تتميز أعمال محمد برادة الروائية، عامة، بحرص لافت على استقراء خطابات النسيج الاجتماعي (وهو ما تجلى مبكرا في قصته القصيرة «اللغو والأصوات»)، ومقاربة التاريخ كمكون وجودي ، بحثا عن رؤية تبلور علاقة التاريخ بالذات، والمنطق بالرغبة، من خلال رصد التقاطعات التي تتشكل، في فوضاها، حياة الأفراد وهم يصنعون مصائرهم في سياق مجتمع متحول يرتكز المجال الروائي في «حيوات متجاورة» (2009) على تقابل مؤسِّس بين جدية الواقع ولعبة السرد. ويعتمد الكاتب محمد برادة في صياغة هذه الثنائية على فضاءات شبه ذاتية، وأخرى تخييلية، وذلك عبر النظر إليهما من زاوية تشخيص الكتابة باعتبارها فاعلا سرديا. لقد كان السرد السيرذاتي مكونا بارزا في كتابات برادة السابقة، وخاصة في «لعبة النسيان» (1987)، بيد أن الكتابة التي تحيل على الذات، أو تسترجع بعض ذكرياتها لمواجهة التباس الحاضر، تجد نفسها مرتهنة، في روايته الجديدة، إلى مشهد العلاقة بالآخر من خلال استدماج محكياته في نسق يتيح للقارئ فرصة ارتياد مداخل سردية متعددة تشكل، في نهاية المطاف، محصلة مجال الرواية، ورهان متعتها. وتتميز أعمال محمد برادة الروائية، عامة، بحرص لافت على استقراء خطابات النسيج الاجتماعي (وهو ما تجلى مبكرا في قصته القصيرة «اللغو والأصوات»)، ومقاربة التاريخ كمكون وجودي ، بحثا عن رؤية تبلور علاقة التاريخ بالذات، والمنطق بالرغبة، من خلال رصد التقاطعات التي تتشكل، في فوضاها، حياة الأفراد وهم يصنعون مصائرهم في سياق مجتمع متحول. ربما لكل ذلك، ظلت رواياته محط اهتمام القراء والنقاد على السواء، فهي تنحو منحى تحديث عدسة مقاربة الواقع، لكن مغامرة التحديث هذه لم تقع في فخ شكلانية مفرغة من دواعيها، كما حدث للكثيرين، وإنما نمت مندمجة في لحمة تعبير يسعى إلى استيعاب تحولات المجتمع وأسئلته من منظور ذاتٍ ملتحمة به، متحررة منه، وتحاول، في نفس الوقت، استجلاء منظومة قيمه بمقياس علاقة الظاهر بالكينونة، والحقيقة بالتمثيل. إنني أعتقد أن الكاتب، من خلال رواياته الأربع، استطاع استبطان مسار الخلق الروائي، وأدرك تعقد المجتمع بفعل وجود تطورات بنيوية ودخيلة، ولاحظ أن علاقة الفرد بتاريخه علاقة اندماج ونزاع، ثم استنتج أن مقاربة كل ذلك بحسن نية يعني العجز عن فك خيوط تشابك الواقع مع الكتابة. تاريخ ينكتب في الراهن يجب أن أعترف بأني قرأت «حيوات متجاورة» بمتعة كبيرة. وعندما تساءلت عن مصدر هذه المتعة، قلت لنفسي: إنها ناتجة عن مشهد الرواية ككل، حيث يغدو الواقع لعبة كتابة، وتغدو الكتابة وسيلة للتورط في نسبية واقع معقد. هناك شخصيات ذات مصائر متباينة، ومجرى سرد مرآوي متشعب، ولغات تنطق بألسنة المجتمع، وتيمات تنطوي على تجارب ورهانات؛ وهناك أيضا ذلك الشعور الذي يترسب لدى القارئ بأنه ربما كان قريبا من بعض أحداث الرواية ومواقعها لكونها تخاطب فيه ذاكرته، وربما تاريخه الذي ينكتب في الراهن. بين تضاعيف هذا المشهد الروائي، تتحرك كائنات بعضها يفرض وجوده عن طريق محكياته، والبعض