قصيدة «في مهب الصباح» واحدة من قصائد الشاعر الأردني محمد مثقال الخضور الفنية، المدرجة في ديوانه الأول: «نقطة في فراغ» التي تشد القارئ إليها وتستدرجه إلى عالمها الذي أتقن الشاعر بناءه فكرا وعاطفة ولغة وتصويرا. أحاول في هذه القراءة أن ألامس بعض دلالاتها العميقة وخصائصها الفنية والجمالية، بالوقوف على تجليات الحلم واللغة الشعرية في القصيدة. يشكل الحلم في قصيدة «في مهب الصباح» بؤرة محورية، وتشكل اللغة التصويرية فيها مكونا فنيا وخاصية أساسية. ولفهم الأبعاد الدلالية للمعاني في القصيدة، لابد من معرفة نظام الحلم وطبيعة توظيفه في النص، وخصائص اللغة الشعرية، والعلاقة بين الحلم واللغة الشعرية. ولذلك فالأسئلة التي تفرض نفسها في هذا المقام هي: بأي دلالة أو دلالات وظف الشاعر الحلم في القصيدة؟ هل بمعنى الأحلام التي تخرج الذات من أزمتها الخانقة ووجعها المؤلم، ولو مؤقتا،؟ أم الأحلام بمعنى ما يراها الإنسان في منامه من تخيلات وصور؟ أم بالدلالتين معا؟ وما خصائص اللغة الشعرية وما طبيعة علاقتها بالحلم؟ وأين تكمن وظيفتها في التعبير عن رؤيا الشاعر وأفكاره ومواقفه من الحياة والموت والوجود؟ الحلم، في أبسط تعريف له، هو تخيلات بشرية، وهو أيضا تعبير بالصورة عن الذات والعالم والرغبات والحياة... الحلم خروج عن إطار الواقع وتجاوز للفضاءين الزمني والمكاني، والسمو إلى عالم الصورة والخيال، إلى اللامحدود. واللغة الشعرية مكون أساسي من مكونات الشعر، هي لغة خاصة، تختلف عن اللغة المألوفة بما تتسم به من انزياحات ورموز وتعبير بالصور. للحلم نظامه الخاص، وللغة الشعرية نظامها الخاص. ولكنهما يلتقيان ويتقاطعان في التصوير والتخييل. الحلم إعادة ترتيب الحياة والعالم عبر التخيل والتصور، واللغة الشعرية تعبير بالصورة عن الذات والنفس والعالم والوجود والأشياء من حولنا. فالذات الشاعرة تختزن الكثير من الألم والمعاناة الذاتية والإنسانية، تفجرها عبر الحلم واللغة الشعرية. يحيلنا العنوان (في مهب الصباح) إلى معنى الضياع والنهاية، الشيء الذي يجعل الذات عاجزة عن الفعل. نستمد من كلمة «مهب» معنى القوة والمباغتة. وأفترض أن الشاعر استمد معنى المباغتة والضياع من الريح في عبارة «في مهب الريح» وألحقها بالصباح. بحيث نجد أن الريح في العبارة السابقة هي الفاعل، ويكون المعنى هو ضياع الأشياء وتلفها، أما الفاعل في عنوان القصيدة فهو الزمن: (الصباح)، لأن الشيء الذي يضيع هنا، رهين بمجيء الصباح. ولا تكتمل دلالات العنوان إلا إذا قرأناه في ضوء أفكار القصيدة. يطالعنا الشاعر، منذ البداية، ببؤرة القصيدة التي تتمثل في: الأحلام. يقول: الأحلام التي لا شهود عليها تموت. (ص: 158 من ديوان «نقطة في فراغ») وتحضر تيمة الحلم في القصيدة، من خلال مجموعة من الإشارات والعلامات الدالة عليها، منها التكرار (تكرار كلمة حلم / الأحلام ست مرات)، وتكرار كلمة (رأيتني) مرتين، والتي تحيل إلى الحلم. إضافة إلى كلمتي: (الليل والصباح) كزمنين مؤطرين للحلم. و»الأحلام» هي الحلقة المفقودة في العنوان، ليكون مهب الصباح علامة على ضياع الأحلام وتوقفها وانتهائها. ويكون بذلك إسناد فعل الضياع للصباح حقيقيا إذ تتوقف الأحلام (بمعناها الحقيقي المباشر) مع مجيء الصباح. ولا يقف معنى العنوان عند هذه الدلالة الأولى المباشرة، التي بموجبها يصبح الصباح دالا على نهاية الحلم، بل تتسع الدلالة لتشمل ضياع الأحلام وضياع الحياة كلها. ويصبح الصباح دالا على الإحباط وعدم جدوى الأحلام، لأنها محكومة، مثلها مثل الكائن الحي، بالموت. في المقطع الأول نجد الذات تتموقع بين مرجعين، مرجع واقعي (كل ما تعيشه الذات في الواقع المادي من توترات وقلق ومعاناة وألم...)