تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحكومة تصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار، الذي تم رصده للمرة الأخيرة في المغرب    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدائن قاوتي وأبوابها السبعة
نشر في بيان اليوم يوم 30 - 05 - 2012


يسألونك: «أي المدائن هي مدينة قاوتي؟»
قل: «هي مدن سبع، لكل منها باب.»
يسألونك: «فهلا حدثتنا عنها بابا، فبابا!»
قل: «لمحمد قاوتي سبع مدن، لكل مدينة باب، ولكل باب حكاية... مدينة المعرفة وبابها فقه الألسن. المدينة الحمراء وبابها فقه الرفاق. مدينة الصنائع وبابها فقه التدبير. مدينة المسرح وبابها الكتابة. مدينة الهواة وبابها عشق أب الفنون. مدينة الاستنبات وبابها الجدة. مدينة الإنسان وبابها الصداقة.
1 - مدينة المعرفة، التي
بابها فقه الألسن
... وأما الداخل إليها، فما عليه إلا أن يسأل أهلها البيضاويين عن الفقيه قاوتي، وسيدلونه على القارئ الكبير الذي من فرط الاعتكاف على قضم الكتب، قديمها وحديثها، باللسانين العربي والعجمي، صار له من الاطلاع الواسع على التراثين الغربي والعربي ما قل نظيره في أوساط المسرحيين.
لا يمكنك أن تدخل مملكة محمد قاوتي دون أن يثيرك التجاور الثلاثي لعوالمه اللغوية والثقافية:
تمكنه الجيد من لغة الضاد، تليدها ومحدثها، وتعكسه عربيته الفصيحة التي تنم عن باع طويل في استغوار أمهات كتب التراث العربي الإسلامي وغير الإسلامي.
علو كعبه في لغة موليير، وتبحره في قراءة الأصول الغربية بعيدا عن الترجمات الرثة التي تفقد روائع المسرح العالمي رونقها وإدامها.
امتلاكه ناصية العامية المغربية، وبشكل خاص لهجة الشاوية، وغزارة خزائنه المعجمية واشتقاقاته اللغوية في هذا الباب.
ولعل الازدواجية الثقافية واللسانية في التكوين المعرفي الرصين لمحمد قاوتي؛ أضف إليها «تَاعْرُوبِيتْ»، هي ما يفسر لنا الخط الفريد المتفرد الذي طبع مسار تجربته المسرحية. فطبيعي أن تنتعش ورشة الاقتباس في أعماله؛ أليس الاقتباس هو الحلبة النموذجية لمبدع مزدوج اللسان يجمع في ثقافته المسرحية بين الرافدين الغربي والعربي؟ ألا ينهض الاقتباس هنا كأحسن صيغة تتيح للفنان صهر مرجعيتين مسرحيتين متباعدتين؟ («الذي يقول نعم والذي يقول لا» تتحول إلى «الْعَادَه». «في انتظار گُودُو تصير «سِيدْنَا قْدَرْ». «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» تتحول إلى «بُوغَابَه».) من هناك إلى هنا، رحلة من الأفق الكوني إلى الأفق المحلي والعكس؛ فأي غرابة، إذن، في أن يتقدم إلينا جانب مهم من ربرتوار قاوتي المسرحي في صيغة معادلة تجمع بين القالب الغربي والمحتوى المغربي: أصالة وانفتاح على الغير، وغيرية وتمسك بالأصل.
إنه نداء المعرفة عند الفقيه قاوتي، والحوار الفني الثقافي مع ثقافة وفن الغير. البحث عن المغاير وتحقيق المثاقفة في بوتقة الفني؛ إذ لا مسرح بدون معرفة، ولا مثاقفة بدون قدم راسخة في تربة وثقافة ولغة البلد، ولا رسوخ في تربة المسرح المغربي والعربي بدون الاحتكاك بالأصول، الغربية والعربية، وفي كلمة واحدة: كل مسرح يعول على الفطرة وحدها تقول تجربة قاوتي المسرحية لا يعول عليه.