الآخر يدنو من هامش هذه المحكيات بحثا عن دلالاتها إلى أن تتوطد علاقاته بشخوصها، والغير ينأى عنها بحيث يحافظ على وضعه ككائن بدون سيرة ذاتية أو يكاد. يتعلق الأمر، في الواقع المادي للكتابة، بمستويين سرديين يتداخلان حينا، ويتباعدان حينا آخر: أولهما مستوى الرواة (الراوي، والسارد المسرود له «سميح») والثاني مستوى المحكيات حيث تبرز ثلاث شخصيات مركزية، في اقتصاد المتن، هي نعيمة آيت لهنا، وولْد هْنية، وعبد الموجود الوارثي. وتتميز الكتلة السردية، في مجموعها، بتنوع كبير رغم هيمنة الحكي بضمير المتكلم على كافة السجلات باستثناء سيناريو «حامل اللقب»، فهناك البوح السيرذاتي، والحوار، والتراسل، فضلا عن فقرات من «مذكرات» السارد المسرود له التي عمد الراوي إلى إدراجها في نص الرواية بطلب منه، والمتصلة أساسا بنصوص المحكيات الثلاثة وأهمية موقعها من ذاكرة سميح ووجدانه. يتميز الراوي بخاصيته الشبحية، إذ لا وجود له إلا في علاقته بالسارد المسرود له، وبما سجله هذا الأخير من محكيات الشخصيات الثلاث. إنه يقوم بفحص هذه التسجيلات، ويطمح إلى ترتيب موادها، لكنه يروم سردها على هواه نظرا لكونها في اعتباره مفككة. في نفس الوقت، لا يكف عن التساؤل عن علاقة الذاكرة بالزمن، فيما يحدس بأن الواقع ملتبس، والتطورات موّارة، والإحساس بالحنين إلى دفء التقاليد لا يفيده شيئا إزاء الشعور بالعري حيال الكتابة. مع ذلك لا يجد الراوي غضاضة في التلاعب بتسجيلات السارد المسرود له، ومن ذلك إقدامه على صياغة سيناريو على هامش تلك المواد. يتألف السيناريو من تسعة مشاهد، تجري وقائعها في بعض الفيلات، أو الفنادق، أو في أحد شوارع مدريد، أو في شقة خاصة بهذه المدينة، أو في الطائرة، أو في السجن. وتتشكل المشاهد من وصف للأماكن والأزمنة التي تجري فيها الوقائع، وكذا من الحوارات التي يفترض الراوي أنها دارت بين الشخصيات. وينبغي أن نلاحظ بأن هذه المشاهد عبارة عن إضاءات على جوانب من محكيات الرواية تُبرز قدرة الراوي على تخيل المواقف، وفي نفس الوقت استهانته بنزعة الاختزال التي ميزت تلك المحكيات أو ميزت، بالأحرى، طريقة السارد المسرود له في عرضها. مصير غامض الأفق ويعكس السارد المسرود له (سميح)، في مساره الحيوي، شخصية المثقف والروائي الذي يشارك في أحداث روايته، والذي يواجه واقعا معقدا يصعب لم شعثه في نسق سردي متماسك إلا بمساعدة الراوي. لقد ولد بفاس حيث أمضى طفولته الأولى. ولدى وفاة أبيه قررت أمه الانتقال إلى الرباط حيث أقامت في منزل بالمدينة القديمة. وحين أنهى دراساته الثانوية، سافر إلى الخارج وهناك أخذ وعيه في التشكل، يتناوبه القلق والتمرد، فيما كانت أصداء الثورة تتردد في مختلف أصقاع العالم. لدى عودته، إثر حصول بلاده على استقلالها، اهتم بالتطورات العمرانية والسياسية والأخلاقية، فأخذ ينشد التحرر من ثقل الماضي، ومن إصر التقاليد، إلى جانب تطلعه الطوباوي إلى زحزحة النظام السياسي العتيق الذي أخذ يستعيد السيطرة على زمام الأمور عقب