ننشر فيما يلي نص المحاضرة التي ألقاها كريم مروة في مجمع الرسالة في مدينة عاليه (لبنان) بدعوة من نادي خريجي روسيا الاتحادية برئاسة الدكتور رياض نجم (2011-10-7). عرض مروة في المحاضرة أفكاره التي استخلصها من لقاءاته مع قادة الثورات في تونس ومصر وسوريا والبحرين، ومع شباب الثورات في هذه البلدان. وكان مروة قد ألقى عدة محاضرات في تونس ولبنان والعراق وباريس حول هذه الثورات وحول شروط قيامها وحول المستقبل الذي تعد به العالم العربي. الحرية والخبز والكرامة، تلك هي الشعارات التي حملتها وانطلقت باسمها الثورات العربية المعاصرة. وهي شعارات تشير في جوهرها إلى أن الإنسان هو القيمة الأصلية في الوجود، وأن إنسانيته لا تكتمل إلا إذا اقترنت بالحرية التي يشكل امتلاكه لها الشرط الضروري لنضاله من أجل تأمين خبزه وعيشه الكريم. والإنسان هو دائماً فرد وجماعة في الآن ذاته. والجماعة هي في الأصل جمع لأفراد أحرار. فإذا انتفت الحرية عند هؤلاء الأفراد في أي جمع في أي زمان وفي أي مكان يتحول هذا الجمع ويتحول الأفراد فيه بفقدانهم حريتهم من جمع لمواطنين أحرار إلى جمع لرعايا فاقدي الوعي بحقيقة أنهم بشر حقيقيون، والوعي بأنهم أصل الوجود على الأرض وجوهر هذا الوجود. وهم، إذ يفقدون وعيهم هذا، إنما يفقدون معه إرادتهم الحرة. ويصبحون عملياً، كأفراد وكجماعات، أدوات طيعة ومطوعة في تأسيس الشروط التي تهيئ لولادة الإستبداد، وتؤمن للمستبدين شروط وجودهم واستمرارهم. وقد شهدنا في التاريخ القديم والحديث في بلداننا وفي البلدان الأخرى صيغاً متعددة لهذا الإستبداد وأنواعاً متعددة للمستبدين. من هنا، وإنطلاقاً من هذه الحقائق الجوهرية بالذات، أتحدث إليكم اليوم عن حاضرنا وعن مستقبلنا وعن المعنى الكبير لكون شعار الحرية هو الشعار الطاغي في ثوراتنا العربية المعاصرة، مقروناً بالدعوة الجريئة والحاسمة إلى إسقاط أنظمة الإستبداد السائدة. اسمحوا لي بعد هذه المقدمة أن أحدد لكم من أي موقع فكري وسياسي وتاريخي أتحدث أمامكم عن الثورات العربية المعاصرة وعن المستقبل الذي تعدنا به. وأبادر إلى القول بوضوح بأنني إنما أتحدث من موقعي كديمقراطي علماني، ويساري معاصر. وكوني يسارياً معاصراً يعني بالنسبة إليّ أمرين متلازمين. الأمر الأول هو أنني ابن تجربة يسارية إشتراكية ذات تاريخ عريق مليئ بما حفلت به تجاربنا من إنجازات ومن إخفاقات، من الصواب فيها ومن الخطأ. الأمر الثاني هو أنني قد تحولت بالتدريج من ذلك التاريخ القديم الذي لا أتنكر له إلى تاريخ جديد معاصر مختلف. وهو تحول قادتني إليه تحولات العالم المعاصر والخلاصات التي استنتجتها من تجاربي وتجارب الحركة التي كنت جزءاً منها على امتداد عمري. واسترشدت في تحولي هذا بما نصح به وشدد عليه مفكرو الحركة الإشتراكية الأوائل والمفكرون الآخرون الذين هيأوا للثورات والذين قادوها. وما نصح به هؤلاء الرواد الكبار من المفكرين وما شددوا عليه هو حتمية التواصل في حركة التاريخ بين أحداثه في مراحلها المختلفة وحتمية الإرتباط الموضوعي في الفكر وفي الممارسة مع التحولات التي تحصل في حركة التاريخ، وضرورة الإستعداد الدائم لتجاوز القديم في اتجاه الجديد الذي يولد من رحم هذه التحولات. والشرط الضروري لكي يكون هذا التجاوز للقديم سديداً ورشيداً هو أن