جدلية الداخل والخارج ومن سؤال الخاص إلى العام أسدل الستار مؤخرا على فعاليات الدورة الخامس عشرة للمهرجان الوطني للمسرح، بتتويج مسرحية «دموع بالكحل» بالجائزة الكبرى، إلى جانب جائزة أحسن نص، وأحسن سينوغرافيا، وأحسن ملابس، وأحسن تشخيص إناث. أعترف ومنذ البداية أن الكتابة عن عرض «دموع بالكحل»تبقى مغامرة غير محمودة العواقب، على اعتبار أنه واحد من التجارب التي تفرض عليك أكثر من مشاهدة حتى تمسك ببعض الخيوط التي قد تيسر لك غمار الكتابة. ولن أدعي أنني في هذه الالتفاتة سأحيط بالكثير من الجوانب الجمالية في العرض، بقدر ما ستكون قراءتي محكومة بشروطها الخاصة التي تتحكم فيها ظروف العرض والكتابة معا. استهلت المخرجة أسماء هوري عرضها بمشهد افتتاحي يشكل في اعتقادنا عتبة لقراءة العرض، فهو أشبه بعنوان فرعي اعتمدته المخرجة كبوابة تقحمنا من خلالها في عالم شخوصها وتيماتها. فأهميته تكمن في كونه أول المؤشرات التي تدخل في حوار مع المتلقي،فتثير فيه نوعا من الإغراءوالفضول (الجمالي)، وإليهما توكل مهمة نجاح العرض في إثارة استجابة الجمهور بالإقبال عليه واستحسانه..أو النفور منه واستهجانه..عبر مغادرة قاعة العرض كأقل رد فعل. ينفتح عرض « دموع بالكحل»على فضاءمغلق..يبدو أشبة بقبو..أربع شخصيات تتحركبهدوء.. تقوم بحركات تسخينية فردية كأنما هي مقبلة على معركة ما.. تصطف الواحد تلو الآخر في خط مواجه للجمهور.. لحظات صمت قاتلة.. وفي لحظة تنفجر الموسيقى ومعها تنفجر ثورة الشخوصفي محاولة للهروب خارج الفضاء.. لكنها تصطدم بالجدران.. تحاول أكثر من مرة.. وفي كل مرة يضيق الفضاء أكثر.. وكأن الحائط الأمامي يزحف نحوها ليبدو وكأنه يضيق عليها حتى لا يبقى لها مجال للحركة.. فينتهي بها الأمر إلى الانهيار الذي يشكل في الأصل نهاية مرحلة وبداية أخرى.. يشكل فيها الميكروفون جواز مرور من العالم الداخلي المغلق إلى الخارجي الأكثر رحابة.. فأسماء هوري ومنذ عرضها الأول بسيكوز أسست لعلاقة خاصة بالفضاء.. فهي ترهن في الغالب تحرر شخوصها من حالة الإحباط التي تعيشها بتحررها من الفضاء.. وحتى بالبوح.. فهي تربط في العادة بين مستويين من الفضاء.. الداخل/ الخارج.. فالبوح عندها يأخذ بعدا مكانيا حين ينتقل الإحساس من الداخل إلى الخارج.. ثنائية الصراع هذه.. واستحالة تحقق شرط الانعتاق بسبب الحيطان الصلبة والباردة.. يدفع شخوص أسماء هوري إلى البحث عن سبيل آخر لتحقق الشرط ولو مجازيا.. فيحضر الميكروفون كمعادل رمزي يفتح الداخل على الخارج.. فإذا كان الجسد وحركاته ليسا إلا وسيطا للتعبير عما يعتمر في داخل النفس الإنسانية.. فإن الميكروفون يأخذ دور الوسيط في نقل الشخوص من داخل الفضاء المغلق إلى الخارج الأرحب والأكثر اتساعا.. إن وحدة الفضاء ورغبة البوح.. تجمع شخصيات دموع بالكحلوتوحدها على قاعدة توحد الغاية.. والتي لا يمكن أن تتجسد إلا في البوح أولا والخروج من الفضاء المغلق والتحرر من ثقل المعاناة ثانيا.. واعتبارا