كجُرأة السُّوبرمان، أو كَعَنْتَرَة عنتر بن شداد العبسي، أجاب السيد مارك عن السؤال، ببراءة وبرودة، وهو يتحسس خَضْمه، ويمسح جيدَهُ من دنس خلفه العرق. كان من المنتظر أن يصاب السيد مارك بتبول أو غائط في حينه، من شدة خطورة السؤال الذي تلقاه من الآنسة أنجليك، صحافية، فضولية، متهورة، تجيد نسْجَ الأسئلة الآنية. كانت تصغره سناً، وتفوقه جمالاً. تلقى منها السؤال دون أن يناقرها، وأجاب بعفوية، دون تمتمة، وهوَ لا فوق ربْوَة، ولا على منصة، ولا يتَّكئ على منزلة رفيعة لترفع عنه الشَّوْكَة. مجرد مواطن من درجة إنسان، ليس بنعَّاق، طعامه خبز وماء. يحمل في جيبه هُويَّته، وآلة قد يستخدمها لالتقاط مشهد يهز مشاعره، ومطرية في يده ترد عنه قطرات المطر، التي تأتي وقد لا تأتي، حسب الأرصاد الجوية التي يومن بها، كما آمن سيدنا نوح بقدوم الطوفان. وهو يصنع سفينته. كانت مدينة روتردام القابعة على ضفاف بحر الشمال الهولندي وجزء بسيط من البحر الأبيض المتوسط، على موعد مع ذكرى مرور ستة عقود مرت على تأسيس جمعية الفروسية. وتسابق المغرمون بها على اختلاف مشاربهم، من أجل الحصول على مقاعد، تمكنهم من المشاهدة عن قرب. إحْوَلَّتْ عيون أغلبية هواة الفروسية في اتجاه واحد، والبعض الآخر، لم يبال بما حوله، لكن مع ذلك، إرتاب السيد مارك، أن شيئاً يحدث من حوله غير عادي. فكر أن يتسلل مثل بعوضة من بين الحوافر والأقدام، ليطلع على المجريات. كل شيء يمكن حدوثه. قد يكون أحد الثعابين ضَلَّ طريقه، تحت شدة برودة الطقس، وجاء لإزعاج الخيول، حتى لا تؤدي دورها. لم يحصل شيئا من ذاك، أو من هذا القبيل. مارك أزعجه السؤال، وقد يكون تسرعه في الرد، خلق له التهابا بداخل غُدَّته. صوت مروحية قريبة من مركب الفروسية. زادت من غثيان نفسه، وقد تَبْيَضُّ لحيته قبل أوانها. قد تلقي القبض عليه الشرطة براً وبحراً، حتى حشرات الغَلَسْ لن تقدر على نجاته من قبضتهم. مارك لم يقل سوى جملة واحدة. لو وضعت في كفة الميزان، لما انقلبت الكفتان. أقلقه لونه الخمري، كما اقلقت البغل هيئته التي شارك فيها الحمار والده، وأمه الفرس. سيدلي بهُويته إذا مسه شر من هذا الذي هزْهَزَه، رغم سمرته، فهو صخرة من أرضهم، عن أب وجد، ومن حقه أن يعبر عن رأيه بغض النظر عن انتمائه، ولو بالنواجذ. هنا تلقن متن مَدّهم وجَزْرهم، وعوَّدوه على كسر المكْبَح. لا ضَرَر، إذا كان قد صرح لأنجليك بحقيقته. إنه لم يحضر للفرجة على ملامح الملكة بياتريكس، وهي توزع ابتسامتها شمالا ويمينا. حضوره، إعجابه بالخيل حتى النخاع، وقطعه مسافات، لم يكن من أجل قراءة ما بناصية الملكة، وإلاَّ كان عليه أن يجهض من نخاعه ما يستهويه، ويلتزم بما يفرض، وهذا محال من المحال. بقي رَدُّ مارك على سؤال أنجليك يتدحرج بين دواليب عقارب حركاته. إحتكم لنزواته، قبل أن يهْرُب من موقفه. تذكر في يوم من الأيام فيلْدَرسْ اليميني المتعجرف والمتطرف العنصري، صاحب فيلم فتنة، الذي احتقر فيه الإسلام والمسلمين والقرآن، وطالب بطرد الأقليات المسلمة، ومنع المرأة من ارتداء البرقع والحجاب. حاباه القاضي، وتملص من محاكمته العادلة وهي السجن والغرامة، مثل تملص السمكة من يد الصياد، بدعوى، حرية الرأي. مارك يحدث ذاته المنهكة: أنا لم أقل مثل ما قال أحد المتمشدقين/ثوار الكومير، الذي كان يجب الحكم عليه بالقصاص وبتر لسانه حتى الحوصلة. أنا لم أزرع خيَّاراً لتسميم الأبرياء كما حصل في ألمانيا جارتنا. ما كنتُ هَجيناً يوماً؟ أنا لم أُهَرّبْ أموال الوطن الى البنوك الأوروبية، تحسبا لليوم الأسود وتسلحت بسماسرة ليشتغلوا لحسابي. لم أرُد بالمثل، لم أنطق بعَفَن، لم أوزع عاهات، ولم أمنع اللواط على أحد. مشيت مسافات من أجل مشاهدة القفز على الحواجز. فقط. فقط، فقط، وتظل فقط، نقطة لا تقبل شريكة ولا داعي لصَاتَ يَصُوتُ صُوتاً. ربح من ربح. وخسر من خسر من الأفْراس البَلقَة، وعاد السيد مارك الى بيته على دراجته النارية، متأسفا، لا قلقاً، لأنه أضاع مطريته، وقد بلل الرذاذ معطفه، وهو ما كان يشتكي منه طول الطريق.