2 - المدينة الحمراء وبابها فقه الرفاق
وهو باب يقودنا إلى التجربة الحزبية لقاوتي في صفوف اليسار التقدمي مع حزب التقدم والاشتراكية. نحن هنا مع قاوتي الشيوعي، حامل وصاحب الرؤية السياسية المتشبعة بالمادية الجدلية، ابن زمنه والممارس الحزبي للفعل السياسي من خلال الانضواء في حزب مغربي سليل المد الشيوعي في العالم. هنا، يطالعنا قاوتي الكائن التاريخي، قاوتي الجسد الاجتماعي المتموقع في صيرورة التاريخ وما يحبل به من صراع طبقي في دوامة مجتمع تقليدي، رأسمالي متخلف. فهو إذن، وإلى جوار كل الرفاق في مد الحركة اليسارية التقدمية بالمغرب متورط حتى النخاع في الدفاع عن قيم العدالة الاجتماعية، والحرية، والديمقراطية والحداثة وغيرها من المبادئ التي تخدم قضايا المجتمع المغربي. إنه قاوتي المثقف العضوي الذي يسعى إلى تحقيق توازن بين طرفي معادلة الثقافي والسياسي.
ورغم أنه لم يكتب مسرحا سياسيا بالمعنى المباشر للكلمة، ورغم استئثار التراث بالكثير من جهده الاستكشافي، ورغم اجتهاده في إيجاد أقنعة ورموز ومعادلات (القرامطة. الحلاج) لحقائق الواقع السياسية والاجتماعية، فإن مسرحه لم ينسلخ يوما عن الواقع المغربي، والأوضاع السياسية والاجتماعية للعالم العربي، فظل الهم الاجتماعي والخلفية السياسية لما كتبه في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ينمان عن تجذر الفن عنده في تربة الواقع المغربي بكل أبعاده، وعدم تعارض السؤال السياسي لديه بالمعنى العميق للكلمة، مع الهاجسين، الفني والثقافي.
3 - مدينة الصنائع وبابها
فقه التدبير
في هذه المدينة يطالعنا قاوتي المتمرد على شروط الوظيفة العمومية ورتابتها المقيتة، قاوتي الفنان، المدبر والمؤسس، رافض القيود، المتحول الذي يعرف كيف يجدد ذاته ولا يكررها، فيعيد تأسيس مساراته باستمرار.
ففي مدينة الصنائع، هذه، يطالعنا قاوتي، مؤسس شركة «روافد»، المنتج الناجح لبرامج تلفزية اشتغلت على توثيق ذاكرة المغاربة ووجدانهم، لغتهم وأمثالهم، حكاياتهم وخرافاتهم. (ألف لام، طباع، ياز وغيرها من البرامج) التي ستعود بالمشاهدين إلى منسيهم ومكبوتهم من الموروث الثقافي الشفوي والشعبي.
وهذا الانتباه إلى أهمية الذاكرة: ذاكرة الإنسان، وذاكرة الكلمة (التراث الشفوي بشكل عام) عبر برامج أنتجتها شركته، يظل محطة مضيئة في مسار تلفزة مغربية «مزمهرة»، «آمْنِيزِيكْ»، مثقلة بالمحو والنسيان.