، ومرجع خيالي صوري (الحلم والشعر). وتحضر هاتين المرجعيتين بكافة الإشارات والعلامات لتؤسس في القصيدة لدلالات تجاذب الذات بين الحلم والواقع، بين الحياة والموت. الذات الشاعرة الجريحة تدرك حقيقة الحلم إدراكا لا يجعلها تنساق وراءه أو تستمتع بدفئه، وتعي تماما أن الحلم هروب مؤقت من الواقع المرير والمعاناة. فيبدو الشاعر أكثر واقعية، حين يأخذنا من عالم الحلم الواسع، إلى واقع الحلم وحقيقته. ويعلن في مطلع القصيدة، أن الأحلام التي لا شهود عليها تموت، تتلاشى مع نهاية الليل (تذروها على رفاة الليل ابتسامة ساخرة). ويطابق الشاعر بين دلالتي الحلم، المباشرة (ما يراه النائم في منامه من أحلام)، وبين الأحلام بمعنى ما تحلم الذات بتحقيقه في واقعها. ينطلق من الدلالة الأولى موظفا (الليل والصباح) كبعدين زمنيين مؤطرين لبداية الأحلام وانتهائها، ليؤكد دلالة تلاشي الأحلام وموتها بالمعنى الثاني. وتتحقق هذه الدلالات عبر صور استعارية محكمة الصياغة، تسخر فيها الابتسامة من الأحلام عند انتهاء زمن الليل (على رفات الليل)، وتتنكر الصباحات الباردة لأكوام الحطب، وتبيع مشاعرها للضجيج.. الشاعر يبني صورا تخييلية فنية بليغة على خلفية أزمة ذاتية صعبة، اكتسبت فيها «الصباحات» دلالة رمزية أخرى مفارقة لما كانت ترمز له من أمل وحياة، لتصبح في قصيدة الشاعر «صباحات باردة» لا حياة فيها سوى الجمود والروتين والموت. وتدل على النهاية والإخفاق. يقول الشاعر: الأحلام التي لا شهود عليها . . تموت تذروها على رفات الليل ابتسامة ساخرة الصباحات الباردة تتنكر لأكوام الحطب تبيع مشاعرها . . للضجيج ! (ص: 158 من الديوان المذكور) ونستخلص في هذا المقطع الأول أزمة الحلم في تخليص الذات من آلامها. فلا مؤشر يثبت حياة الأحلام واستمرارها وتحققها. فضاء الأحلام واسع وغير محدود، ولكنه لدى الذات المبدعة متقلص ومنته. وانطلاقا من هذه القناعة، يطالعنا الشاعر في المقطع الثاني بتعريفات جديدة للحلم على خلفية إدراكه لحقيقته ووعيه بطبيعته المنتهية في علاقتها بذاته الجريحة، فيصبح الحلم مسافة من الدفء يباغتها الأنين، وانتصارا تتوهمه اللحظة المتعبة. الشاعر يستشعر الدفء في الحلم وتفوقا نسبيا على الوجع والآلام. ولكن هذا الدفء لا يدوم والانتصار لحظي ومؤقت. يقول الشاعر: الحلم مسافة من الدفء.. يباغتها الأنين انتصار تتوهمه اللحظة المتعبة.. حين ينام رماة الطريق (ص: 158 من الديوان) في المقطعين الثالث والرابع، يعبر الشاعر عن الضياع والتشتت عبر الحلم بدلالة ما يراه النائم في منامه، وتدل عليها كلمة «رأيتني» فهي صيغة تعبيرية دالة بشكل مباشر على ما رأته الذات في منامها من أحلام، يقول الشاعر: رأيتني . . متباعدا كالمواسم كلما اشتكى مني عضو . . يوزع