وسط الدارالبيضاء تقبع أحياء التصقت ببعضها البعض منذ الاستعمار الفرنسي، أسقف مهترئة تقف بيوت «المدينة القديمة» منتصبة فوق رؤوس قاطنيها، بيوت يقطنها من تردت أوضاعه الاجتماعية وضاقت حالته المادية. «بيان اليوم» دخلت قبورا يتحرك من بداخلها، وعاشت لحظات رفقة عائلات رضخت لواقع مرير، لتنقل لكم معاناة ساكنة «القديمة» وحياتهم المريرة، زاد من مراراتها تجاهل بعض المسؤولين لمطالب فئة فقيرة تقاوم ضنكها المالي بالتسول وتعيش خلف هامش صبغ بالأحمر في انتظار إشعار المسؤولين. موسم الأمطار.. المدينة تدخل في التحدي بقايا الخرسانة تلقطها أعين زوار «القديمة» بمجرد المرور بين أزقتها، أسقف بيوت تقطر ماء فوق رؤوس ساكنيها أما الجدران فقد ألزمتها فصول الشتاء المتوالية على فسخ جيرها والبقاء عارية بدون لمسة فنية، مكتفية بشقوق تتسع يوما بعد آخر في انتظار ملامسة الأرض. حمرة الطوب والحجر تنحتان منازل الحي في مشاهد قد لا يجدها الزائر إلا في قلة من المناطق الأركيولوجية، أما القصدير فيضيف لمسته الفنية على بنايات «القديمة»، لتكون بيوت الحي مزخرفة بطرق بدائية جعلتها من أفقر أحياء البيضاء. «تلقينا وعودا لا تعد ولا تحصى من المسؤولين، أكدوا لنا مرارا أنهم سيعملون على ترميم بيوتنا في انتظار ترحيلنا إلى منازل في طور الإعداد والبناء، لحد الساعة الترميمات تطال الأزقة وممرات الحي أما بيوتنا فلم تستفد من أي ترميمات، جل سكان الحي غير راضون عن وضعية أسرهم . ننتظر حلولا ملموسة». بأعين شارفت على البكاء يروي «الحاج علي» معاناة عائلات تلخصت مطالبهم في السكن والعيش الآمن، بعيدا عن الخوف من الموت أو مفارقة الحياة بعد ساعات قليلة من النوم. أودت الانهيارات المنزلية التي طالت بيوت زنقة سيدي فاتح بحياة تسعة أشخاص في حادثة لم تكن الأولى من نوعها، إلا أنها أشعرت المسؤولين بخطورة الوضع السكني الذي يعيشه سكان «القديمة». من بين البيوت التي طالتها الانهيارات زارت «بيان اليوم» منزلا بزنقة «الخروبة»، ركام انهيار البناية ما يزال متواجدا منذ أن لامست أسقفها الأرض، بجانبها تتواجد منازل أخرى قد تدفعها التساقطات المطرية التي تشهدها المملكة المغربية حاليا إلى الانهيار. «المنازل الآيلة للسقوط بالحي ما تزال متواجدة بكثرة، وضعيتنا المادية لا تسمح لنا بترميم منازلنا، خلال فصل الشتاء نعيش معاناة يومية بسبب التساقطات المطرية، تكرار أحداث الانهيارات ستكون بمثابة استهتار المسؤولين بوضعنا السكني». أشغال الحفر والبناء تفصل سكان «القديمة» عن قضاء أغراضهم اليومية، رمال امتزجت بمياه التساقطات المطرية لتنتج وحلا يعكر أرضية المدينة ككل ويجعل من التجول بين أسوار «القديمة» أمرا شبه مستحيل. بين مسالكها الضيقة أصبح المشي منهكا بالنسبة لساكنة «القديمة»، أدوات البناء منتشرة بين أزقتها وحفًارات وضعت في أماكن متضررة لترميم ما يمكن ترميمه داخل أسوار أقدم أحياء الدارالبيضاء. فكل سنة تكون «القديمة» على موعد مع انهيارات تطال عددا من بيوتها، المشهد أضحى مألوفا، ضحايا وخسائر مادية تنهك وضعية