مدن الشمال تستعد لإستقبال جلالة الملك    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر    النصيري يسجل من جديد ويساهم في تأهل فنربخشه إلى ثمن نهائي الدوري الأوروبي    الحسيمة.. تفكيك شبكة إجرامية متورطة في تنظيم الهجرة السرية والاتجار بالبشر    القضاء يرفض تأسيس "حزب التجديد والتقدم" لمخالفته قانون الأحزاب    إطلاق تقرير"الرقمنة 2025″ في المنتدى السعودي للإعلام    الاقتصاد السوري يحتاج إلى نصف قرن لاستعادة عافيته بعد الحرب التي دمرته    شي جين بينغ يؤكد على آفاق واعدة لتنمية القطاع الخاص خلال ندوة حول الشركات الخاصة    عامل إقليم الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبا عاما جديدا للعمالة    مضمار "دونور".. كلايبي يوضح:"المضمار الذي سيحيط بالملعب سيكون باللون الأزرق"    الجيش يطرح تذاكر مباراة "الكلاسيكو" أمام الرجاء    إطلاق المرصد المكسيكي للصحراء المغربية بمكسيكو    كيوسك الجمعة | المؤتمر الوزاري العالمي الرابع للسلامة الطرقية يفي بجميع وعوده    باخرة البحث العلمي البحري بالحسيمة تعثر على جثة شاب من الدار البيضاء    المندوبية السامية للتخطيط تعلن عن ارتفاع في كلفة المعيشة مع مطلع هذا العام    انتخاب المغرب رئيسا لمنتدى رؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية    تراجع احتمالات اصطدام كويكب بالأرض في 2032 إلى النصف    نتنياهو يأمر بشن عملية بالضفة الغربية    إطلاق أول رحلة جوية بين المغرب وأوروبا باستخدام وقود مستدام    المغرب يحافظ على مكانته العالمية ويكرس تفوقه على الدول المغاربية في مؤشر القوة الناعمة    توقعات أحوال الطقس ليومه الجمعة    إسرائيل تتهم حماس باستبدال جثة شيري بيباس وبقتل طفليها ونتانياهو يتعهد "التحرك بحزم"    فضاء: المسبار الصيني "تيانون-2" سيتم اطلاقه في النصف الأول من 2025 (هيئة)    الولايات المتحدة تبرم صفقات تسليح استراتيجية مع المغرب    عامل إقليم الجديدة و مستشار الملك أندري أزولاي في زيارة رسمية للحي البرتغالي    كيف ستغير تقنية 5G تكنولوجيا المستقبل في عام 2025: آفاق رئيسية    محامون: "ثقافة" الاعتقال الاحتياطي تجهض مكتسبات "المسطرة الجنائية"    حوار مع "شات جيبيتي" .. هل تكون قرطبة الأرجنتينية هي الأصل؟    "بيت الشعر" يقدّم 18 منشورا جديدا    أوشلا: الزعيم مطالب بالمكر الكروي لعبور عقبة بيراميدز -فيديو-    تطوان تستعد لاستقبال الملك محمد السادس وسط إجراءات مكثفة    حادثة سير مميتة على الطريق الوطنية بين طنجة وتطوان    "مطالب 2011" تحيي الذكرى الرابعة عشرة ل"حركة 20 فبراير" المغربية    "حماس" تنتقد ازدواجية الصليب الأحمر في التعامل مع جثامين الأسرى الإسرائيليين    طه المنصوري رئيس العصبة الوطنية للكرة المتنوعة والإسباني غوميز يطلقان من مالقا أول نسخة لكأس أبطال المغرب وإسبانيا في الكرة الشاطئية    سفيان بوفال وقع على لقاء رائع ضد اياكس امستردام    السلطات تحبط محاولة نواب أوربيين موالين للبوليساريو دخول العيون    جمعية بيت المبدع تستضيف الكاتبة والإعلامية اسمهان عمور    الجيش الملكي يواجه بيراميدز المصري    أهمية الحفاظ على التراث وتثمينه في صلب الاحتفال بالذكرى ال20 لإدراج "مازاغان" ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو    مجموعة أكديطال تعزز شبكتها الصحية بالاستحواذ على مصحة العيون ومركز الحكمة الطبي    حكومة أخنوش تتعهد بضمان تموين الأسواق بجدية خلال رمضان    محكمة إسبانية تغرّم لويس روبياليس في "قبلة المونديال"    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    غشت المقبل آخر موعد لاستلام الأعمال المشاركة في المسابقة الدولية ل "فن الخط العربي"    ثغرات المهرجانات والمعارض والأسابيع الثقافية بتاوريرت تدعو إلى التفكير في تجاوزها مستقبلا    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    إطلاق النسخة التاسعة للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    سينما المغرب في مهرجان برلين    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلام آخر: الكتابة تفكر في ذاتها
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 02 - 2012


1. إضاءة منهجية
يَفتَحُ مَسارُ الشاعر أحمد لمسيح الكِتابي مَسْلكاً قِرائيّاً واعِداً مِن الناحية المنهجيَّة، إلاّ أنّه لا يَزالُ مُؤجَّلاً مِنَ الزاوية الإجرائيَّة. يَتَعلَّقُ هذا المَسْلكُ، أساساً، بمُقارَبةِ تفاعُلِ المُنجَز النَّصّي للشاعر، منذ سبعينياتِ القرن الماضي، مع القصيدة العربية والمغربية المُعاصرة مِن موقِعِ الوَعْي الشِّعْريِّ بمُختَلفِ تَحَقُّقاتِهِ البنائيَّة، على نحْوٍ يَسْمَحُ باستِجْلاءِ الاختلافِ في مُنْجَز الشاعر مِنْ داخِلِ هذا التفاعُل، لا مِن خارجه.
تَفاعُلٌ يكشِفُ حَيَويَّة المُمارَسَةِ النّصّيَّة عند أحمد لمسيح وإضْمارَ عناصِرها البنائيَّة للتحوّلاتِ التي شهِدَها الشِّعْرُ العربي والمغربي المُعاصِرَيْن على امْتِدادِ العُقودِ الأرْبَعَةِ الأخيرَة. فالأفُقُ الذي رَسَمَهُ أحمد لمسيح لِتجْربَتِهِ مُرْتبطٌ، على نحْوٍ رئيسٍ، بالتصوُّر الشِّعْريِّ الذي يُوجِّهُ اشتِغالَهُ على العامية العربيَّة التي ارتضاها مادّةً لكتابَتِه. وهو ما يتعيَّنُ استثمارُهُ قرائيّاً، لئلاّ تحْجُبَ مادّةُ الكتابةِ الخلفيةَ الشِّعْريَّةََ الثاوية في الاشتغال النصّي. فما أنْجَزَهُ الشاعرُ لِمادّةِ الكتابة وبها لا يتكشّفُ إلاّ باسْتِحْضار الوَعْي الشِّعْريِّ المُوجِّهِ للإنْجاز، واسْتِحْضارِعناصِر التحَوُّل الذي شهِدَهُ هذا الوَعْيُ في المَسار الكِتابي لأحمد لمسيح.
يُمْكِنُ لِوجْهَةِ هذا المَسْلكِ القِرائيِّ، مَتى تَسَنّى زَمَنُ شَقِّه، أنْ تُتيحَ مُقارَبَة تَجْربةِ الشاعر أحمد لمسيح في ضَوْءِ أسْئِلةِ الشِّعْر العربي والمغربي المُعاصِرَيْن، لأنَّ الاحتكامَ إلى الوَعْي الشِّعْريِّ، انطلاقاً مِنْ تَجَلّياتِهِ النَّصيَّة، إبدالٌ تأويليٌّ مُضيءٌ للاختِلافِ عبْرَ التفاعُل وفي التفاعُل، انسِجاماً مع هُويَّةِ الشِّعْر المَبْنِيَّة على الاختِلاف وعلى تعدُّدِ صِيَغِ تحقُّقِها.
فالمُصاحِبُ لِتَجْربةِ أحمد لمسيح يَعْثُرُ في بدايَتِها على التداخُلِ بيْن السياسيِّ والشعْريِّ، الذي وَسَمَ انطلاقة الشِّعْر السَّبْعينيّ، ويَعْثُرُ، بَعْدَ اتّساعِ المَرْجعيَّةِ الشِّعْريَّة لأحمد لمسيح، على التحقّقاتِ النصّيَّة للعُبور مِن هَيْمَنةِ الأوَّلِ إلى الاحْتِمالاتِ المفتوحَةِ للثاني، على غِرار ما تَحَقَّقَ لِشُعَراء الفَصيح من جيل الشاعر.