ولوج الحركة الوطنية منعطف التشتت إزاء تضارب المصالح. لقد كان انطلاق الذات محورا بارزا من محاور تفكيره، خاصة ما يرتبط بالاستجابة لفورة الجسد وارتياد رحاب المحرمات واقتناص المتع الحسية. ونظرا للواقع المعقد الذي يواجهه كروائي، فإن شعورا بالحيرة يكتسحه إزاء المواد السردية التي تحصَّل عليها، وخاصة حين عرضها على مرآة طفولته ويفاعته اللتين يتذكرهما مضببتين بفعل الحنين. وخلافا للراوي الذي كان ينظر إلى الشخصيات الثلاث ككائنات من ورق، فإن السارد المسرود له احتك بها في سياق علائق متنوعة: هكذا تعرف على نعيمة آيت لهنا أثناء سفر له بالطائرة، لكنه تعرف عليها أكثر في الفراش حيث التمس منها أن تحكي له حياتها. وتنتمي شخصية ولد هنية إلى مسرح طفولته وشبابه، إذ كانت شقيقة هذا الأخير تعمل خادمة لدى أمه. أما عبد الموجود الوارثي فقد كان السارد المسرود له يعرفه عن بعد كرجل سلطة ومثقف، لكن حديث نعيمة آيت لهنا، في محكيها، عن سهراته المضمخة بالغواية أجج فضوله فسعى إلى الاتصال به وإجراء حوار معه. يتخذ السارد المسرود له (سميح)، حيال محكيات الشخصيات، موقفا تأمليا بعيدا عن كل نقد لكونه يعتبر تلك المحكيات صورا ومجازات تسهم في تكوين وعيه بالواقع ومجرياته، من ثم جعل الوقائع الدالة فيها محكيات لوساوسه واستيهاماته بغية إضاءة مصير فردي غامض الأفق، هو مصيره. مع ذلك، كان يشعر بأن العالم يتغير من حوله، وهو ما جعله مترددا حيال تصور صلة ما بين الماضي والحاضر، وبين يقين المعاينة ويقين الذكرى. محكيات متقاطعة 1- تنتمي نعيمة آيت لهنا، وهي من مدينة آزرو، إلى أسرة كان معيلها يعمل ضمن الجيش الفرنسي، ويشعر بانجذاب تجاه حضارة هؤلاء وطريقة عيشهم. وعقب وفاة الأب، اصطحبت الأم ابنتها إلى الدارالبيضاء لتنشأ في كفالة خالها. التحقت هناك بمدارس البعثة الفرنسية لإتمام تعليمها الذي بدأته في مسقط رأسها، ثم شرعت في الاختلاط بأبناء الأعيان وأغنياء الريع، عارضة جمالها الفاتن عليهم كعربون على رغبتها في الانتماء. وعندما حصلت على البكالوريا ترشحت لمباراة تشغيل المضيفات، وإثر ذلك عملت في الشركة الوطنية للطيران حيث عرفت حياتها صعودا اجتماعيا، وتحررا على مستوى العلاقات، وخاصة مع صفوة رجال المال الذين كانوا قريبين ومستفيدين من النظام السياسي إبان الستينات والسبعينات. لقد كانت نعيمة سعيدة بوضعها الجديد، لكنها كانت تدرك، في نفس الوقت، هشاشة وجودها إلى جانب أولئك المتنفذين المتورطين في رهانات سياسية واقتصادية كبرى، والذين لم يبخلوا عليها عندما التمست منهم التدخل لصالحها بغية العمل في البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، حيث ستتعرف على الرجل الذي سيغدو زوجها وأبا لابنها، والذي كان عميلا للبنك. عرفت تجارة زوجها كسادا بعد ازدهار، فقرر الذهاب إلى إسبانيا للإقامة هناك. ودخل البنك بدوره مرحلة إفلاس بعد نهب أمواله من طرف سدنة النظام، فوجدت نعيمة نفسها بدون عمل وبدون مركز اجتماعي يمكنها من المحافظة على عيشها الراقي الذي تعودت عليه، لذا قررت دخول ميدان المغامرة، وتكوين شبكة لتهريب المخدرات بين المغرب وإسبانيا، بعد أن عرّفها زوجها السابق على زعيم عصابة إسباني. 