وما يقال عن لمسته الإبداعية في الإعلام الثقافي، وإدارة مؤسسة شركة البيان، الناشرة لجريدتي البيان وبيان اليوم، لسان حال حزب التقدم والاشتراكية باللغتين العربية والفرنسية، يقال ضعفه عن قاوتي المناضل النقابي، أحد المؤسسين المحوريين للنقابة الوطنية لمحترفي المسرح وأمينها العام الأسبق، ناهيك عن قاوتي «التعاضدي» المتورط حتى النخاع في الدفاع عن وضع صحي سليم للجسد المسرحي المغربي؛ وهل منا من لا يشهد له بالضلوع في المحاولة الأولى من نوعها في تاريخ المغرب الفني لإخراج التعاضدية الوطنية للفنانين إلى الوجود؟
4 - مدينة المسرح
وبابها الكتابة
رغم أن قاوتي سبق له أن صعد فوق الخشبة بصفته ممثلا في أكثر من عرض مسرحي [«عْلاَشْ وْ كِيفْآشْ» (1974)، «الْگُفَّه» (1975)، «القرامطة يتمرنون كما رواها خُلِيّْفَه في سوقْ شْطَيْبَه»، «الحلاج يُصلب مرتين» في التوزيع الأول لها (1978)، «اندحار الأوثان» (1980)، «رحلة مُوحَ» (1981)، «نزهة الدم» (1982)]، غير أن الصفة الملازمة والمطابقة لمساهمته الفعلية في المسرح المغربي هي الكتابة؛ والكتابة هنا تحضر بمعناها المزدوج: التأليف والاقتباس. فربرتواره تنويع على هذين الخطين المتوازيين في الاشتغال على المسرح (الْگُفَّه، الْعَادَه، القرامطة يتمرنون كما رواها خُلِيّْفَه في سوق اشْطَيْبَه، الحلاج يصلب مرتين، اندحار الأوثان، رحلة مُوحَ، نو مانس لاند، سِيدْنَا قْدَرْ، بُوغَابَه، نُورْ عَلَى نُورْ، الرِّينْگْ، حَبّْ وَتْبَنْ)، نصوص موزعة بين التأليف والاقتباس، وإنتاج لم يقف في امتداداته الركحية عند حدود فرقة «السلام البرنوصي»، بل امتد ليعانق بإشعاعه تجارب فنية رائدة في تاريخ الحركة المسرحية المغربية رفقة مخرجين مرموقين في مجالات اشتغالهم، أمثال عبد الواحد عوزري مع فرقة «مسرح اليوم»، وعبد الإله عاجل مع فرقتي «مسرح الحي» و»مسرح الشمس»، والطيب الصديقي (ملحمة نور على نور). إلى هذا، لا ننسى مساهماته في ترجمة حكايا تربوية عن اللغة الفرنسية نشرت في باريس ضمن منشورات L'école des loisirs، وهي على التوالي: «رحلة في خيال قط» عن Je suis parti، الكرسي الأزرق عن La chaise bleue، و»زوزو» عن Zou.
5- مدينة الهواية وبابها
عشق أب الفنون
في هذه المدينة، وصحبة فتية مغامرين ما لبثوا أن صاروا بدورهم فنانين مرموقين سطع نجم محمد قاوتي، فمع نشيخ إبراهيم، آيت التاجر الحسن، عمر لهبوب، سعيد الهليل، الأزهر، عويدي وآخرون، سيتكرس محمد قاوتي كاسم وازن من أسماء تجربة «السلام البرنوصي»، وبالتالي، كفارس من فرسان الكتابة والتأليف في مسرح الهواة. هذه المدرسة الأم، الرئة الأولى والتربة التي بفضلها توهج التمثيل والمحاكاة والفرجة وقيم اللعب وأشكال التعبير بمغرب سنوات الرصاص والقرطاس. وقد استطاع قاوتي بتآليفه واقتباساته المتنوعة أن يشق طريقه في هذا النهر الخالد والرحم الذهبي بكتابة مغامرة وجميلة، ستترك وشمها بارزا في تاريخ المسرح الهاوي الذي عرف عصره الذهبي في عقدي السبعينات والثمانينات.
ومحمد قاوتي إنسان ملسوع على حد تعبير الراحل محمد تيمد لذلك يقترن مساره وذاكرته وجيله بعشق أب الفنون. جيل أحب المسرح وضحى من أجله. تطوع وأعطى مسرح الهواة قبل «سياسة الدعم» أو مسرح «الحمل على العاتق» على حد تعبير الصديق گويندي ، وللتاريخ غدا أن يحكم أي الكفتين أرجح: كفة الذين ربح بهم ومنهم تاريخ المسرح المغربي، أو كفة الذين ركبوا الموجة، تربحوا من المسرح وخسرنا بركوبهم عشق المسرح.