بهذا العُبور كانَ مُنْجَزُ أحمد لمسيح يُوَسِّعُ مَرْجعيَّتَهُ وتَصَوُّرَهُ الشِّعْريَّيْن، بما أتاحَ للشاعر بناءَ خطابٍ يُمَجِّدُ الحُلم والخيال، ويُغذّي الكتابة بالنصوص لا بالوقائع، ضِمْن تداخُلٍ نصّيٍّ مُتعدِّدِ الرَّوافد. فقد كانَ لِكِتابةِ أحمد لمسيح، في سياق التداخُل النّصّي، نَصيبُها الحيويُّ مِنْ رَوافدَ ثقافيَّةٍ عديدَة؛ في مُقدِّمَتِها الرّافدُ الصوفي الذي اختَرَقَ، بخلفياتٍ مُتباينة، تجاربَ مِنَ الشِّعْر العربيِّ المُعاصر.
كانت مُحاوَرَةُ الشاعر أحمد لمسيح لِهذا الرَّافِدِ عنصراً بنائياً لافتاَ في كتابَتِه، وهو عُنْصُرٌ ما زالَ ينتظِرُ تآويلَ تُنصِتُ له وتَسْتَجْلي وظائِفَهُ النصيَّة والدلاليَّة. فقد حَرَّرَ الشاعرُ النزوعَ الصوفي في كِتابَتِهِ من الخلفية الدينيَّة، واستثمَرَهُ في تَعْميقِ المَعْنَى، وفي اسْتِغْوار الذات لمّا تنبّهَ الوعْيُ الشعري عند أحمد لمسيح للقضايا الوجودية المُتولِّدَة مِنْ هذا الاسْتِغوار، ولاسيما بالنسبة إلى ذاتٍ تَحِنُّ إلى أعماقِها كما هو مُبطَّنٌ في عبارة «توحشت راسي». وإلى جانب ذلك، أدْمَجَ الشاعرُ هذا الرَّافدَ في بناءِ مُتخيَّلِ مُنجَزهِ، فتسنَّى للخيال أنْ يَقتاتَ من المُحْتَمَل الصوفي ومِنْ كثافةِ الصُّوَر والذاكِرَةِ السَّحيقةِ لِلكلِمات، ومِن مُمْكِن ما يُسمّيه ديوان «كلام آخْر» بدَمْ العنْبَة، على نحوٍ جَعَلَ التواشُجَ بيْنَ عناصِر الخيال مُحتكِماً إلى تجربةِ الكتابة بما هي تجربَة حياة، بعيداً عَنْ كلِّ حُدودٍ قبْليّة.
وبالجُمْلة، فإنَّ المَسْلكَ القِرائيَّ المُشار إليه يَسْمَحُ برَسْمِ خُطاطَتِهِ الأوّليّة انطلاقاً مِنْ مَنْحَيَيْن. مَنْحى عَمودِيّ، يقترنُ باشتِغالِ أحمد لمسيح على مادّةِ الكِتابَة واسْتِثمار مَخْزونِها التخييلي وتَغْذِيَتِه بمَعْرفةٍ شِعْريَّةٍ تفصِلُ هذه المادّة عن بُعْدِها التداوُلي اليَوْمِيِّ وتَبْنِي شِعْريَّتَها عبْرَ عناصِرَ نصّيّة. ومَنْحى أفقي، يَقترنُ بإنصاتِ الشاعر لأسئلةِ الشِّعْر العربيِّ والمغربيِّ المُعاصِرَيْن وبتفاعُلِهِ معها في اشتغالِهِ على مادّةِ الكتابة، أي الاشتغال المُوجِّه للمَنْحى العَمودِيّ. ذلك أنَّ المَنْحيَيْن مُتداخِلان في تجربَتِه.