2- لا ينبغي أن نستنتج من كل ذلك أن حياة نعيمة آيت لهنا كانت مجرد مواجهة للإفلات من الحواجز التي اعترضت طريقها، بل إنها، ومنذ فترة المراهقة، مارست رغباتها بامتلاء، حيث أتاحت لجسدها فرص التعبير عن شهواته هنا وهناك. من جهة أخرى اهتمت بأمها اهتماما بالغا، حيث دلتها على سبُل الخروج من الأمية والعزلة وجفاف الوجدان، ودفعت بها إلى اختيار مسارها والانفتاح على مجتمع لا يرضى بالمتواريات خلف أخلاق الواجهة. في هذا السياق، لا يبدو ولد هنية مختلفا عنها، رغم أن الغاية من حياته كانت شيئا آخر، فهو رجل من مراكش، ينتمي إلى أسرة فقيرة ضاقت بها الأحوال عندما توفي عائلها، فانتقلت إلى الرباط حيث عملت شقيقته خادمة، فيما انقطع هو عن الدراسة، وشرع ينتقل من عمل إلى آخر، مستعدا لاغتنام كافة الفرص التي تتاح له، بما في ذلك استعمال طاقته العضلية والجنسية وسيلة لاقتناص الملذات ولتحسين ظروفه المعيشية والعناية بأمه. ورغم نزوعه إلى العنف، إلا أنه كان، بالنسبة لمشغليه، كائنا طيعا، حريصا على عدم المساءلة، منساقا لتيار الأحداث، غايته القصوى تحقيق مآرب كافليه بما يضمن له عيشا مستقرا عند مستوى مطامحه المتواضعة. 3- أما عبد الموجود الوارثي فينتمي إلى أصول أرستوقراطية تقليدية فاسية. درس بالقرويين، وعندما حصل على العالمية وشرع في إلقاء دروسه بالجامع المذكور، أدرك أن المعرفة سلطة يتعين استعمالها لتحقيق غايات ذاتية. وحينما حصل المغرب على استقلاله، واندلع الصراع بين المخزن والحركة الوطنية، لم يتردد عبد الموجود في وضع مقاليد معرفته ودهائه الانتهازي بيد القصر بغية حمايته من شطط الوطنيين الذين كان يعتبرهم دعاة فتنة. وحين تنمَّر المخزن للمعارضة إبان السبعينات وما تلاها من السنوات التي عرفت قمعا منفلت العقال، آثر الرجل جانب الصمت والتبرير حفاظا على مصالحه ومركزه الاجتماعي والسياسي، إلى أن انزوى في ڤيلته بشاطئ تمارة يمارس التصوف الذي ترعاه الدولة، ويُحيي، بعيدا عن الأنظار، سهرات لاقتناص اللذة حين تقدم به العمر. ورغم تباين الفضاءات الاجتماعية والسياسية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، إلا أن حيواتها تتقاطع في لحظات معينة تبدو كما لو أنها صدف غير متوقعة، لكن الضرورة الروائية اقتضتها، وذلك حتى تتواشج المحكيات ويخترق بعضها بعضا ولا تبقى مجرد جزر معزولة. هكذا تتعرف نعيمة آيت لهنا على ولد هنية أثناء ترددها على فندق «شهرزاد» في حي حسان بالرباط، حيث كان يقوم على خدمة زبناء «الشريف» من رجال الجيش والشرطة والسياسة الذين كانوا يقصدون مقصف الفندق للاختلاء بخليلاتهم. وعندما فقدت نعيمة عملها في البنك، وضاقت بها سبل البحث عن مخرج، لجأت إلى «الشريف» الذي كان يعرف ظروفها، فاقترح عليها القيام بزيارة عبد الموجود الوارثي في ڤيلته حيث