يترافق بالإحتفاظ بالقيم وبالمثل التي يعبّر عنها الإتحاد الوثيق بين الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية. ولأنني ديقراطي علماني ويساري معاصر بالمعنى الذي أشرت إليه فإنني أحاول أن أتجاوز في الحاضر وفي تحولاته ما شاخ من الأفكار والمفاهيم القديمة، وأحاول أن أتحرر مما ارتبط بتجاربنا القديمة من أخطاء ومن عناصر خلل في الفكر وفي الممارسة قادت التجربة الإشتراكية الأولى في التاريخ إلى الفشل وقادت الكثير من الحركات الأخرى التي حملت شعار التغيير الديمقراطي إلى الفشل أيضاً. من موقعي هذا أتحدث إليكم بثقة عن المستقبل الآتي الذي تبشر به ثوراتنا العربية المعاصرة. لكنني كديمقراطي علماني إنما أنطلق من كوني أنتمي إلى بلد هو لبنان الذي لا أستطيع أن أتحدث في أي أمر يتعلق بالتحولات الجارية إلا من انتمائي إليه بالتحديد. والتأكيد على لبنانيتي هو تأكيد في الآن ذاته على أن هذا اللبنان بخصوصياته هو جزء مكون ثقافي وتاريخي من العالم العربي. لذلك فنحن معنيون كلبنانيين وكديمقراطيين على وجه الخصوص أن نرى للبنان المكان الذي يعود له في هذا الربيع العربي الذي يحمل اسم الثورات العربية المعاصرة. وبالطبع فلبنان كما نعرف ليس جزءاً من أنظمة الإستبداد التي تقوم هذه الثورات للتحرر منها. لكنه، برغم نظامه الديمقراطي الذي تأسس مع تأسيس الدولة اللبنانية الحديثة، يعيش منذ عقود في أزمة تجعله شريكاً حقيقياً لأشقائه العرب في النضال لتحقيق التغيير الديمقراطي. لقد كثرت الكتابات والأحاديث حول الثورات العربية. وكثرت التحليلات والتوصيفات والتسميات للحدث الكبير. ورغم أن ثمة إجماعاً على أن هذا الحدث هو حدث تاريخي غير مسبوق في شكله وفي مضمونه وفي استمراريته تحت شعار الحرية، فإن البعض ينأى عن إعطائه صفة الثورة. وهو أمر يدعو إلى الغرابة. وأعلن بوضوح وبجزم اختلافي مع هؤلاء، وأؤكد بأن ما نشهده هو ثورة بكل المعاني. وفي رأيي فإن المعنى الدقيق الذي تشير إليه كلمة ثورة هو أنها تدعو إلى إحداث التغيير في اتجاه الأفضل والأرقى. وهذا بالتحديد ما تدعو إليه وتناضل من أجل تحقيقه ثوراتنا المعاصرة تحت شعار الحرية والخبز والكرامة والحق في الحياة باسم المواطنة والحق في العيش الكريم باسم العدالة الإجتماعية. وهي الشعارات التي يكاد يصل بعضها إلى التحقق ويذهب بعض آخر منها في طريقه إلى التحقق. ألا يعني هذا الإستمرار في الحراك تحت هذه الشعارات والشجاعة والإقدام والثبات والتضحيات التي يقدمها الشباب أننا أمام ثورة حقيقية؟ وفي الحقيقة فإن جميع هذه الصفات والسمات التي يحملها هذا الحراك الشعبي بشعاراته الأساسية التي تتمحور حول الحرية إنما تشير إلى وعي يزداد عمقاً ورسوخاً في اتجاه تحرير بلداننا من أنظمة الإستبداد بصيغها المختلفة التي عاشت في بلداننا عقوداً وعاثت فساداً وإفساداً وأفقرت شعوبنا وأحدثت تخلفاً في بلداننا وأخرجتها بالقسر من التاريخ المعاصر للعالم. وهمشت السياسة وأفرغتها من وظيفتها الثقافية والمعرفية ومن ارتباطها بالأخلاق، وحولتها إلى ميدان للنفاق والخداع. وغطت بديماغوجيتها الخرقاء هزائمها أمام العدو الإسرائيلي تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وحولت الجيوش إلى أدوات قمع لحماية أنظمتها. ومارست بحق الفلسطينيين في وطنهم