2. «كلام آخْر» أو الكتابة وهي تُفكِّرُ
في ذاتِها
اِستِناداً إلى الإشارةِ المَنْهَجيَّة الخاصّة بأحَدِ مَسالِكِ قِراءَةِ المسار الكِتابي للشاعر أحمد لمسيح وتجاوُباً مع إمكانٍ مِنْ إمكاناتِها العديدة، يُمْكِنُ تأمُّل ديوانه الأخير «كلام آخْر» مِن مَوْقِعِ تَحَقُّقِ الفِعْلِ الكِتابي وهو يُفكِّرُ في ذاتِه مِنْ داخل الإنجاز. ومعلومٌ أنّ هذا الرِّهانَ سارٍ في المُمارساتِ النّصيّة منذ القديم، إلاّ أنّه شَهدَ في الكتابة الحديثة وفي الشِّعْر العربيِّ المُعاصِر تجلياتٍ عديدَةً، تحصّلتْ مِمّا عَرَفتْهُ نظرياتُ الكتابة من إبدال، ومِمّا طرَأ على البناء النصي مِنْ تغيُّرات. وقد سَمَحَ هذا الرّهانُ الكِتابي للتأويل بمُصاحَبَةِ المُتَحَقِّق نصيّاً في علاقتِهِ بالمُبْتَغى تَصوّراً.
إلى هذا الرِّهانِ الكِتابيِّ يَنْتَمي ديوان «كلام آخْر». ذلك أنَّ المَعْنَى فيه ينْبَني، في سياقاتٍ عديدة، لا فقط بالكتابة، وإنّما عنْها أيضاً، بغايةٍ تتجاوَزُ، في الغالب العامّ، بناءَ المَعْنَى إلى تحديدِ نَسَبِ المُمارَسَة النصّيَّة عند الشاعر أحمد لمسيح.
قبلَ اِخْتِبار مُصاحبةٍ أوّلية لِهذا الرِّهان ولِتفاعُلِهِ مَعَ الموت في الديوان، لابُدَّ من الإشارَةِ في البَدْء، تَنْصيصاً على الإضاءَةِ المَنْهجيَّة السابقة، إلى أنّ «كلام آخر» يُتيحُ مُقارَبَتَهُ مِنْ زاويتَيْن. الأولى، عَدُّهُ ترْسيخاً لإبْدالٍ كِتابيٍّ شَرَعَت في إرْسائِهِ الأعمالُ الأخيرةُ للشاعر أحمد لمسيح. ترسيخٌ تُضْمِرُهُ، على نحوٍ مّا، عِبارَةُ «كلام آخْر». فتسْمِية المجموعة الشِّعْريَّة ب «كلام آخْر» إدماجٌ لِعَتبَةِ العُنوان في التشديدِ على الإبْدال والتجْديد. ذلك أنَّ نَعْتَ «آخْر» لا تَفِي بحمولتِهِ الدلاليَّة كلِمَة «آخَر»، في العربية الفُصْحَى. وهو ما يَكشِفُ صعوبَة ترجَمَةِ العنوان إلى الفُصْحَى، إذ تَبْدو كلِمَةُ «آخَر» كما لو أنّها مُحايدَة، بخِلافِ كلِمَة «آخْر»، التي تتعدَّى بنَبْرَتِها مَعْنَى المُغايَرَة، مُحْتَفِظة بإضافةٍ تُحَقّقُها حمولةُ العامية. النعتُ، في تسميةِ الديوان، يُشيرُ إلى رهانٍ «آخْر» في الكِتابة، وإلى مَوْقِعٍ «آخْر» في إنتاج المعنى.
الزاوية الثانية، تَمَسُّ، على نحوِ ما هو مُومأ إليه أعْلاه، التفاعُلَ مع الشِّعْر المُعاصِر، بل مع الأدَب الحديث بوَجْهٍ عامّ مِنْ داخِلِ الاختلاف. وذلك بالإسْهامِ في إضاءَةِ منطقةِ الكتابة بالكتابة، التي جذبَت إلى متاهاتِها مُبْدِعين مِن حقولٍ مُختلِفة.
اِختارَ الشاعر أحمد لمسيح في «كلام آخْر» الموتَ بما هو سُؤالٌ وُجوديّ، ومَكَّنَهُ مِنْ تسْميةِ كلِّ قصائِدِ الديوان. وقدْ بَنى السياجَ الدّلالي لهذا السُّؤال عبْرَ إدْماجِ الحُلم والخيال، لا بوصْفِهما رافِدَيْن للتأمُّل وحَسْب، وإنّما بوصْفِهما أيضاً مَوْضوعَيْن له. بهذا الإدْماج تحوَّلَ الموتُ، الذي تلوَّنت دلالاتُهُ حَسَبَ سياقاتِ القصائد، إلى موقِعٍ لإنتاج المَعْنَى، وتحديداً مَعْنَى الكتابة.