لكن الخروج أضحى أمرا مستحيلا.. أوعلى الأقل مؤجلا.. أمام ثقل وصلابة الجدران فقد هربت الشخوص نحو البوح كشكل من أشكال التفريغ والتطهير أيضا.. إن منطق البوح هذا.. فرض على النص.. على الأقل في صيغته الأولى.. أن يأتي محملا بالحكي المثقل بالقلق النفسي والتوترات الشخصية.. حتى ليبدو وكأنه مجموع منولوجات لأربع شخصيات استغلت الفرصة للبوح بحكاياها التي تبدو منفصلة لكنها تبقى متصلة وتسير على خط التماس مع بعضها.. فبقدر ما تبدو حكايات الشخوص معزولة ومنفصلة عن بعضها إلا فيما ندر منها.. بقدر ما تبدو متصلة يربطها حبل سري يوحد غاياتها ومراميها.. إن طابع الحوارات الفردية المسيطر في معمار نص اليوسفي حدا بأسماء هوري إلى البحث عن صيغ جمالية تكسر قدسية النص وتفتض سكونيته لتؤسس لنص آخر مبني على كتابة موازية وتقطيع مغاير يؤدي إلى تكثيف الحدث وترميزه.. فالإخراج بالنسبة لهوري كما عبرت عنه غير ما مرة.. ليس مجرد ترجمة بصرية أمينة لمنطوق النص الدرامي بل إنه كتابة ثانية تأويلية تقلب الطاولة على النص الأول بتعبير جواد الأسدي. من هنا فإن أسماء هوري ولوعيها أن شخوصها تتوحد على قاعة الغاية، ولأن النص ينتصر للمونولوج.. فقد اختارت اللاتجاء إلى الجوقة كصيغة جمالية للتعليق على ما يجري من أحداث وخلق الصراع الموازي للمحكي.. وفي الوقت نفسه تشكيل صور جمالية تعمق الإحساس بالمشهد وتعطيه قراءات جديدة محايثة له. إن جدلية العلاقة بين الداخل والخارج في اشتغال أسماء هوري يتخذ أقصى بعده في عنوان العرض.. دموع بالكحل.. ذلك أن الإحساس كحالة داخلية غير محسوسة ولا مرئية تحتاج إلى امتداد خارج الجسد لتعلن وجودها وحضورها في أشكال مختلفة.. كالصوت.. والحركة.. وحتى إفرازات الجسد.. كالدموع التي تأخذ شكل التعبير الخارجي عن مشاعر داخلية تتلون وتصطبغ بلونها.. لذلك جاءت الدموع بالكحل.. فالكحل هنا بقدر ما يحيل على ذلك المسحوق الأسود الذي تضعه النساء والرجال أيضا بغايات مختلفة كالتزين أو التطبيب أو غيره.. إلا أن أهم ما يميزه هو لونه الأسود الذي إذا ما اقترن بالدموع ترك أثره على الخذ.. فالبوح إذن لن يمر هكذا بل سيترك أثره في نفوس الشخصيات وفي الفضاء أيضا من خلال حالة الفوضى التي تحدث فيه.. وحتى في المتلقي الذي سيظل يعيد ويستعيد عرض دموع بالكحل لجماليته وقوته واستثنائيته الإبداعية. إن البوح الذي اختارته الشخصيات كحل لتجاوز إحباطات الواقع وحالة العجز التي فرضها انغلاق الفضاء.. يقودها إلى اتخاذ قرارات فردية تنحو جميعها نحو الهروب.. فعجزها عن المقاومة والصراع من أجل اختياراتها يقودها في الأخير إلى الاستسلام والانهزام عبر التفكير في الهروب كحلول فردية بدل المواجهة.. فتقر العزم على تجريب اختياراتها لكنها تصطدم بالفشل مرة أخرى مما يدفعها في الأخير لتختار معا وبشكل جماعي قرار البقاء والمواجهة.. فأسماء هوري تنطلق دوما من حالة شخصية فردية لتمتد بها إلى أفق أرحب. أفق جماعي عام.. فهي تنطلق من الخاص إلى العام.. من الأنا إلى النحن.. ومن الهنا إلى الهناك.. فتصبح تيمة الموضوع قضية عامة أبعد من حدود الشخص وانتظاراته.. لذلك تدفع هوري شخصياتهاللحل الجماعي بدل الفردي بالبقاء بدل الذهاب.. والمواجهة بدل الهروب..