6 - مدينة الاستنبات
وبابها الجدة
في هذه المدينة يجري قاوتي في المسرح المغربي مجرى العزف على وترين اثنين:
- استعارة القالب الغربي (الأفق الكوني) ومغربة المحتوى (الأفق المحلي).
- تدوين التراث اللهجي الشفهي المغربي انطلاقا من استراتيجية الاستنبات.
والاستنبات عنده ليس مجرد محاكاة استنساخية، بل هو استفزاز حواري وصهر فني لحساسيتين وزمنين وأفقين متباعدين: الدراما الغربية والثقافة الشعبية المغربية. القالب المسرحي الغربي والروح المغربية المودعة في العامية.
إن القول بانتفاء المسرح في الثقافتين المغربية والعربية يواجهه قاوتي باستغوار بئر اللغة العامية، والثقافة الشعبية المغربية، والروح المغربية الكامنة في مستودع لغة البادية. وهنا، يعلي من شأن بلاغة العامية ليكشف من خلالها كيف أن الروح المغربية المودعة في اللسان الدارج، هي روح درامية، تراجيدية، زاخرة بالسخرية والشاعرية والإيقاع، تمتلك من المواصفات ما يؤهلها لاستيعاب أسمى وأصعب وأدق المواقف والحوارات الدرامية.
ولسبب ما، يحلو لي أن أشبه قاوتي في علاقته بعامية الشاوية بسيدنا نوح، فكما أن هذا النبي الصالح خشي على الخلق من الفناء بالطوفان فأقدم على جمع زوجين من كل صنف في سفينته، فكذلك نجد قاوتي، شأن من يخشى على فصاحة عامية الشاوية من الانقراض، يحول «استنباتاته» إلى سفينة نوح من نوع خاص، تنتشل أوابد اللهجة وشوارد كلماتها من النسيان، وإن نصوصه المسرحية «المستنبتة» لتتحول إلى قواميس متحركة آهلة بمخزون الشاوية اللهجي، وهو هنا يكون قد ضرب أكثر من عصفور بحجر الاستنبات:
- مناهضة الكتابات التقليدية التي سادت في المسرح الاحترافي عبر تجديد مفهوم الاقتباس.
- جعل الاستنبات شكلا من أشكال الانصهار في النصوص الأصلية.
- خدمة العامية الشاوية عبر وصلها بسياقات فنية جديدة، والجمع بين هدفين:
- تفجير الممكنات الاشتقاقية للهجة.
- تدوين كنوزها ولآلئها المعجمية والتركيبية والصرفية.
إنه نوح الشاوية وابن منظورها الذي وثَّق في مسرحه ودوَّن من الكلمات والأمثال والصيغ التعبيرية ما عجز عنه اللسانيون، وهو بصنيعه هذا يكون قد لبى نداء جدته، تلك المكتبة الشفوية التي أودعته وهو طفل سر اللسان الشاوي، فلما أقبل على فقه الاستنبات أطلق العنان لذاكرة طفولته، فإذا أدبه المستنبت يتحول إلى رافعة للإفراج عن مكبوت تراثنا الشفوي.
7 - مدينة الإنسان
وبابها الصداقة
تعود علاقتي بالسِّي محمد قاوتي كمتفرج إلى منتصف الثمانينات، وبالضبط إلى أحد أيام شهر دجنبر 1986، في الدورة الثانية للقاء الوطني للمسرح بمكناس الذي كانت تنظمه جمعية رواد الخشبة تحت شعار «نحو تجريب مسرحي يؤسس الفعل». «نومانس لاند» هو عنوان أول عرض مسرحي شاهدته له في ذلك العهد مع فرسان «فرقة السلام البرنوصي»، قبل أن يصنع الحدث الأكبر مع فرقة «مسرح اليوم» بالعرض المنعطف «بُوغَابَه».