إنتاجُ المَعْنَى مِنْ مَوْقِعِ الموت تهيَّأ بأدواتٍ تخييليّة مُتباينة؛ منها تجريدُ الشاعر أحمد لمسيح مِنْ ذاتِهِ، في قصيدة «إيلا مات كلنا نموتو»، ذاتاً أخرى في صُورَةِ قرينٍ لا تَسْتَقيمُ الكتابة إلاّ بمَوتِهِ، على نحو ما تَبَدَّى مِنْ لازمةِ القصيدة، التي جاء فيها: «أنا نكَول لك إيلا تعشق الكتابة موووووت». بهذا الأمْر القائِمِ على المَدِّ، يُصوِّرُ الشاعرُ الكتابة بما هي تحوُّلٌ في الذات. لابُدَّ مِنْ موتٍ كيْ تَحْيَا الكتابة. تحوُّلٌ يصوغُهُ أحمد لمسيح انطلاقاً من تأمّلٍ دالٍّ في الاسْم الشخصيِّ على نحوٍ مُخالِفٍ للتأمّل الذي تضمّنَتْهُ أعمالٌ سابقة للشاعِر، إذ يقول:
أنتَ همزة - نَصْ حرف
وأنا ألِف - نَصْ حرف
واحمد اللّي جامَعْنا نفرقوه ص.52
(....)
مُتْ أصاحْبي موووووت
مُت - يحيا الحرف
في حياتو نبْقى
ارحل أو نرحل.ص. 53
بهذا التحوُّل، يتحدَّدُ الموتُ بوصْفِه أيضاً منطقة بيْنِيّة. فيها يُصْبحُ الكاتبُ «كاين وما كاين، في البين بين عاتر» على حدِّ تعبير الشاعر، ص. 37. لذلك تَماهَى مَعْنَى الموت أحياناً، في «كلام آخْر»، بمَعْنَى الخيال القائمِ على انفصالٍ في الذاتِ لا خارجها. كما أتاحَ تَعدُّدُ مَعْنَى الموت، في هذه المجموعة الشِّعْريَّة، تَخْصيبَ إمكاناتِ هذا المَوْقِع في اسْتِجْلاءِ التصوُّر الذي تَبْنيهِ الكتابة عَنْ ذاتِها.
عناصِرُ هذا التصوُّر ضالِعَةُ الحُضور في المجموعةِ الشِّعْريَّة، تكشِفُ إنصاتَ أحمد لمسيح لِتجربَتِه وتَفاعُلَهُ مَعَ البناءِ النَّصّي والدلالي في الشِّعْر المُعاصر. وهكذا فإنّ تَحْديدَ هذا التصوّر ورَصْدَ آلياتِ تحقّقِهِ الكتابيِّ يُعَدَّان كوّةً تأويليَّة واعِدَةً نظريّاً، إلاّ أنَّ تفاصيلها تتجاوزُ مُمْكِنَ هذه الورقة التقديمية، مِما يُلزمُ بالتمثيل لها وحَسْب، انطلاقاً مِن وضعيّةِ الصَّمْت في الكتابة.
لِهَذِه الوضعيةِ وَجْهان على الأقلّ؛ وَجْهٌ بَيِّنٌ مِن نُقط الحَذفِ التي تَحَوَّلتْ، بتعبيرٍ مُسْتعارٍ من الشاعريّ يوري تينيانوف، إلى مُوازياتٍ للأبيات في كلِّ قصائد ديوان «كلام آخْر» بدون استثناء. أمّا الوجْهُ الثاني، فيُمْكِنُ الاقتِراب مِنْ بَعْض احْتِمالاتِهِ التأويليَّة بالإنصاتِ لقوْلِ الشاعر وهو يتأمَّلُ الكتابة:
الصَّمت نغمة مستورة
بعيدة
إيلا الحرف كتم سَرّو ص. 98
ألا يتعلَّقُ الأمْرُ، مِنْ حيثُ التصوّر الكتابي الثاوي وراء القوْل، بجَعْلِ الصَّمْتِ سارياً لا في ما لا يَقولُهُ الحَرْف وإنّما، أساساً، في ما يقوله؟ وهذِهِ خصيصة كتابيّة ذاتُ نَسَبٍ شِعْريٍّ مَكين. خصيصةُ أنْ يقولَ الحَرْفُ ما يَضْمَنُ للبَياضِ أنْ يَسْري في القوْلِ ذاتِه، وما يَمْنَعُ القولَ مِن الامْتلاء، لِيَسْعَدَ بحِصَّتِه مِنَ الفراغ. وهو ما يتجاوَبُ، في تأويلٍ بَعيد، مع اختِيار الشاعر الموتَ لإنتاجِ مَعْنَى الفِعْلِ الكِتابي. اِختيارٌ أمْلَى تضايُقاً بيْن وَجْهَيْ الصمت، أي بيْن نُقطِ الحَذف مِنْ جهَة، واحتفاظِ القوْل ببياضاتِه الداخليَّة، مِنْ جهَةٍ أخْرَى.
