هو شاعر من عيار ثقيل. شاعر حققت معه القصيدة بالمغرب تميزها وحضورها النوعي. شاعر سكن القصيدة وسكنته، من خلال اقتسامه وإياها انشغالاته الإنسانية والوجودية في آن. شاعر صدح بملء الوجدان ذات قصيدة:1 بغيتْ نتصنّت لعْظامِي بغيتْ نتصالحْ مع أيّامِي بغيتْ كهفْ فيهْ نتْخَلوَى إنه الشاعر المتألق أحمد لمسيح، صاحب تجربة كبيرة ومهمة، تمتد لأكثر من ثلاثين سنة، جسدتها غزارة إصداراته وتنوعها، من حيث البناء والموضوع. تجربة تنم عن وعي شعري واضح بأفق الكتابة في تجلياتها المختلفة، تحولا وثباتا. وإذا كان انحياز لمسيح للغة الأم أداة للتعبير والتواصل الشعريين، انحيازا ظاهرا؛ فلتأكيد ما لهذه اللغة من قدرة على خلق الدهشة وترك الأثر. لغة بقدر ما تقترب من لغة اليومي بقدر ما ترتقي إلى لغة المجاز والاستعارة وضروب الانزياح. لقد تنوعت نصوص أحمد لمسيح بحسب تنوع السياق، الذي وجدت فيه من جهة، وبحسب الخلفية الشعرية والمعرفية التي تبناها منطلقا للكتابة، من جهة ثانية. ففي كل نص من النصوص التي اقترحها الشاعر إشارة ظاهرة أو خفية للموضوع الذي يشغله، وبالتالي انعكاس لمدى انفعاله وتفاعله كذات شاعرة، بالآخر والمحيط،. وتأتي أهمية المنجز الإبداعي لأحمد لمسيح، في ما يعكسه من تأكيد المسار الشعري الذي تبناه منذ البدء، وفي ما يزخر به هذا المنجز من فرادة شعرية تحمل أفقا تجريبيا له خصوصيته وأبعاده. وتبعا لذلك، تنوعت موضوعات الشاعر وتراوحت نصوصها بين الطول والقصر، فيما تفاوتت مرجعياتها الشعرية بين واقعية وأخرى رمزية. ولعل إطلالة سريعة في جملة العناوين التي اختارها لمسيح لدواوينه الشعرية مثلا، تطلعنا على نوعية الموضوعات التي انشغل بها، وشكلت مجالا خصبا لتجسيد أفقه الشعري. من هذه العناوين نجد: (شكون طرز الما، ظل الروح، توحشت راسي، حريفات، حال واحوال، خيال لما،، وما سواها) دونما الحديث، طبعا، عن عناوين القصائد أو المقطوعات داخل المجموعة الشعرية الواحدة، حيث كل عنوان يدل على معنى ما ويحيل بالضرورة إلى سياقه التاريخي والأدبي والرمزي، على حد سواء. والغالب في اختيارات لمسيح أنها تتبنى، شأنها شأن تجارب مشابهة، موضوعات ذات أبعاد إنسانية وجمالية قوامها السفر في الذات وفي الذاكرة وفي المجتمع. وبين هذا السفر أو ذاك خيط رفيع يعبق بالحكمة والأمثال، مثلما نجد في قوله: 2 اللي يبني بالحجر ما شي بحال اللي ينقش به اللي يسمّر العوْد ما شي بحال اللي يتبورد به اللي يزرع كلامو بذاتو يرويه ماشي بحال اللي شد كلام الناس ويعاود فيه وهو مقطع دال ينساب كنهر متدفق، حيث لا حواجز أو محطات وقوف، مما يتيح للشاعر أن يوسع دائرة اشتغاله الذاتي والموضوعاتي وبما يغذي أفقه الشعري عبر اللغة والواقع والحلم والخيال. اشتغال يروم تحصين الذات الشاعرة من تداعيات قلقها الوجودي وبالتالي الإنصات إلى نبضها المتفرد. ولما كانت الذات حاضرة بقوة في منجز الشاعر الزجلي، كسؤال وهوية، فقد خصها بعناية شعرية سواء في علاقة هذه الذات بذاتها، حيث معالم الوحدة والغربة والبحث عن الأمن والأمان. يقول الشاعر: 3 جيتكم كتفي عريان دفوني منكم طالب لحمية، لا تلوموني رانا غير مسيح ديَّعني الن... شاط لخرين سلامهم ركلة بالسباط جايكم هربان بالمحبة نخبي منها ماشاط راني نبت في دكالة وتقولبت في الرباط أو في علاقة هذه الذات بالآخر من حولها، حيث المعاناة والشعور بالغربة أحيانا لا يجد معها الشاعر سوى الفرار إلى ما ينقد وحدته ويخفف من وطأة متاعبه ورتابة أيامه. ولا غرابة، أن تمتد الشكوى إلى الزمان وتلقي بظلالها على مسار الشاعر. يقول في موضع آخر: 4 خليني يا زماني ندير عقل خليني نخبي جرحي ونكابر ما في ما يعاند أو يقتل مسامح من قتلني، له عاذر وخ الروح بدات مني تسل وليت جليد فوق لمجامر. وهكذا تتبدى الذات في صور متفاوتة في البوح والجرأة، والحرقة أيضا. كما يضاف إلى ما تقدم من تصوير حالة الشاعر في علاقته بالزمان ما رسمه أيضا، من معالم الغربة والقهر وسط المدينة التي حل بها ذات استقرار، كمكان فقد طعمه ومذاقه إذ تحول إلى فضاء للقبح والمعاناة، وفي ذلك قوله: 5 عشقي م الواد لهيه ف خلوة الريح تهدف فيها وتعدي