العائلات المتضررة. أسواق «القديمة».. ظروف عمل صعبة وقذارة الوجهة هذه المرة سوق «الملاح» الذي يخترق جزءا كبيرا من أزقة المدينة القديمة، بين جنباته تقبع محلات تجارية توارثتها أجيال. السوق مختص في بيع الملابس العصرية والماكياج وأشياء أخرى، حسب ما وقفت عليه «بيان اليوم» خلال زيارتها ل»القديمة» فتجار «الملاح» يعيشون أوضاعا مزرية خلال فصل الشتاء، خصوصا أن غالبيتهم يلجئ لعرض بضاعتهم بالواجهات الأمامية لجلب الزبناء. «نلعب لعبة القط والفأر مع التساقطات المطرية التي تشهدها الدارالبيضاء ككل خلال الآونة الأخيرة، الأمطار تبلل بعض أثوابنا، وتجعل من زوار السوق عملة نادرة، أما البرك الموحلة التي تمتزج بالأتربة والأزبال بجميع أنواعها فتجعل من المشي بين جنبات السوق أمرا مستحيلا»، بعبارات التذمر واليأس يصف أحد تجار «سوق الملاح» حال السوق خلال فصل الشتاء. من سوق «الملاح» نحو «جامع الشلوح»، سوق تقصده جميع عائلات الحي باختلاف مستوياتهم المعيشية، برك مائية تتوزع بين جنبات السوق ونتانة خلقتها أحشاء السمك وبقايا القنينات الزيتية وأشياء أخرى. بائعي الأسماك يفترشون أرض «جامع الشلوح» لعرض منتجاتهم التي جلبوها من مكان غير بعيد عن الحي، أمتار معدودة تفصل أسوار «القديمة» عن ميناء الدارالبيضاء حيث السمك معروض بأنسب الأثمان. «كل صباح كنجيب كوربات ديال الحوت (السردين، الصول .. )، الحمد لله كلشي كيتباع، ما كنجي فين نرجع للدار حتى كيخواو الكوربات، من هاد الحرفة معيش 7 ناس. طرف ديال الخبز صعيب» ، بعبارات الرضا عن الذات يؤكد بائع سمك ب»جامع الشلوح» أن غاية الإنسان في العيش تبرر مهنته رغم صعوبتها أحيانا. وتستمر المعاناة... بين جنبات السوق، نسوة لم يجدن من مهنة سوى خياطة وحياكة ملابس غيرهن، يجلسن صافات قرب بعضهن. تحت أرجلهن صفائح شبيهة بدواسات السيارات، يستعملنها لتدوير عجلات آلاتهن. يستعملن كلمات صارت حكرا عليهن ويمضين اليوم طوله جلوسا في كراسهن، بين الفينة والأخرى تسيح أعينهن في فضاء السوق لجلب زبناء جدد. «أنا خياطة، من زمان وأنا خدامة هنا، كنجيب الماكينة مرة مرة لهنا باش نخيط لعيالات جلالبهم والقفاطن ديالهم، الحركة عيانا هاد الأيام والشتا حابسة علينا رزقنا، هادشي راه مامسلكش». أنابيب بلاستيكية، وعربة خشبية مملوءة ببراميل حديدية سعة الواحد منها 15 لتر، أدوات أساسية لابد ل»مول الما» أي بائع الماء، أن يعززها بقوته البدنية لإيصال الماء نحو البيوت والمحلات التجارية التي طلبت حصتها منه. «عبيقة» شاب في عقده الثالث، نحيف الجسم وخطواته متثاقلة بشكل يساير عربته الخشبية، يقود براميل بين عجلتين ملفوفتين بالجلد المثبت بالمسامير الحديدية. خدوم، بشوش ومتعاون، يبيع البرميل الواحد بدرهمين، عربته الخشبية تتسع لعشرة براميل، مسألة سيكون حلها 20 درهم لكل رحلة. هؤلاء، وأولائك، مازالوا يحتمون في بيوت ترتعد من شدة البرد، ومنازل تمتلئ خوفا من اقتراب التساقطات، وهم يحلمون بغد أفضل، وسقف يتصدى .لضربات البرد، وبيت يتحدى الأمطار، ويمنحهم دفئا افتقدوه لسنوات.