يلتئم مساء كل جمعة مجمع تسلية وسمر، فلعلها تجد ضالتها لديه، خاصة وأنه رجل ذو نفوذ وعلاقات. وبما أن نعيمة آيت لهنا لم تكن تعرف موقع الڤيلا، فقد طلب «الشريف» من خادمه ولد هنية مرافقتها إلى هناك، وحينئذ تمكنت من التعرف على هذا الأخير عن كثب، فكان ذلك مستهل علاقة وُدّ ستتوطد أكثر مع مرور الأيام، سواء على الصعيد العاطفي- الجنسي أو العملي، حيث لن تلبث أن تستأمنه على أموالها التي ستحصلها من تجارة تهريب المخدرات، وذلك قصد العناية بابنها في حال غيابها. أما تعرف نعيمة آيت لهنا على سميح فقد حدث أثناء سفر له بالطائرة التي كانت تعمل مضيفة بها، وهو ما مهد للقاءات أخرى كان مدارها الأدب والجسد والذكريات. سرد افتراضي لكن إذا كانت هذه العلاقات تتقاطع تلقائيا لتحقيق أهداف حيوية بالنسبة للشخصيات المركزية، وجمالية بالنسبة للرواية، فإن هنالك تقاطعا آخر يحدث بفعل تدخل السارد المسرود له (سميح)، وذلك لغاية إنجاز مشروعه الروائي، معنى ذلك أن الشخصيات سوف يكون عليها، ودون شعور منها أحيانا، التخلي عن خصوصية محكياتها باعتبارها سرودا منغلقة دالة على تجربة، بغية الاندراج في بنية سرد افتراضية، قد تنكتب ولعلها لن تنكتب قط، هي رواية سميح. هكذا نلاحظ بأنه إذا كانت نعيمة تحدس بأن السارد المسرود له سوف يستعمل محكيها كأحد مكونات روايته (ص39)، فإن ولد هنية لم يكن يدري ذلك تماما(ص75)، وإنما انساق إلى الحكي نزولا عند رغبة السارد المسرود له، وبدافع علاقة الود التي جمعت بينهما في الرباط منذ التحاق شقيقته مليكة كخادمة لدى أمه، وهي العلاقة التي غدت شبه عائلية، بل حميمية مع مرور الأيام. أما عبد الموجود الوارثي (ص93)، فقد تقدم إليه السارد المسرود له في صفة كاتب سياسي أو مؤرخ يعتزم تأليف كتاب حول عشرين شخصية أثرت في تاريخ المغرب خلال القرن العشرين، لذا كان المحكي هنا عبارة عن حوار مسجل على آلة تسجيل يدور حول بعض مفاهيم الرجل الدينية والسياسية، وحول علاقته بالمخزن، ومدى إدراكه لهمجية آلته القمعية، إلى جانب اعترفات رفض الوارثي تسجيلها، لكونها تتضمن جوانب خاصة من حياته يحرص أن تظل نائية عن أعين الرقباء. ويتعين أن نلاحظ أن محكيات الشخصيات الثلاث لا تنتمي إلى نسق لغوي واحد، ففيما استعملت نعيمة آيت لهنا لغة فرنسية مشبعة بالتأملات والإحالات الأدبية، حيث كان على السارد المسرود له ترجمتها، تخييلا، إلى لغة عربية، نجد ولد هنية يستعمل، في محكيه، لغة دارجة تناسب مستواه التعليمي المتدني، وكذا بساطة شخصيته وذكاءه العملي الممزوج بحكمة شعبية. بينما نجد عبد الموجود الوارثي، في حواره مع السارد المسرود له، يستعمل لغة متميزة، تعكس تكوينه الثقافي والديني، ومستواه الاجتماعي- السياسي، ومزاجه المتحايل على سجلات التعبير. ويمكن أن نضيف بأن محكي نعيمة آيت لهنا يتميز عن المحكيين الآخرين بكونه ينقسم إلى شقين: محكي أصغى السارد المسرود له إلى تفاصيله مباشرة، ومحكي غير مباشر، توصل به على شكل رسالة بعثتها نعيمة من سجنها