وإلى يومنا هذا، ما يزال يتماوج في مشهد ذاكرتي فضاء الزنزانة الجماعية، والحوار الأشبه بالمونولوج بين النزلاء الأربعة، ومشاهد التحول بين جوقة الأقنعة وجوقة الوجوه. عرض مسرحي كثف أجواء السبعينات والثمانينات برمزية عالية، ونقل الحالة السياسية والوجودية والاجتماعية لسنوات الرصاص بلغة مسرحية كثيفة مشبعة بالمرجعية الصوفية، والعمق الشاعري الباذخ الذي عرف كيف يتخلص من النزعة الأدبية في تأليف النص، سعيا نحو ترسيخ أسلوب في الكتابة الركحية لا يخلص إلا لمقتضيات الدرامية المنشودة.
منذ ذلك العهد، وأنا أحتفظ لقاوتي وفرقة «السلام البرنوصي» في ذاكرتي بصورة مشرقة، مضيئة، تقترن بالدهشة اللذيذة التي حصل عليها الجمهور المكناسي (المسرحي بامتياز) في قاعة المحاضرات بقصر المعرض. كما لم يكن اعتباطيا، أن هذه المسرحية نفسها ستتوج في نفس الموسم (1986) بالمهرجان الوطني 26 لمسرح الهواة، فتحصل على جائزة التشخيص (عمر لهبوب) وجائزة الإخراج (نشيخ إبراهيم).
أذكر أنني كنت يومها واحدا من عصابة فتية مكناسيين، رضعوا المسرح من أجواء الحركة المسرحية النشيطة التي رسختها في مكناس أمجاد مهرجان الحبول، وجمعية الفصول، واللقاء الوطني لجمعية رواد الخشبة، ورموز المراحل المتوالية (بوزوبع، تيمد، المنيعي). كنا ملسوعين ولا نترك عرضا رديئا يمر بمكناس دون أن نلحق بصاحبه وابل الانتقاد الذي هو أقرب ما يكون إلى المحاكمة. فلما شاهدنا «نومانس لاند»، تنزل علينا العرض كالنَّدى، تفاعلنا مع أجواء الزنزانة الخراب، أو الأرض الخراب التي نجح نشيخ إبراهيم في مسرحتها على خشبة قاعة المحاضرات بقصر المعرض. لذلك، فقد «اَعْطَيْنَا التِّيسَاعْ لقاوتي وصحبه».
ذاك قاوتي الفنان، الذي عرفته متفرجا، أما قاوتي الإنسان الذي جمعتني به الصداقة والمودة فهو صديق نادر في زمن عزت فيه الصداقة. وإذا كان لقاوتي عدة تجليات: المؤلف والأستاذ، المترجم والمثقف، المناضل الجمعوي والمناضل الحزبي، المناضل النقابي والمناضل التعاضدي، الفنان المسرحي والرفيق الشيوعي، المزدوج اللسان والعروبي، الصحفي والمدير... إلخ... إلخ... فإنك ما إن تقترب منه ويقترب منك حتى تكتشف وجها إنسانيا عميقا ودافئا لواحد من القلائل الذين يعرفون قيمة الصداقة، وما يعنيه الإخلاص للأصدقاء في السراء والضراء. فهو من الصنف الذي إذا أحبك محضك حبا خالصا وتفانى في محبتك، قولا وفعلا. وهو، قبل هذا وبعده صاحب مجلس وطقس ومسامرة. لمجالسته آداب، ولطقوسه أوفاق، ولمسامراته سنن، ومن تلك السنن الأناقة: أناقة الملبس وأناقة الروح. أناقة المشرب وأناقة الكلام. أناقة المعشر وأناقة الشجن. أناقة الجد وأناقة الهزل.
فإليك أيها العزيز، وقد انتهت رحلتي بين مدنك ومدائنك إلى ما ترى من بوح؛ إليك عميق المحبة وجميل الاعتزاز بك فنانا، ومناضلا، وإنسانا، وصديقا، وعلما من أعلام مسرحنا المغربي.
مكناسة الزيتون
1 أكتوبر 2011
أستاذ باحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.