على سائر الأعضاء السهر والحمى ويحلم . . ! رأيتني . . تلاحقني الشوارع بالظلال كأني لم أمت قبل هذا ! كأن الرذاذ حين يفلت من التبخر يبشرني بالمستحيل (ص: 158 159) الذات ترى نفسها في الحلم متباعدة كالمواسم، تلاحقها الشوارع بالظلال... حلم رهيب يعمق الإحساس بالضياع والتشتت. فالذات في حالة قلق وتباعد مع نفسها ومع رغباتها، بسبب آلامها ومعاناة الشديدة. وتتأكد هذه الدلالة عبر المعجم الموظف في المقطع: (القلق، الشكوى، السهر، الحمى...)، ويزكيها الاقتباس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى (رواه البخاري ومسلم وغيرهما) اقتبس الشاعر الدلالة المباشرة للجزء الذي شبه به رسول الله المسلمين في حالة تواددهم كالجسم كلما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. في ذات الشاعر، يتفاعل الجسد والفكر والنفس مع الحالة، محدثا أرقا شديدا وتوترا وقلقا كبيرين.. ومع ذلك تحلم الذات بالفرج.. وإن كان حلما مقيدا بالألم. فترى نفسها، في الحلم، والرذاذ الذي يفلت من التبخر، يبشرها بالمستحيل،.. فسحة من أمل تتحقق في الحلم عبر الدلالة التي نستقيها من هذا المعجم:(الظلال والرذاذ والتبشير بالمستحيل). لكن الذات تستهين به لأنها مستسلمة ليأسها وألمها. وتتسع دلالة الحلم في هذا المقطع الشعري الثالث لتدل على أبعد من الحلم في المنام وذلك ما توفره اللغة الإيحائية التي اعتمدها الشاعر. فيصبح الحلم دالا على الصراع بين الأمل/ الحياة والموت. ويخرج بنا الشاعر، في المقطع الخامس، من الصور الحلمية المزعجة التي تعمق مأساة الذات، وينفتح بعد ذلك على الحقائق والقناعات التي توصل إليها. فالضوء في الحلم هجين، وآخر النفق طافح بالسراب، والمدينة مطرزة بالذكريات وعيناه بالأسئلة والحيرة. كل علامات التوتر الذاتي والإنساني قائمة، تؤكد القناعة التي انطلق منها الشاعر في بداية القصيدة، كون الحقيقة أبلغ من الحلم. فتظل الذات حائرة متسائلة خائفة حزينة، قلقة...، يقول الشاعر: الضوء في الحلم.. هجين آخر الليل طافح بالسراب المدينة مطرزة بالذكريات عيناي.. بالأسئلة ( ص: 159 من ديوان: «نقطة في فراغ») وتستمر الذات المبدعة في استثمار عنصر الحلم للتعبير عن رؤاها، عن طريق تأمل فعل الحلم وفهم منطقه وعالمه العلوي اللاواقعي، فتعرفه بصيغ تختلف عن المنطق المعهود وتصبح الأحلام بمقتضاه رسومات الأطفال على دفاتر الحساب، ورسومات الكبار على حاشية التعب ... هكذا يرى الشاعر الأحلام. وتصبح الأحلام أيضا لدى الشاعر، وتحت تأثير معاناته الذاتية، أوجاعا تبحث عن حقها من الوقت خارج قيد الجسد، فالذات تتوق للتوحد مع عالم الحلم، العالم اللامحدود رغبة منها في التحرر من قيد الجسد، يقول الشاعر: الأحلام رسومات الأطفال على دفاتر الحساب رسومات الكبار على حاشية التعب أوجاع تبحث عن حقها في الوقت خارج قيد الجسد (ص: 159 من الديوان) وشبه الأحلام أيضا بالسحب الملونة (ألوانها مختلفة) والتي لا تدري، بمشيئة الرياح أين تحلق غدا، وبأي أرض تموت. الأحلام كالسحب لا تمتلك زمام وقرار نفسها، متروكة لمشيئة أخرى.. وإرادة أخرى.. للتأكيد على دلالة موت الأحلام. فالحلم هنا يتجاوز الدلالة التخييلية/ التصويرية، ويكتسب قيمة رمزية يصبح