لمْ يَكُنْ هذا التصوُّر عن الكتابة، الذي تُرسيهِ القصائد، مُنفصِلاً عمّا تحقَّقَ كتابياً في «كلام آخْر»، بل إنّ التداخُل بين التصَوُّر والمُتحَقِّق نصّياً سَرَى في مفاصِلَ عديدَةٍ من المجموعة الشِّعْريّة. وكانت خلفية هذا التداخُل البعيدة، التي يَحْمِلُ المسارُ الكِتابي لأحمد لمسيح أثَرَها، هي تحْرير مادَّةِ الكتابة، أي العامية، مِنْ حمولتِها الشفوية، واسْتِنْباتِ حمولة كتابيةٍ لها، انطلاقاً مِن الوعْي بأنّ هذا الاستنباتَ رهانٌ شِعْريّ ونظريّ في آن.
وقدْ تَسَنَّى تَرْسيخُ النّسَبِ الكتابيّ، بما هو اشتِغالٌ شِعْريٌّ على مادَّةِ القوْل، في «كلام آخْر» انطِلاقاً مِن الآتي:
أ- انتِظام «كلام آخْر» وَفْقَ لُحْمَةٍ دلالية مُفكّر فيها، وهو ما اسْتقامَ لا مِنْ اعْتِمادِ الموتِ تيمةً للكتابة، وإنّما مِنْ اعْتِمادِهِ موْقِعاً لإنتاج الكتابة والتفكير فيها واسْتِنْباتِ عناصِر تَصوُّرٍ عنها.
ب- إنتاج المَعنَى بيْنَ اللزوم والتّعَدّي. ليس «كلام آخْر» خطاباً مُتعدّياً في كلأِّ تحقُّقاتِه، لأنّه يحتفِظُ للصَّمْتِ بسَريانٍ يَخترقُ المَعْنَى، مِمّا يَمْنَعُ الخطابَ مِنَ الإفصاحِ التّامّ عن إحالاتِه، انسِجاماً مع التصوُّر الكتابي الذي يُنْتِجُهُ «كلام آخْر» وهو يتحقَّقُ نصّيّاً، على نحو ما هو مومَأ إليه سابقاً. وقد أفصَحَ الشاعِرُ عن ذلك في قوْلِه:
فتّشت على الورقة
تخبّاتْ وْرا الشعا
ما بْغات البيّان - بْغات السّتّار
بْغات جذبة بلا صوت
ينبعْ البياض - لابْسة فيه الحروف
ج- اِنْبثاقُ ظِلالِ غُموضٍ في القصائد، تجاوُباً مع العُنْصُر السابق، مِمّا يجعلُ «كلام آخْر» مُتطلِّباً للقِراءةِ المُتأنّية. فالكتابة فيه لا تسْتسْلِمُ للاسْتِعْجال، بل تدْعو إلى التأمّل والمُصاحَبَة المُتكرِّرَة. وهو ما ينسَجِمُ مع اقتِران تصَوُّرها، في المجموعة الشِّعْريّة، بالمُكابدَة التي كانت أحَدَ الموَجِّهاتِ في اختيارَ الموت موقِعاً لِبناء الفِعْل الكتابي. والشاعرُ ذاتُه يَصِفُ الحَرْفَ في القصيدة الأخيرة بالعِصيان. ويكشِفُ، أبْعَدَ مِنْ ذلك، عن نَسَب كِتابَتِه، في قصيدة»الموت جرّبتها وفاتت فيَّ»، إلى ما تَرَسَّخَ في الشِّعْر المُعاصر، إذ عَدَّ الكتابة مَحْواً وتشطيباً وإعادَةَ كِتابةٍ لا تتوقّف. يقولُ بصَدَدِ ذلك:
اطْلِ الورقة بالخيال - ينوض الكلام
اطْو الليل
جيني حلمة