وفي مخيمات القهر والإذلال أبشع أشكال العسف. وأسهمت بتدخلاتها الفظة في تفتيت وتقسيم حركتهم الوطنية. وأدخلت القضية الفلسطينية في المتاهات. وعقدت المسار التاريخي الذي يقود إلى ولادة الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة على أرض فلسطين على قاعدة السلام العادل الذي ما يزال في مهب الرياح العاتية. قلت بأن كتابات وأحاديث كثيرة قد صدرت في وسائل الإعلام وفي المنتديات العربية والأجنبية وكتابات وأحاديث كثيرة أخرى ستصدر من قبل المثقفين من مدارسهم واتجاهاتهم وأفكارهم المختلفة، كتابات وأحاديث تناولت في تحاليلها الثورات في انطلاقتها وفي مسارها التاريخي. والتنوع والتعدد والإختلاف في التحليلات هو أمر طبيعي. لكنني أرى أن علينا، نحن الذين نمارس حقنا وواجبنا بالكتابة وبوسائل أخرى للتعبير عن أفكارنا، ألا نحمّل الثورات العربية في هذه المرحلة من قيامها أكثر مما تحتمل. بل أن علينا أن نسهم كل منا من موقعه في جعلها ترتقي بالتدريج في الإتجاه الذي يهيئ الشروط لتحقيق الشعارات التي ترفعها، آخذين في الإعتبار أنها قد حققت إنجازاً تاريخياً يتمثل في إعادة اعتبار الإنسان العربي إلى ذاته وفي إيمانه بأنه صاحب حق لا جدال فيه في الحياة الحرة وفي العيش الكريم. لكن من بديهيات الأمور، ونحن نتحدث عن الثورات، أن تكون لكل بلد ولكل ثورة فيه خصوصياتها. هكذا كان الحال في التاريخ القديم. وهكذا هو الحال في التاريخ الحديث. غير أن ثمة مشتركاً أكيداً بين ثوراتنا العربية المعاصرة. وهو مشترك لا يفقدها خصوصياتها. يعبّر عن هذا المشترك كون جميع هذه الثورات ترمي إلى تغيير الواقع المأساوي الذي تعاني منه شعوبنا في ظل الأنظمة الإستبدادية وإلى تهيئة الشروط للإنتقال من هذا الواقع إلى واقع أفضل منه من خلال إسقاط أنظمة الإستبداد. وثمة مشترك آخر لثوراتنا العربية يتمثل في أنها تعبّر عن المصالح الحقيقية التي توحد بين البلدان والشعوب العربية وتؤسس لوحدة حقيقية مختلفة جوهرياً عما ساد من أفكار كان بعضها ضبابياً رومانسياً وكان بعضها الآخر نقيضاً لفكرة الوحدة ومشوّهاً لجوهرها. والوحدة التي تشير إليها موضوعياً هذه الثورات ستتحقق ذات يوم. وستقوم عندما تتوفر شروط قيامها على احترام خصوصية كل بلد وكل شعب وعلى الديمقراطية والتعددية وعلى الذهاب معاً في اتجاه مستقبل أفضل يحقق للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة في بلداننا الحرية والعيش الكريم في ظل نظام ديمقراطي حقيقي وفي ظل دولة مدنية، دولة حق وقانون، دولة مواطنة وحقوق إنسان ورعاية وعدالة إجتماعية. وإذ نتحدث اليوم عن هذه الثورات في بلداننا فلا بد لنا من أن نرى بأنها حين انطلقت في تونس ثم في مصر ثم في البلدان العربية الأخرى إنما كانت العفوية طابعها الطاغي. وهي عفوية ترافقت مع وعي ظاهر ووعي باطن. وما أن سلكت طريقها وكونت جمهورها حتى بدأ الوعي الحقيقي يحتل مكان العفوية لدى أقسام واسعة من جمهورها. والعفوية في قراءتي لها في هذه الثورات إنما تتمثل في أن الهبّة الشعبية، التي كان الشباب والعمال والمهمشون والفقراء والكثير من المثقفين يشكلون قوتها الأساسية، كانت في جوهرها رد فعل غريزي على قهر دام عقوداً في ظل استبداد استخدم سادته كل ما في ترسانة الإستبداد من عمل لتدمير حياة