بالموازاة مع معرضه الفردي الذي يحتضنه رواق "مذكرة 21"، بالصويرة، عرض الفنان التشكيلي والنحات المغربي، رشيد بودير، بعضا من أعماله الجديدة في إطار معرض جماعي نظم تزامنا مع فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي لفيلم الطالب، الذي اختتمت فعالياته، أخيرا، بمسرح محمد السادس بالدارالبيضاء. يوحد هذا المعرض الجماعي، الذي بات تقليدا سنويا تحرص على تنظيمه "جمعية فنون ومهن"، بين أعمال مجموعة من الفنانين الشباب والمخضرمين باتجاهات تعبيرية مختلفة ومدارس تشكيلية متنوعة. عن تجربته الصباغية قال الفنان التشكيلي بودير، الذي سبق ونظم معارض داخل المغرب وخارجه، وتحديدا في الدوحة بقطر وحيفا فلسطين، إن "الفن يتجاوز الحدود والخلفيات المرجعية، إنه ينساب بحرية ويترك فرصة التعبير للأحاسيس العاطفية، مؤكدا في تصريح ل"المغربية" أن محتوى اللوحة أدق معنى وأكثر أهمية من الشكل. ويرى الفنان بودير أن مقتربه الصباغي مرادف لجوهر الطبيعة في تجلياتها التجريدية المطلقة. في تجربته ينهض الفعل التشكيلي على غنائية المادة وأثر ذاكرة الأرض الموشومة، فلوحاته ترصد عنفوان طفولتنا، وزمننا الضائع، لحظات يقتنصها عبر رؤيته الموضوعية للأشياء والشخوص. شاعر المادة هو بودير، إذ يفضل الاشتغال على سجل الأثر والعلامة، مسترشدا بمقولة عبد الكبير الخطيبي، "أن التجريد إيقاع ومقياس متلازمان، وحقيقة الشكل أنه ينطلق من العلامة، والعلامة تختزل الإنسان في كينونة تكشف رغباته اللانهائية". في أعماله الأخيرة، استطاع ابن مدينة الصويرة، بودير تحقيق ازدواجية الفعل الصباغي، فأعماله تنشد الأرض وكل المنابع الأولى للوجود، كما أن مغامرته التشكيلية انتصرت للإنسان في توحده وفي روحانيته، وروح التذكر في أعماله معادل موضوعي لأثر النسيان والتهميش. أعمال تعيد بالذائقة الفنية إلى البدايات الأولى لمحاكاة الريشة والألوان، فهناك حياة مشتركة بين الذكر والأنثى، كأن به يرصد فتنة التلاقي الأولى بين الذوات، والظل والخيال، إذ أن مقتربه الصباغي يسائل العمق الإنساني، والفضاءات العابرة، والتمثلات الجوانية والبرانية معا، كما أن أعماله تبحر، حسب نقاد جماليين، عبر ثنائية الصورة والهوية، بكل خصوصياتهما وأزمنتهما. في لوحاته تتبدى ألوان ناصعة وحارة وباردة تكشف إجمالا الفن التصويري للفنان رشيد بودير. يوقع بودير أعماله وفق مشاهد تجريدية، لكنها رمزية دالة، كأنها تجميع لاتجاهين لا ثالث لهما، ويتعلق الأمر بالواقعية الجديدة، وبالتعبيرية التجريدية، أعمال تفرق بين الموضوع والشيء، والدال والمدلول. وباعتباره واحدا من الحساسيات الجديدة يشتغل الفنان بودير في منحوتاته على واقع التشظي، ولعبة الامتلاء والفراغ، وتوظيف المجرد بكونه توقيعا شخصيا، كأن كائناته وتنصيباته النحتية، وأشياءه الصباغية محمول تعبيري خالص. المتأمل في أعمال رشيد بودير يقف على خاصية تشكيلية متفردة، اتجاه تأثيري يقدم الفعل الصباغي في بساطته وتعقيداته، والمنجز هنا بيان وسجل بصري يشتغل على التحول لا "المسخ" بتعبير كافكا. إنها أعمال تحتفي بالإشكالية الجمالية الراهنة، ضمنها الشذرات الحروفية، والخيالات، والظل، والعمق.. آمن بودير بأن الإبداع التصويري سيرورة تعبيرية تنطلق من الهموم المحلية لتحتضن الآفاق الكونية، هاجسها العام هو سبك لغة بصرية لها عمق الدهشة وبلاغة الحلم. ويبدو حسب نقاد فنيين أنه حارس من حراس البلاغة التشكيلية التي تبلورت إرهاصاتها الأولى مع فنانين كبار طبعوا الساحة التشكيلية بميسمهم، إذ يعد بودير واحدا من المبدعين المعاصرين، الذين رفعوا صوت التعبير البصري بالاحتجاج والإدانة، مستنكرين كل المحاولات الهمجية الشرسة للقضاء على الإنسان والذاكرة والأمل في عيش حر وكريم. فكل لوحاته المشهدية هي رسائل نموذجية للحرية وقيم الحياة والوجود في أبهى صورها وأرقى معانيها. إننا في مقام التشكيل كأفق للإبداع والجمال وللشعرية الإنسانية التي تتجاوز كل لحظاتنا العابرة. بعد مسار صباغي تمثل في رسم الوجوه والمشاهد الطبيعية، والاتجاه التشخيصي، اعتمد في تجاربه الأخيرة على أعمال ذي تيمات مادية، التي وجد فيها ذاته الفنية، إذ يقدم أعمالا عميقة تتأسس على الرموز والعلامات، راصدا بكل ثقل صباغي، عالما موحشا بأبعاد طبيعية روحية، مشددا على أن "الفن التصويري يجب أن يراعي الواقع المادي في حدود الرؤية التجريدية الخالصة، مع الاعتماد على الألوان كوسيلة وقاعدة تركيبية للون"، حسب كاندنسكي.