شكلت الكتابة الزجلية في المغرب علامة مضيئة في مشهدنا الشعري، وذلك بالنظر إلى توالي الإصدارات وتداولها هنا وهناك، يقتفي خلالها الشاعر الزجال أثر الذات ظاهرها ومضمرها، حينا، ويجلو حاضر المجتمع، واقعه ومتخيله، حينا آخر، عبر لغة قريبة من فكره ووجدانه هي اللغة العامية. ولأن اختيار الشاعر لهذه اللغة وانحيازه إليها عن سبق إصرار وإقرار، كوسيلة للتعبير والتبليغ، فقد أولاها عنايته الكبرى على مستوى النحت والصياغة والتركيب. ولنا في المشهد الشعري المغربي، أسماء كثيرة قدمت خدمة جلى للثقافة الشعبية عموما ومنها الكتابة الزجلية تحديدا، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، أسماء كل من الشعراء أحمد لمسيح، مراد القادري، محمد الراشق، إدريس المسناوي، محمد الباكي، عبد الرحمان الجباري، احميدة بلبالي، فاطمة الزرييق.. وآخرون. وهي أسماء متفاوتة التجارب متباينة المرجعيات؛ غير أنها تلتقي، بصورة أو بأخرى، في حسن استثمارها للغة العامية في بعديها البسيط والمركب، وفي استحضارها للرغبة في صوغ العالم وبناء متخيلها الشعري الخاص. فماذا عن هذه التجارب الشعرية؟ وما طبيعة القضايا التي روج لها أصحابها؟ وهل ثمة ما يجعل أداها اللغوي حاضرا بكل حمولته الثقافية العامية، ذاكرة وذائقة فنية؟ لعل إطلالة سريعة في جملة العناوين التي اختارها الزجالون المغاربة عناوين لدواوينهم الشعرية، تطلعنا على نوعية الموضوعات التي انشغلوا بها، وشكلت مجالا خصبا لتجسيد أفقهم الشعري. من هذه العناوين نجد: (شكون طرز الما، حال واحوال، توحشت راسي، خيال لما، حروف الكف، غزيل لبنات، طير الله، مكسور الجناح، الزطمة على الما، لهبال، لعجب، عروشة، لسان الجمر، مجاج الريح، مح البال، مجنون هشومة،، وغيرَها) دونما الحديث، طبعا، عن عناوين القصائد أو المقطوعات داخل المجموعة الشعرية الواحدة، وكلها عناوين دالة وموحية بالضرورة إلى أسيقتها التاريخية والأدبية والرمزية، على حد سواء. وتبعا لذلك، ونحن نستعرض بالقراءة والتحليل جملة من النصوص الزجلية المغربية، نعثر على جوانب إنسانية وجمالية مشتركة بين الشعراء قوامها السفر في الذات وفي الذاكرة والمجتمع. تارة بنفس الرقة والتفاؤل وتارة أخرى بذات اليأس والتشاؤم. وبين هذا السفر أو ذاك خيط رفيع يعبق بالحكمة والأمثال، مثلما نجد في أشعار أحمد لمسيح التي تنساب كنهر متدفق لا يتوقف عن السيلان، فلا حواجز ولا علامات أو محطات وقوف: (شكون طرز الما ص41) اللي يبني بالحجر/ ما شي بحال اللي ينقش به/ اللي يسمّر العوْد/ ما شي بحال اللي يتبورد به/ اللي يزرع كلامو/ بذاتو يرويه/ ماشي بحال اللي شد كلام الناس/ ويعاود فيه أو صورة رمزية تختزل القلق الإنساني، وتسبر أغوار الدواخل في تداعياتها بين الرفض والقبول وبين الفعل وردة الفعل، مثلما نجد في تساؤل عميق لمحمد الراشق، حيث يقول: (مكسور الجناح ص16) وكلامك مرة نجمة مرة رعود/ وفين تهرب؟/ واش دخول الحرف بحال خروجو؟ أو في تمثل دال لمراد القادري من قصيدته «الجرح» بإيحاءاته البعيدة، حيث: (طير الله ص12) راه الجرح فيه.. وفيه/ الجرح البراني/ تحت الفاصما تخبيه/ والجرح الداخلاني/ الجرح الداخلاني/ آش تدير ليه..؟ ولما كانت موضوعة الذات حاضرة بقوة في المتن الزجلي، كسؤال وهوية، فقد أولاها الشعراء عناية خاصة سواء في علاقة هذه الذات بذاتها من جهة، أو بالآخر من حولها، من جهة ثانية. ومن ثمة تبدت في صور متفاوتة في البوح والجرأة والحرقة أيضا. فهذا لمسيح يشكو الزمان، إذ يقول: (ظل الروح ص73) خليني يا زماني ندير عقل/ خليني نخبي جرحي ونكابر/ ما في ما يعاند أو يقتل/ مسامح من قتلني، له عاذر/ وخ الروح بدات مني تسل/ وليت جليد فوق لمجامر. وهذا محمد الباكي يشكو خوفه وهمه حين يقول: (لعجب ص66) يا صاح الحال ظلمه/ شدتني رعشة من كثرة الخوف/ مرضت سكنتني حمة/ شوف حالي وليت مسكوف/ يا خليلي قول كلمه/ رشدني دير معروف. وذاك الشاعر احميدة بلبالي تسبقه تنهيدته فلا يجد غير الدموع تعبيرا وتطهيرا، يقول: (لسان الجمر ص35) سبقتني تنهيدة/ العافية جعرت/ ف صدري تنهش/ الخوف منها كبلني/ ما لقيت غير دموع/ حارة تحكي.. وكما تحضر الذات بأسئلتها القلقة ومواجعها المتفرقة، في ظل واقع متقلب وغامض، يحضر الجسد في ارتباطه المادي والمعنوي بالروح، وما ينتج عن هذا الترابط من اتصال أحيانا ومن فرقة وانفصال أحيانا أخر. يقول إدريس المسناوي في مقطع من ديوان (ا ل جسد ص47): روح داخلة فالروح/ فتاح لرحام/ رزاق لحلام/ ألف لام جسد/ تشهاني كلام../ شهاني ف سلام/ حتى كلاني السلام. أما مراد القادري فيتحدث عن شهوة الجسد قائلا على لسان الأنثى تحديدا (غزيل لبنات ص56-57): شهوتي/ قالت العاتق/ يسهرني فالليل/ يشري لي شربيل/ لبه.. د الجوهر/ يفيقني ف الظهر/ وبلا مناسبة/ يخيط لي جلابة/ بيت النعاس.. ويكون/ م الريش النعامة/ باش لمنامة إيلا جات، تجي كولور/ وإيلا فقت يعطيني بوجور. وما يقال عن الجسد، يقال أيضا عن تلك الحواس التي يتشكل منها، حيث العين والأذن واللسان، هذا العضو الأخير الذي تناوبت أقلام الشعراء في الحديث عنه من جوانب مختلفة اختلفت باختلاف الرؤى والغايات. تقول الزهراء الزرييق في مقطع وصفي له: (مجمع الكلام ص119) قالوا اللسان ما فيه عظم/ لكن فيه دم ولحم/ ولون حمر علامة الجمر/ القادية في نفوخ ومجمر تطيّب الكلام اللي باقي خضر.. ويقول محمد الباكي، في سياق آخر، محذرا منه: (لعجب ص26) اللسان نعمة ونقايم/ يسهل الطلوع وسبب فالنزول/ اللسان سيف يا هل لكرايم/ على رقبت مولاه محمول. وبهذا السيف ذي الحدين، يجهر الشعراء بفضح الواقع من خلال رصد تفاصيله وجزئياته ورسم شخوصه وأبطاله، الواقعيين والافتراضيين منهم، على حد سواء. ولأن الشعر إحساس بالذات والعالم ومساءلة للواقع؛ فإن حضور القضايا الإنسانية والاجتماعية بقوة داخل المتن الشعري يعكس طبيعة الصلة التي تربط بين الشاعر ومحيطه. قضايا تكشف هشاشة الواقع وأزماته المتتالية. فهذا محمد الراشق يصور حالة العربي في عزوفه عن القراءة والكتاب مما تسبب في تأخره عن زمن العولمة. يقول: (مكسور الجناح ص29) الغربي يقرا في الدار/ يقرا في الطوبيس/ ويلا ولات حتى ف «لكنايف»/ والعربي يخاف من البوليس/ وما يحشم من لا ماليف/ الغربي يعظم كتّابو/ والعربي ضيع كتابو/ تبقى طريقو مظلامة.. وهذا محمد الباكي، مرة أخرى، مثل زميله عبد الرحمان الجباري الذي خصصناه بدراسة مستقلة، يرصد بعض العلل والأمراض الاجتماعية التي طفت فوق سطح العلاقات البشرية من نفاق وخداع ونميمة وما شابه، معها فقدت الكلمة رنتها وما عاد يجدي الحرف ولا الوعيد، حيث لا كرامة يوم العيد. يقول: (لعجب ص33) يكرمو البعيد/ أما القريب إلى شاطو شي عظوما/ هذا ما قال سعيد/ عادة ورثناها ناس هاد الحومه/ كلامهم يضر ما يفيد/ إلى حضروا اللمة ما تبقى ملمومه/ شي يحطم وشي يشعل لوقيد/ لسون مسمومة ملغومه/ نسكت ولا نزيد/ المعنى واقيلا مفهومه وبين هذا التعبير أو ذاك يواصل الشاعر الزجال رفضه وامتعاضه من زمن طغى فيه الإنسان وتجبر وصار كل يغني على ليلاه دونما