امْحِ
شطّبْ
انفض
سوس
انْسَ
غيّب. ص. 69
د- تَحوُّل مادَّة الكِتابة إلى لغةٍ وُسْطَى بيْن العامية والفصيحة، إذ يَبْدو «كلام آخْر»، في القراءَةِ الأولى، كما لوْ أنَّهُ كُتِبَ على حافّةِ العربيّةِ الفصيحة، إلاّ أنَّ المُصاحَبَة المُتأنّية له تُبْعِدُ هذا الزّعْم. فلا تلبَثُ أنْ تَكشِفَ أنّ التحوُّلَ الذي مَسَّ الكتابة عمَلٌ شِعْريّ أنْجِزَ مِنْ داخِلها، مِنْ غيْر التنازُل عنْ مُمْكِنِها بَعْدَ العبور به، انطلاقاً من اشتِغالٍ شعريّ، إلى تحقُّقٍ مِن التحقُّقاتِ المُحْتَمَلة لِمادَّةِ الكتابة. وهو المقصودُ، في الإشارة النظرية الأولى أعْلاه، بالوَعْي الشعري.
ه - حِرْص الشاعر على تَوْقيعِ كلٍّ قصائد «كلام آخْر» بعِباراتٍ مُفكّر فيها، إذ قبل الإشارة إلى تاريخ النص، كان أحمد لمسيح يُشيرُ إلى الانتِهاء من الكتابة بجُمَلٍ يَتَصَدَّرُها فِعْلٌ يُحيلُ على الحَقْل الدّلالي للموت (توقّف النص/ انسلّ/ توارَى/ ودّعْتُ/ شيَّعَني/ غادَرَني).
وبالجُملة، فإنَّ حيويّة «كلام آخْر» تكمُنُ أساساً في لعْبَةٍ كتابيَّةٍ بخلفيةٍ نظريّة. تجلّت هذه اللعْبة في التجاوُب بيْن التصوُّر الكتابي الذي يَبْني مَعْناه «كلام آخْر» وبيْن التحقُّق النصّي للكِتابة.
في السياق ذاتِه، أودُّ أنْ أختِم هذه الورقة، أو أنْ أفتَحها سيان، بمُمْكِن قرائيٍّ يُغْري به «كلام آخْر». يتعلَّقُ هذا المُمْكِن بأمْريْن (بالمعْنَى الصَّرْفِي للأمْر) لا فِتيْن في المجموعة الشِّعْريَّة. الأمْرُ الأوّل، يقول فيه الشاعر، كما سَبَقت الإشارة، «موووووت»، بمَدٍّ بَيِّنٍ. والثاني، يقول فيه: «اكتب../ اكتب/ اكتب بْلا ما تحسب».ص. 100. ثمّة صَدىً بعيدٌ يُسْمَعُ في الأمْرَيْن، تُسوِّغُهُ شريعَة القِراءَة. صَدى يَسْتدْعي حَديثيْن نبوييْن؛ جاء في الأوّل: «موتوا قبل أنْ تموتوا»، فيما الثاني يَرْبط الكتابة بالحساب على النحو الآتي: «نحنُ أمَّة لا تكتُبُ ولاتحسُب». لربّما تُتيحُ مُصاحَبَة الأمْريْن في ضَوْءِ الشاهِدَيْن مُقارَبة تداخلٍ نصّي خصيب، مُنفصِلٍ تماماً عَنْ كلِّ حمولةٍ دينيَّة. تداخلٌ نصّي قائمٌ على آليةِ التّحْويلِ والقلْبِ وإبْدالِ السياق. وهذا مَنفذ قرائيٌّ واعدٌ يتجاوَبُ مع المُضْمَر في الإضاءَةِ المنهجية التي بها صَدَّرْنا هذه الورقة التقديميَّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.