في سلا، على إثر اعتقالها متلبسة بجريمة التهريب، حيث وصفت عالم سجن النساء ومشاكله، إلى جانب حديثها عن التغيرات العميقة التي عرفها وجدانها نتيجة احتكاكها بنسوة فقيرات عانين، خارج السجن، من أوضاع أليمة، مدمرة للروح. ثنائية الانصياع والتحرر تحتل هذه الشخصيات، عبر محكياتها، مساحات هامة في متن رواية « حيوات متجاورة»، حيث يبدو محكي نعيمة آيت لهنا، في شقيه، مهيمنا (48 صفحة) إذا قورن بمحكي ولد هنية (17 صفحة) أو محكي عبد الموجود الوارثي (20 صفحة). وتشكل المحكيات فضاءات سيرذاتية تعكس مقاربة الشخصيات لمصائرها، كما تعكس مسار تطورات اجتماعية وسياسية جرت أطوارها بين ستينات القرن الماضي وتسعيناته، فضلا عن كونها تحيل على فضاءات مجالية متنقلة، إذ ينتمي أصحابها أصلا إلى مدن آزرو ومراكشوفاس، قبل أن يلتقوا في النهاية في الرباط أو ضواحيها (تمارة وتابريكت) حيث تنعقد أواصر علاقاتهم. وتتخلل المحكيات، وكذا سيرة سميح، شبكات قيم ضمنية تبرز سعي كل شخصية إلى ابتكار مبرراتها الخاصة للتأقلم مع الأوضاع، أو لاختراق الحواجز والموانع المتواضع عليها اجتماعيا، وصولا إلى خطاب الذات حيث تغتني رعونة الأنا بلغة الجسد، أو لتحريك أشجان الذاكرة والحنين بحثا عن معنى للحاضر في الماضي. في هذا السياق تتجلى التيمات الرئيسية التي تخترق محكيات الشخصيات الثلاث، بما في ذلك محكي السارد المسرود له، وهي أربع: أ - السياسة: يتذكر سميح الاجتماعات التي كان يحضرها في تابريكت ، منذ مطالع الستينات، لدى صديقه الرسام الذي يقيم في سانية منعزلة، وذلك قصد التفكير في أوضاع المغرب وتطوراتها بما في ذلك الإبقاء على الصراع بين الوطنيين والقصر محتدما لتحقيق أهداف النضال الوطني التي كان المخزن يقف حائلا دون بلوغها. وعندما تم تدشين سنوات القمع، ظلت قوى اليسار تناضل مدفوعة بعنفوانها، لكنها كانت عاجزة عن تحليل التطورات التي يعرفها المجتمع ودهاليز السلطة، ولا توقع محاولة الانقلاب الفاشل التي حدثت بالصخيرات (1971). وأثناء حديث نعيمة آيت لهنا عن لقاءاتها برجال السلطة والاقتصاد في السهرات التي كانوا يحيونها، لم تتردد في التعبير عن كونها لم تكن تهتم بالسياسة، لكنها، في نفس الوقت، لم تكن ساهية عنها(ص31). وعندما عمل ولد هنية مع «الشريف» لاحظ أن عددا من الزبناء الذين ترددوا على حانته كانوا من رجال الداخلية والأمن والجيش، كما لاحظ أن «الشريف» لم يكن شخصا عاديا بل ذا نفوذ وغنى، وأن حانته كانت مركز لقاء شبكة منظمة لم يتبدد شملها إلا عندما فشل الانقلاب الثاني(1972). أما عبد الموجود الوارثي فكان رجل القصر المطيع، يكن له الوفاء مقابل ضمان مصالحه، ويسدي إليه النصائح المناسبة انطلاقا من قناعته بأن شرعية النظام لا ينبغي أن تكون موضع جدال. ب- الجنس: ويشكل الجنس أحد مبررات اللقاء بين شخصيات «حيوات متجاورة»، بدءا من علاقات نعيمة آيت لهنا بزميلها كمال في مدرسة البعثة الفرنسية، ثم علاقاتها برجال السلطة والأعمال في سهراتهم التي لم تكن تخلو