بموجبها دالا على النهاية والموت. ونستخلص أن الحقائق الشعرية في القصيدة أبلغ من الحلم. ويأتي المقطع الأخير صورة استعارية بديعة، قائمة على تشخيص المفارقة بين الفرح والجرح/ بين الحياة والموت، لتعميق الإحساس بالخيبة والصدمة والضياع. يكشف الشاعر أمامنا الحقائق الخفية عنا، ويثبت لنا أن ما نراه في الواقع ليس إلا ظواهر الأشياء، أما الحقائق فخفية. الواقع لا يظهر سوى فرحة الفلاح بالحصاد، ويخفي جراح السنابل، فيأتي الشاعر ليزعزع اليقين ويبث الشك في وعود الحصاد على أن تكون فرحة الفلاح أكبر من جرح السنابل، ليكشف عن الجرح الدفين في النفس. ومن صميم التأمل الفلسفي، يزعزع اليقين بأن تكون أبدية الروح أقل بؤسا من ضياع الجسد. فالذات تتشبث بالحياة ولا تغريها أبدية الروح. هي تأملات وأسئلة ناتجة عن رؤيا عميقة تتصل بالحياة والموت. يقول الشاعر: لا شهود على وعود الحصاد بأن تكون فرحة الفلاح أكبر من جرح السنابل ولا وعود الروح بأن تكون أبديتها أقل بؤسا من ضياع الجسد (ص: 160) ويستمر الشاعر في تأملاته في ثنائية الحياة والموت بموقفه ورؤياه حول هروب الزمن وتسربه، للتعبير عن الضياع والإحساس بالمرارة: (موت اللحظات واتساع الفراغ، وضيق العبارات)، هي علامات الموت، موت الإنسان والعالم. تموت اللحظة باللحظة، والأمس باليوم... الموت يلاحق كل شيء في الوجود.. فيكون الشعر واللغة الشعرية محاولة للقبض على الزمن الهارب. يقول الشاعر: لا شهود على الوقت أن يغير طبعه كما قال فكلما ماتت منه لحظة.. يتسع الفراغ.. وتضيق العبارة. (ص: 160 من ديوان الشاعر: «نقطة في فراغ) الشاعر في هذا المقطع أكثر عمقا ونفاذا في صياغة أسئلة وجودية مطبوعة بالقلق والخوف والتوتر... فكان دقيقا في إعادة صياغة أسئلة وألغاز الحياة والموت.. هذه محاولة لاستخلاص الأبعاد الدلالية في القصيدة، أما الخصائص الفنية فيها، فتتمثل أساسا في اللغة الشعرية والتصوير كمكوننين أساسيين من مكونات الشعر الحديث: الصورة الشعرية في القصيدة مستوحاة من مأساة الذات ومن التجريد الحلمي. تتطابق الصورة في الحلم مع الصورة الشعرية، تتحقق الأولى (الصورة في الحلم) على مستوى التخييل، حيث تعيش الذات أحداثا خيالية خارج التحديدات الزمنية والمكانية الواقعية. الشاعر ينقل إلينا ما رأته الذات من أحلام بلغة تصويرية. والثانية تتحقق بواسطة اللغة الشعرية المنزاحة عن اللغة المألوفة (متباعدا كالمواسيم تلاحقني الشوارع بالظلال كأني لم أمت قبل هذا الرذاذ يبشر...) فهي صور قائمة على الانزياح الدلالي والتعبير المجازي والاستعاري. إن هذه الصيغ التصويرية تضفي على النص كثافة تعبيرية تجسد الآلام والمعاناة وتتجاوز كونه مجرد حلم ينتهي بانتهاء مدة التصور. وبذلك تتماهى الصورة في الحلم مع الصورة الشعرية في التعبير عن هذا القلق الوجودي والمعاناة الذاتية. أما اللغة في القصيدة، فهي لغة شعرية تقوم على خلخلة لغة التخاطب المألوفة وإعادة بنائها وفق رؤيا الشاعر العميقة والفلسفية، وبفعل خاصية التخييل. فيجعل الشاعر محمد الخضور منها لغة شعرية خاصة تسعفه في تقديم ترتيب وتعريف جديدين للأشياء في أذهاننا، وتحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وذاته وبين الإنسان ومحيطه.