قطاع غزة لم يغادر جدول أعمال القيادتين الإسرائيليتين، السياسية والعسكرية. فالعدوان الإسرائيلي على القطاع لم يتوقف، بل يتجدد بين فترة وأخرى. والمشاورات السياسية بشأن «الحل الاستراتيجي» للقطاع، تتواصل على المستويين السياسي والعسكري معا. أخر ما قرأنه، في هذا السياق ما كتبه ايغورا ايلاند، الرئيس السابق لمجس الأمن القومي في إسرائيل، في يديعوت احرونوت (27/6/2012) وما يكتبه ايلاند، كما هو معروف، لا يعبر فقط عن رأيه، بل نفترض أنه خلاصة سجال ونقاش يدور خلف الأبواب بين كبار المعنيين في إسرائيل. ولما كان الضباط، في هيئة الأركان، أو في الميدان، لا يستطيعون أن يقولوا رأيهم بشأن القطاع، في مقال أو دراسة، لأسباب تتعلق بالصلاحيات والقوانين، فإن ايلاند، الذي غادر مجلس الأمن القومي، لكنه لم يغادر موقعه كباحث ومفكر وخبير في شأن أمن إسرائيل «القومي»، يستطيع في مقاله أن يقول ما يريد الآخرون أن يقولوه، وأن يعبر عن رأيهم بكل وضوح وصراحة. ايلاند يصف الوضع فيقول إنه كلما أطلق صاروخ من غزة، بادرت إسرائيل إلى الرد على الجهة التي أطلقت الصاروخ. ويعترف أن مثل هذه الجولات، التي لا تنتهي، بدأت تضعف قدرة الردع لدى إسرائيل، فضلا عن أنها تضع إسرائيل أحيانا أمام خيار لا تستطيع أن تتحمل ثمنه كل مرة، هو القيام بعملية عسكرية جديدة، كعملية «الرصاص المصبوب» ويدعو إلى بديل، يستند إلى إستراتيجية إسرائيلية تنطلق من المبادئ الخمسة التالية: - التعامل مع قطاع غزة باعتباره «دولة» قائمة بذاتها، تختلف عن «دولة» الضفة بقيادتها وسياساتها. - غزة غير خاضعة للاحتلال، ولها حدود مفتوحة مع مصر. - تتحمل هذه «الدولة» المسؤولية عن كل نشاط عسكري ضد إسرائيل. - بقدر ما تلتزم «دولة» غزة بالتهدئة بقدر ما تقدم إسرائيل خدمات للفلسطينيين (المعابر، الممر الأمن مع الضفة، الوقود، المعدات، الكهرباء) وبقدر ما تنتهك هذه التهدئة، بقدر ما سوف تعمل إسرائيل على تقليص الخدمات للقطاع، بما في ذلك منع هذه الخدمات منعا كاملا. - الرد على إطلاق النار من غزة يكون على «الدولة»، بما في ذلك تدمير أهداف تابعة لسلطة غزة بقيادة حماس. ويعتقد ايلاند أن هذه الإستراتيجية الجديدة هي العلاج الجذري لمسألة صورايخ القطاع وعمليات المقاومة منه. أما مصر، فإن الرهان على دور ما للإخوان المسلمين لدعم المقاومة في القطاع، هو رهان فاشل وخاسر. فالرئيس المصري الجديد محمد مرسي بحاجة الآن إلى دعم الولاياتالمتحدة الأميركية لأن واشنطن بيدها مفاتيح حل الأزمات المصرية، فضلا عن أنها هي التي تمسك برغيف الخبز للمواطن المصري، من خلال شحنات القمح الدولية التي ترسل بها الولاياتالمتحدة إلى مصر. أي بإمكان الولاياتالمتحدة أن تجوع مصر إن هي شاءت. مقابل هذا الدعم الأميركي، يفترض لمحمد مرسي أن يتخذ موقفا لا يتورط فيه إلى جانب حماس ضد إسرائيل. بل هو مطالب بضبط الأوضاع على حدود القطاع مصر، وكذلك مكافحة خلايا الإرهاب في سيناء، بعد أن تسللت من غزة، كما قال ايلاند في مقاله. *** في تحليله لواقع غزة، في ظل سلطة حماس، يعتمد ايلاند استنتاجا شديد الخطورة، يفترض أن تأخذه المقاومة وحكومة القطاع على محمل الجد، إذ يدعو