وخلوتك ورا الواد تنَجْ الحكمة وتسدي خلي بالك ف الخلوة را المدينة تدي وتودي.. فيها الروح ف لفيترينا فيها الحلم ولى يراوغ فيها الإنسان بهت اكشف لونو، ولى بياسا في مكينة إن الشاعر، بواسطة اللغة وما تمنحه من إمكانيات الحلم والتخيل يتلبس المدينة، ينطق بلسانها ويتوحد بعوالمها حزنا وفرحا، يأسا وأملا. فالمدينة وناسُها في تصور الشاعر مدينة التحول والأسرار والمتناقضات. الأمر الذي يبرر استمرار الشاعر في غير ما قصيدة في نداءاته وتنبيهاته قصد العبرة والتأمل وأخذ الحيطة والحذر. يقول: اللي ركب دابا ينزل واللي اسمن دابا يهزل لاباس لاباس لا مقدم لا عساس لا تعظم امَّالين الجاه الرزق ضامنو ونْتَ مولاه خَيِّي لا تكون حرّان العود الحران ما يدير مزية شوف أش بعَّدْ شفري من عينيّا وكما تحضر الذات في قصائد أحمد لمسيح تحضر صور المرأة والطبيعة والطفولة والذاكرة وما إليها، في مواطن متعددة وبنفس شعري متنام ومتجدد يشكل في نهاية المطاف مشروع حياة مكتملة المعالم تختزل المعنى وتحوله جماليا. ويمكن اعتبار ديوانه الأخير «كلام آخر»، رهانا جديدا يعكس طلب الشاعر للمغايرة والتجاوز من خلال رصد تفاعله مع تحولات الشعرية العربية المعاصرة. ولعل ما يجسد هذا المنحى التجديدي انشغاله بموضوعة الموت في أبعادها الدينية والفلسفية وتقديمه لها شعريا عبر أسئلة وجودية يؤثثها الخيال، كما في قصيدة (إيلا مات كلنا نموتو) حيث الموت يوحد الذوات وحيث الموت ضرورة لتحيا الكتابة. يقول: 6 مُتْ أصاحْبي موووووت مُت - يحيا الحرف في حياتو نبْقى ارحل أو نرحل. ومن ثمة يصبح للموت عبر الاستعارة واللغة والخيال أكثر من دلالة على الصمت والرحيل والإنصات والتأمل أيضا. يقول الشاعر: 7 الصَّمت نغمة مستورة بعيدة إيلا الحرف كتم سَرّو وبهذا المعنى يصير الصمت حكمة وبلاغة، بل هو صمت ضد الفراغ وبياض ممتلئ أو قابل للامتلاء باختراقه للمعنى واستشرافه للمحتمل والمجهول. يقول: 8 اكتب.. اكتب اكتب بْلا ما تحسب شوف الزمان- الوهم هو حسابو بغيت نموت عملت ما دارو الأولين ما لقيت جواب لقد تنوعت موضوعات الشاعر من حيث التناول والعمق، فجاءت قصائده مفعمة بالمرارة والحزن تارة وبالحياة والفرح تارة أخرى. كما تباينت من حيث البناء والإيقاع واللغة، استحضر خلالها ما توافر من مرجعيات معرفية وثقافية وفنية. فالموسيقى والأمثال والحكايات والموروث الديني والشعبي بشكل عام، وكذا مظاهر السخرية والنقد والمساءلة، كل ذلك وغيره تخلل، بنسب متفاوتة، منجزه الزجلي. هكذا لم تكن القصيدة الزجلية عند أحمد لمسيح ترفا كلاميا وإنما مشروعا جماليا في الكتابة يتغيا تطوير القصيدة الزجلية الحديثة في ضوء التحولات التي يعرفها الشعر العربي عموما، إضافة إلى البعد التجريبي الذي ركبه الشاعر منذ سنوات تبلور بالملموس في إصداره الأخير «كلام آخر» بما هو انتصار للمغايرة والاختلاف عما سبق أن دبجه في دواوينه السابقة، حيث النغمة الإنشادية والنزعة الإيقاعية والمرجعية التراثية. كلام آخر طرز جديد في الكتابة، دم جديد يجري في شرايين القصيدة وفق اختيارات فنية تروم مساءلة الذات الشاعرة في علاقتها بالوجود والموت والحياة، كما تروم اكتشاف علاقة الشاعر بالشعر والكتابة. يقول الشاعر: 9 بْديتْ حياتي ف الكلامْ بْ «الغول وهاينة» ونقفل بْحورْها ب ْ «الموت وحدة كاينة» إنها اختزال لمسار حياة في الكتابة، ومساحة زمنية تختصر عمق البداية وأفق النهاية، بما فيها من أحلام وآلام ورغبات وانكسارات تؤثثها لغة شعرية مدهشة تمتح من مجالات متعددة منها الأثر الصوفي في تجلياته المختلفة. ومن ثمة، لا غرابة أن تتبوأ القصيدة مكانة رفيعة وتصير تبعا لذلك سيدة المقام. يقول الشاعر: 10 يا لالة القصيدة ماني ساخي بيك ولعلنا أيضا، قراء وعشاق القصيدة الزجلية، من خلال تجربة الشاعر أحمد لمسيح ما زلنا في حاجة للإنصات إليها وتأمل مقترحها الشعري، لغة وبناء ودلالة. 1 - شكون طرز الما. ص 8 2 - شكون طرز الما. ص41 3 - شكون طرز الما. ص35 4 - ظل الروح . ص 73 5 - شكون طرز الما. ص 49 6 - كلام آخر. ص 53 7 - كلام آخر. ص 98 8 - كلام آخر. ص 100 9 - كلام آخر. ص 94 10 - كلام آخر. ص 78