من مقالب ومفاجآت جنسية، بما في ذلك علاقتها بولد هنية وبالسارد المسرود له، ثم حضورها في سهرة الوارثي التي أورثتها نوعا من النفور إزاء أولئك المترهلين الذين يعمدون إلى التصابي في نهاية أعمارهم. لقد كانت نعيمة آيت لهنا معجبة منذ صباها الباكر بجمال جسدها، لذا لم تتردد في استعماله وسيلة لاقتناص الفرص الاجتماعية المتوخاة، لكن ذلك لم يحل بينها وبين اكتشاف المتع الخالصة التي توفرها علاقات جنسية خاصة شأن علاقتها بالسارد المسرود له منذ لقائهما في الطائرة. ويشكل العمل هاجس ولد هنية الرئيسي، ولتحقيق ذلك تبدو كل الطرق سالكة، بما في ذلك تلبية رغبات مِثليٍّ جنسي ألماني مكنه من العثور على عمل في دوسلدورف. وحين منحته نعيمة آيت لهنا جسدها تعبيرا عن ثقتها فيه وإعجابا برجولته، فإنه سوف يجعل من وفائه لها عربونا على حب صامت يعرف حدوده. وتعكس شخصية عبد الموجود الوارثي، في هذا الإطار، صورة المثقف الذي صرفته بوارق المعرفة والسلطة عن الاهتمام بمتعه الحيوية، فلم يصغ لنداء الجسد إلا عندما آذن العمر بالأفول، لكن هل يتمكن من تحقيق ذلك وقد أثقلت كاهله أعباء تاريخ حافل بالانتهاكات؟. ج- الحنين: ويشكل الحنين منطلق تأملات سميح في المحكيات التي أصغى إليها، والأوضاع التي عاشها في الماضي. ويتجسد هذا الإحساس على شكل ذكريات تقترن بطفولة السارد المسرود له في مدينة فاس، وكذا بيفاعته في الرباط وأزمور والجديدة. ويتركز التساؤل في مسارات كل من نعيمة آيت لهنا وولد هنية والوارثي، وفي علاقتهم بالماضي، وفي القيم التي سعوا لتحقيقها والتي كانت متجذرة في أعماقهم رغم خضوعهم لمنطق الواقع، وكذا في سعيهم إلى تكييف الماضي مع الحاضر. ويبدو معنى الحنين غامضا بالنسبة لسميح، خاصة وأن سياقه امَّحى، والأوضاع تغيرت، وهيمن سوء الظن بعد انجلاء الأوهام. الثابت بالنسبة له هو أن القيم لم تعد مثيرة للحنين، إنما اللحظات العابرة، واللقاءات المنفلتة ، والكلمات المشحونة بالحياة هي ما يفعل ذلك. د- الأدب: وتتعلق هذه التيمة بكل من نعيمة آيت لهنا والسارد المسرود له والراوي، فهم جميعا كانوا مهتمين بالأدب وقارئين للرواية. لقد تعرف سميح على نعيمة في الطائرة عندما خامرته سنة من النوم فسقطت من بين يديه رواية لسيمنون، وحينئذ عمدت نعيمة إلى إيقاظه مخبرة إياه بأنه سبق لها أن قرأت نفس الرواية. والواقع أن هذه المرأة، ومنذ صباها، افتتنت بقراءة الروايات، بل إنها كانت تعتمد على قراءاتها هذه في تخيل العوالم الاجتماعية التي تشتهي ولوجها، وأحيانا كانت تلك القراءات أشبه بطعم يجتذبها عنوة لممارسة علاقات جنسية محفوفة بخيالات أدبية. أما السارد المسرود له، فبالإضافة إلى قراءاته في الرواية، كان مهتما أيضا بكتابات نظرية حول فلسفة التنوير وحرية الفكر من قبيل كتابات روسو وديدرو والماركيز دو صاد، كما كان مهتما بالاطلاع على بعض كتابات عبد الموجود الوراثي التي كان المؤلف يجمع فيها بين مقاصد الشريعة والتأويل المتفتح للدين والدفاع عن حقوق المرأة.