لمقاومة كل عوامل إحباطها وفشلها.. ومعاودة رحلتها من جديد.. من خلال استعادة أهم محطات العرض كوريغرافيا.. عبر وسيط الجسد الذي يستعيد مخزون ذاكرته الذي راكمه خلال مسار الرحلة/ المحاولة الأولى.. لكن المحاولة تنتهي بنفس النهاية.. ضيق الفضاء.. الاختناق والانهيار.. لكنها لا تغادر المكان.. بل تصر على البقاء والمقاومة.. فالعرض المسرحي في الأصل ليس الا محاولة من محاولات سابقة قامت بها شخوص العرض في سبيل مواجهة احباطاتها.. قادتها إلى الإصرار على مواصة الصراع.. فهي أشبه بسيزيف.. تحمل صخرة معاناتها في اتجاه تكسير الحيطان.. لكنها تفشل لتتدحرج منها الصخرة إلى نقطة البداية.. الانهيار أمام الحائط.. غير أن هذهالنهاية ليست إلا نقطة الصفر من أجل بداية جديدة.. ومحاولة جديدة لن تيأس الشخوص في سلكها حتى تحقق تحررها النهائي.. كانت هذه مجرد قراءة أولية تتلمس طريقها نحو قراءة أخرى أكثر عمقا وتحليلا.. على اعتبار أن العرض حمل في ثناياه صورا جمالية ودلالية تحتاج إلى الكثير من المشاهدة والتحليل حتى يستطيع القارئ/ الناقد سبر أغوارها.. فمشهد التفاحة مثلا.. من المشاهد القوية التي تقوم على ثناية الرجل/ المرأة وحضور مفهوم الغواية المرتبط بالمعرفة.. التي يتحكم في لعبتها الرجل.. فالرجل (محمد الحر) من يسلم النساء الثلاث (وسيلة صابحي.. هاجر كريكع.. زينب الناجم) التفاح/ الغواية.. تقوم الأستاذة/ وسيلة صابحي.. بتقشيرها في مشهد قوي ولافت.. وهي تسرد حكايتها وتغرق أكثر في أثون الرجل الذي لف عليها شباكه.. مستعيدة حكايتها مع زوجها منذ بداية علاقتهما.. وكلما تناسلت علاقتها به وكبرت.. كلما قشرت التفاحة أكثر.. لتقضمها في الأخير وتبزقها وكأنما تبزق عليه وعلى نفسها.. تتكر العملية ثلاث مرات.. لكن حين لا يبقى لها مجال للمقاومة وتغرق أكثر تأكل التفاحة كلها في دلالة على تورطها النهائي في لعبة حاك خيوطها زوجها/ الرجل.. لكن المشهد لا يقف عند هذا الحد بل إن السكين الذي قشر التفاحة/ الغواية سيتحول إلى أداة لقتل الزوج رمزيا وتقيئ ما أكلته لوعيها/ اكتشافها للحقيقة ولو متأخرا.. فالقيء هنا أو البزق يعمق إحساس البوح وإبراز المحتوى الداخلي في الخارج.. أليس الحكي شكلا من أشكال القيء والبزق؟.. إن التفاحة بقدر ما ترتبط بالغواية.. غواية الزوجة لزوجته واصطيادها في شباكه.. فإنها ترتبط بالمعرفة التي تقود الأستاذة في الأخير إلى الوعي بوجودها وقرارها بالمقاومة.. في ختام هذه الالتفاتة.. أعتقد أن عرض دموع بالكحل.. يحتاج منا إلى أكثر من وقفة لجماليته التي ترقى بالمسرح المغربي إلى أفق آخر.. يشكل إضافة نوعية في قائمة التجارب المسرحية المغربية ويميزها بحرفيته واحترافيته..