوبات جسدية ك"فلقة" أو الوقوف في آخر القسم على رجل واحدة، أو حتى كتابة "الطوبيس للي تعطل" مئة وخمسين مرة! أما النوع الثالث من الأساتذة، فهم أولئك الذين يرهبون الطلبة، ويجعلون الجامعة أشبه بمنزل "شرشبيل". ذلك النوع من الأساتذة الذين ينتقمون من الطلبة على كل الأشياء السيئة التي مروا بها في حياتهم، وينتهزون كل فرصة يقع الطالب فيها بين أيديهم لكي يهزؤوا به، و"يبردو الغدايد"، ويجعلوه يحس أن وجوده بالجامعة هو أسوء ما وقع وما يمكن أن يقع له طيلة حياته. فعند وصول الطالب إلى باب الكلية في نفس الوقت الذي يصل به أحد هؤلاء الأساتذة، تجده يتسابق معه في "لكولوارات" لكي يصل قبله ولو بخطوة حتى يغلق باب القسم في وجهه ويحبسه من الداخل بطاولة فلا يتسنى لأحد أن يجرؤ على فتح الباب ومقاطعته أثناء الحصة. وتجد الطلبة بالداخل يرتعشون خوفا أن يفاجئهم بامتحان شفوي رغم أنه لن يحسب مع امتحانات آخر السنة ولن تدرج نتائجه مع النتائج النهاية، لكن خوفا من "التبهديلة والشوهة" بين يدي الأستاذ الموقر وأمام أعين زملاء القسم. ولسوء حظ نوفل، فقد كان دائما يجد الباب مغلقا ومحكما بطاولة من الداخل. فيصر على إحداث القليل من الضوضاء فقط لإثبات اعتراضه على المعاملة اللاإنسانية اتجاهه، ويأخذ في دفع الباب بقوة حتى تسقط الطاولة، ويسمع ضحكات الطلبة المتزايدة، وخطوات الأستاذ القادم، ثم يرضخ إلى لأمر الواقع ويفر إلى الخارج ليتشرد ساعتين أمام باب الكلية في البرد القارص، ويتعلم فن "العصير"، ويستمتع بعزف الطالب حسين الملقب ب"جاستين" على القيتار، وأصوات ستوديو دوزيم الواعدة. ... يتبع [email protected]