اكتراث للقيم والشيم. يقول احميدة بلبالي: (لسان الجمر ص29-30) قلت كلها يغني بغناه/ أنا غناي على زمان/ العز فيه شامخ/ ناكر زمان لعْهر/ الحُكّان على الدبر/ ولهيب الجمر/ الصبر شحال دبر/ والحالة حالة/ با المدينة تدي وتودي/ حال اللي كل شي خامر.. يضاف إلى ما تقدم من تصوير حالة الشاعر في علاقته بالزمان ما رسمه أيضا، من معالم الغربة والقهر وسط المدينة كمكان فقد طعمه ومذاقه إذ تحول إلى فضاء للقبح والمعاناة، وفي ذلك قول أحمد لمسيح: (شكون اطرز الما ص49) عشقي م الواد لهيه/ ف خلوة/ الريح تهدف فيها وتعدي/ وخلوتك ورا الواد/ تنج الحكمة وتسدي/ خلي بالك ف الخلوة/ را المدينة تدي وتودي../ فيها الروح ف لفيترينا/ فيها الحلم ولى يراوغ/ فيها الإنسان بهت/ اكشف لونو، ولى بياسا في مكينة وهكذا حين تتوه الذات في متاهات الزمان والمكان تؤوب إلى الحلم تارة ليصبح زادها وإلى الذاكرة تارة أخرى، عساها تخفف من عبء اللحظة وثقلها في محاولة لمقاومة الصمت والنسيان. يقول مراد القادري: (طير الله ص29-30) ف الباب/ وأنت طالع/ ف طريقك للجامع/ غادي تلقى زوج دمعات/ هادوك ديالي يوم سقط ف الباكالوريا/ خليهم ف حالهم/ ف العزلة ديالهم/ وايلا مدو ليك اليد/ حييهم/ هادوك هما: أنا غير أن هذا الماضي سرعان ما ينقلب عليه الشاعر إذا كان ماضيا بلا مستقبل أو بلا دم يجدد معاني القصيدة ويحييها. فالقصيدة بحاجة إلى من يفك أسرارها ويسبر أغوارها بغير قليل من المعاناة والمعاندة بما يبرر وجودها الشعري. أو ليست الكتابة جهادا؟ كما عبر عن ذلك أحمد لمسيح ذات حوار. إن الشاعر وهو يروم الذاتي واليومي لا يمل نداء المحبة والحرية والخير والجمال، من أجل غد أفضل وأرحب. لقد تنوعت موضوعات الشعراء الزجالين المغاربة من حيث التناول والعمق، فجاءت قصائدهم مفعمة بالمرارة والحزن حينا وبالحياة والفرح تارة أخرى. كما تباينت من حيث البناء والإيقاع واللغة، استحضر خلالها الشعراء ما تجمع لديهم أو توافر من مرجعيات معرفية وثقافية وفنية. فالموسيقى والأمثال والحكايات والموروث الديني والشعبي بشكل عام، وكذا مظاهر السخرية والنقد والمساءلة، كل ذلك وغيره تخلل مجمل النماذج الشعرية المدروسة وإن بحصص متفاوتة. فقد وجدنا نصوصا ومقاطع كثيرة حفلت بالصور الشعرية وبالمحسنات البلاغية دون أن تهمل تنويع الأشكال الإيقاعية، وزنا وقافية، بما يضفي على القصيدة حركية ودينامية. ولعل النماذج في هذا السياق كثيرة ومسعفة نكتفي منها بمقطع أخير نختم به هذه المداخلة، لمحمد الراشق حين يقول في تألم وحسرة لا تخلو من سخرية لاذعة: (مكسور الجناح ص78-79) يا صاح الحقد فاح/ الحب راح/ المجروح ناح/ ومع هاذ لرياح/ شكون يرتاح؟/ ارتح انت/ إيلا لقيتي راحة/ محالش تلقاها؟/ ويلا لقيتيها وبعت وشريتيها/ وهديتيها حاحة وملاحة/ يمكن تلقاها/ لكن فبيت الراحة/ يا صاحبي ارتاح/ بالصحة والراحة... هكذا بالكلمة المعبرة، وبما تمنحه الكتابة من إمكانيات هائلة للتعبير والتغيير، استطاع الشاعر، وبلغة عامية عالية تقترب من الشعر ومن الحياة، إذ تنفتح على اليومي والهامشي كما الحلم والخيال، أن يرسم هوية جديدة للقصيدة الزجلية، ويرمم ما تصدع في أسوار الذات والذاكرة المغربية. إحالات: 1- نص المداخلة التي قدمت خلال الملتقى الثاني لقصيدة الزجل، نظمه كل من جمعية المبادرة للتنمية الثقافية وإنعاش التراث والملحقة الإقليمية للثقافة بالعرائش، يومي 3-4 دجنبر 2010 بالمعهد الموسيقي بالعرائش 2- ما بين القوسين أرقام الصفحات المثبتة في الديوان.