يحتضن رواق سيدي بليوط بالدار البيضاء ما بين 22 و30 يونيو الجاري، معرض الفنانة التشكيلية عائشة عز: أجساد موشومة، فخارج مدارات الترويج التسويقي وبعيدا عن الدوائر التداولية الضيقة، تنحت هذه الفنانة مسارها الفني، وتمتح من معيشها التاريخي الحافل بالمواقف النضالية، والمحطات الحقوقية، لقد عرفت كيف تمنح لهذا الزخم الوجودي شكله البصري، وبناءه الدلالي عن طريق ملكة الاختزال والأسلبة، على نحو خالص، تسبك لغتها التصويرية لكي تقدم لجمهور المتلقين، المتبصرين والهواة، أفقا مغايرا على مستوى مقاربة قضية المرأة بكل أبعادها المعرفية والجمالية، فنانة تشتغل على المادة، والرمز، والأمثولة، والمجاز، هي عائشة عز حاملة مشروعا تصويريا ينم عن رؤية جديدة وحديثة للفعل التشكيلي الذي يؤسس أبجديته على بلاغة الجسد، عارضا أزيد من 25 لوحة تؤرخ لما يزيد عن 7 سنوات من البحث الإبداعي الرصين، عائشة عز مفتونة بقيم الشفافية، وبالتجليات الإيحائية للأجساد، فهي توقع ميثاق فرادتها البصرية استنادا على القوة التعبيرية لأعمالها التشكيلية و دقة نظرتها الجمالية للكائنات والأشياء، إنها تزاوج بين الاتجاهين التشخيصي و التجريدي، مولية لجانب التمثيل الدال و للمادة عناية خاصة، إن هاجسي التحرير و النضال هما اللذان يحفزان المدى التشكيلي لدى عائشة لتعميق بحثها البصري الأخاذ، ولمعالجة إشكالية الهوية بكل تشابكاتها و تداعياتها، كما أن هذين العاملين هما اللذان يفسران جيدا دينامية الأعمال الفنية المعروضة، و تنوعها المنفتح باستمرار على العالم الخارجي : عاملان صقلا نظرتها البصرية، وساهما بكل تأكيد في إثراء طاقتها الإبداعية، إن التصوير الصباغي من منظور عائشة حقل للإبحار يمكننا من تشكيل رؤية نقدية حول العالم بصيغة المؤنث، وفق نسق تركيبي، هكذا، تترجم هذه الفنانة بنية بصرية تلقائية، و موحية، و قائمة على الشذرات، و المؤشرات(رؤوس، نهود، قامات،،، الخ)، التي تفتح المجال لعدة رؤى، و مقاربات، و قراءات، إننا، بدون ادعاء، بصدد عمل إبداعي مفتوح يحدد معالم مسالكه، و ممراته غير الموصدة، طاقة حرة هو الفعل التصويري لدى عائشة الذي ينهض كهوية بصرية جديدة للجسد، و يفرض ذاته كامتداد نوعي لفعلها الكتابي المسكون بأسئلة التغيير، و الحرية، و العدالة الاجتماعية، و المساواة، و الإنصاف، عبر مواد محلية(حناء، رمل،،، الخ)، و من خلال أشكال مستعادة( وحدات الزليج، وحدات الزرابي، أوشام،،،الخ)، استطاع هذا الفعل شبه التجريدي إثارة قضايا إنسانية ذات رسائل كونية، و ذلك في صيغة تعبيرية محبوكة بخيط الإبرة، تندرج، إذن، مقاربة عائشة في إطار هذا الإصرار العنيد على الاستمرارية و الديمومة، مما يذكرنا بالعلاقة التفاعلية القائمة بين الإنتاج الإبداعي المعاصر، و التراث العريق، بصيغة أخرى، فن عائشة أصيل و معاصر في الآن ذاته، فهو ينحو نحو ترك آثار ماضيها، و حاضرها، مع الإفصاح عن شعور الانتماء عبر رؤية حنينية تشيد بالأزمنة المفقودة التي تتوالى كتخطيطات استعادية، ليست علاقة هذه الفنانة بذاكرة الأجساد الموشومة اعتباطية أو جزافية، فهي منظومة رمزية و حية تعبر عن مجال فسيح من القيم، والرسائل، محيلة على الطفولة التي تظل دعامة كل بناء وجودي: مجال سيميائي يبرز، بشكل صريح أو ضمني، كيف أن الجسد( بالمعنى الظاهراتي للكلمة) ملازم للعالم، و للآخر و للذات، يساهم الإبداع التشكيلي لدى عائشة في سبك مختلف أنماط التمثيل الخاصة بالجسد الأنثوي بين المقدس والمدنس، وفي عدد من التنضيدات الغرافيكية و التشكيلية الناجمة عنها، للإشارة، فإن هذا الجسد الجليل والشذري يحمل حضورا إنسانيا فعالا ينزاح عن الطقس الضيق للهوية، و عن الانطواء المرضي حول الذات، فخارج الأشكال التقليدية، تجد عائشة في الحس الذاتي للجسد تعبيرا مثاليا، فهي تتصالح مع دواخلها لتترجم نزوعها نحو التجديد والمغايرة، هكذا، تحرص على تجريب مواد التعبير الصباغي، و تعزز معالجة لونية ذات أبعاد ترابية وأرضية، إنها تتجاوز الحدود الفاصلة بين مختلف إيحاءات الجسد و تشاكلاته، الجسد من منظور عائشة علامة دالة على الحرية، و موقف احتجاجي يخترق المسافات التعبيرية بين التصوير العالم والتصوير الملقب ب "الفطري"، و بين التشخيص و التجريد، يتوزع مسلكها الأسلوبي على عدة سجلات بحسب حالتها الروحية، وانشغالاتها، إن هذه الفنانة الخيميائية تطوع المادة و نسيجها، طارحة سؤال هشاشة الجسد بمعناه المادي، فهي تصوغ مقاربة جديدة للفعل التشكيلي بالنظر إلى تداعياته ومكوناته البلاغية المستوحاة من الزمن اللحظوي، إن هذه المقاربة تتمحور حول الوجود، وحول معنى الكيان الانساني في عالم مكيف بالاقتصاد المعولم الذي يروج للسلع وأساليب الحياة، فالفنانة تعالج الأسئلة الملحة في عصرنا الراهن(الحريات الفردية و الجماعية، التضامن، المواطنة الكونية، الحياة المشتركة، وضعية المرأة، طغيان الفكر الدوغمائي، عوائق مسلسلات التحديث والدمقرطة،،،)، منشغلة أيما انشغال بالإكراهات و المثبطات الذاتية والموضوعية، تضيف عائشة من خلال معرضها الفردي لبنة للصرح المجتمعي، حيث تساهم في إغناء الممارسة التشكيلية، وتعميق الرؤية الحضارية لوجودنا الإنساني في ضوء أعمال بصرية أكثر إيحاء و دلالة.