إلى عدم التمييز، في القصف والعمليات العسكرية ضد القطاع، بين «السلطة» وبين «المنظمات الإرهابية» وبين «السكان» (أي المدنيين). واعتبار كل من هو في غزة هدفا يجب عدم التردد في التعامل معه. لم هناك ما يسمى «بالذراع العسكرية» لحماس أو للفصائل، يقول ايلاند، كل من هو على أرض غزة، حالة معادية من المشروع استهدافها. بناء عليه، يرى ايلاند أن إسرائيل تخطئ خطأ جسيما حين تزود غزة بحاجاتها الحياتية، في الوقت الذي تشكل فيه غزة مصدر خطر على إسرائيل، ويرفض ايلاند، في هذا السياق، الحديث عن «سكان أبرياء» في غزة، وعن حاجاتهم إلى «معدات إنسانية». الحصار الشامل، هو سلاح يدعو إلى استعماله إلى جانب آلة القتل الحربية. وكخلاصة يدعو ايلاند إلى الترويج لإستراتيجية إسرائيل هذه على المستوى الدولي لكسب الرأي العام العالمي، لصالح إسرائيل، بحيث تبدو معركة إسرائيل ضد غزة معركة المجتمع المتحضر ضد «بؤرة الإرهاب» التي ترعاها حماس و«المنظمات الإرهابية» الأخرى. *** لقد سبق وأن كتبنا في هذه المجلة، في أعداد سابقة (1376 1377 1378 1379 1380)، ندعو لإستراتيجية لقطاع غزة، لأننا قرأنا، في المواقف الإسرائيلية علامات لسياسة جديدة ضد القطاع، تربط ما بينه وبين الملف النووي الإيراني، ونحاول أن نصل إلى إستراتيجية تغطي على تضاؤل قوة الردع لدى الجيش الإسرائيلي في أعماله العدوانية. اليوم تأتي مقالة ايلاند، لتعكس وجهة نظر، يتبناها عدد من جنرالات العدو وقياداته السياسية. ونفترض أن هذه المقالة هي خلاصة دراسة موسعة أنجزها ايلاند، وقدمها إلى الجهات المختصة. لذلك لا نستبعد أن تتحول هذه الدراسة إلى خطط عمل لدى جيش العدو، يطور عبرها قدراته على إلحاق الأذى والدمار بقطاع غزة، وتحويل مدى القطاع، وقراه، ومخيماته إلى أرض محروقة، لا تمييز فيها بين مدني وعسكري، وبين ثكنة للشرطة أو مكتب أو مقر لمنظمة أهلية، أو مدرسة للأطفال، أو معهد أكاديمي. كل الأبنية في غزة أهداف مشروعة. وكل البشر في غزة أهداف مشروعة. وبالتالي يصبح علينا أن نسأل: ماذا حضرنا، من جانبنا، تحوطا للرد على ما يتم التحضير لنا. ما هي العقيدة العسكرية التي نتبناها في القطاع. ما هي الإستراتيجية المعتمدة من قبل فصائل المقاومة. جعل لدينا إستراتيجية موحدة؟ وقد تكر مسبحة الأسئلة. لكن للأسف، فإن معظم إجاباتها ستكون بالنفي. لقد بادرت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في القطاع، إلى صياغة مبادرة، لأجل تبني إستراتيجية دفاعية للقطاع، لا تقتصر على توفير آلية تنسيق وتوحيد قدراته العسكرية المختلفة بل تجاوز ذلك نحو تنظيم المجتمع كله ليتحول إلى مجتمع مقاوم يسخر كل طاقاته لأجل التصدي للعدوان الإسرائيلي ولأجل إجهاض أهدافه، وتعزيز صمود الشعب والمقاومة دون استثناء، تلك التي بنت ذراعا عسكرية، لها، وتلك التي لا تمارس الكفاح المسلح. ومعركة غزة ليس معركة القطاع وحدة، بل هي معركة الشعب الفلسطيني كله. وآن الأوان، لنا، كي نقدم أسلوبا جديدا في العمل يرتقي في بعض جوانبه إلى ما يشبه حرب الشعب طويلة الأمد. هذا الشعار الذي تغنينا به طويلا، لكننا كلما وفرنا له الأسس الكفيلة لقيامه، أو قيام بعض جوانبه.