البشر وتحويلهم إلى أدوات فاقدة للوعي والإرادة ومستسلمة لواقعها المرير. وكانت تلك الهبة الشعبية تعبّر في بداياتها في شكل بسيط ومباشر عن المشاعر التي طغت على وجدان هؤلاء الناس، المشاعر التي كانوا يعبّرون فيها عن ذواتهم بأنهم أناس لهم حقوق وأن الأساسي في حقوقهم هو حقهم في الحرية والكرامة وفي الخبز وحقهم في العيش الكريم، وأن قاهرهم وسالبهم حقوقهم هو نظام الإستبداد الذي أشهروا في وجهه شعارهم البالغ الدلالة: الشعب يريد إسقاط النظام. إلا أن انفجار هذه الثورات في هذا الوقت بالذات وفي هذه المرحلة بالذات من تاريخ بلداننا ومن تاريخ العالم المعاصر لم يأت من فراغ، لم يأت من زمن صفر. بل هو جاء استكمالاً لتاريخ سابق قديم وحديث من النضالات والإنتفاضات والتضحيات على امتداد عقود طويلة سابقة على قيام أنظمة الإستبداد ومترافقة ومتلازمة معها. وهي حركات قمعتها أنظمة الإستبداد بوحشية، وعطلت استمراريتها عناصر الخلل في داخل مكوناتها السياسية المتعددة اتجاهاتها وصيغها والمتعددة أشكالها وأدوات نضالها. انطلاقاً مما ارتبط بثوراتنا المعاصرة في أشكالها وصيغها المختلفة أرى أننا مدعوون لأن نقرأ بعناية وبمسؤولية وبمعرفة حقيقية إلى أين تتجه وإلى أي مستقبل تقود العالم العربي. وهذا هو في الحقيقة الموضوع الأساسي الذي نحن بحاجة لأن نناقشه بموضوعية وبواقعية ومن دون أوهام ومن دون أفكار مسبقة. وأول ما يتبادر إلى الذهن في قراءتنا للمستقبل هو الموضوع المتعلق بالبرنامج الذي يفترض أن تتحدد فيه مهمات للمراحل اللاحقة في النضال مرحلة إثر مرحلة تحقيقاً لما قامت هذه الثورات من أجله. وفي اعتقادي فإن هذه الثورات قد بدأت تشق طريقها إلى مستقبل جديد للعالم العربي. وأول هذا الطريق إلى المستقبل وأول بند من بنود هذا البرنامج المفترض لهذه الثورات يتمثل في الإصرار على اعتبار أن النظام القديم قد بدأ يصبح جزءاً من الماضي. بمعنى أن أنظمة الإستبداد قد بدأت تخلي قسراً، وبفعل هذه الثورات، المكان الذي كانت تحتله لصالح المستقبل الآتي. وهذا القطع الجازم بأن أنظمة الإستبداد قد بدأت تصبح من الماضي لا يقلل من شأن الطابع الهمجي عند بعض سادة هذه الأنظمة في مقاومة حركة التاريخ، ولا يقلل من شأن ما تقوم به بعض فلول النظام الذي سقطت رموزه من أجل العودة في صيغ جديدة لعرقلة مسيرة الثورة في اتجاهها نحو بناء النظام الجديد. وإذ أشير إلى الخطورة المتمثلة بالوحشية التي تقاوم بها أنظمة الإستبداد التغيير الذي تدعو إليه الثورات، فإنني أود أن أركّز على ما ينتجه هذا العنف من عنف مضاد. فالدم يستسقي الدم. والعنف والدم والدمار إنما تولد الحقد، وتهيئ الشروط لراديكالية شعبوية تطغى فيها المشاعر على حساب العقلانية والواقعية اللتين يشكل تلازمهما الشرط الضروري لجعل الصراع بين الماضي والمستقبل يصب في صالح المستقبل المنشود. ومن المعروف في كل الأزمنة أن الهدم هو أكثر سهولة من البناء، رغم ما يرتبط بهذا الهدم في حركة التغيير من دماء ودمار. وهو ما نشهد نماذج صارخة عنه في أكثر من بلد عربي يحتضن الثورات المعاصرة. لكن الأصعب من الهدم هو بالتأكيد بناء الجديد على أنقاض ذلك القديم الذي يجري هدمه. إلا أن علينا أن نرى بواقعية وبموضوعية وبثقة بالذات بأن المستقبل المنشود إذ يأتي بفعل هذه الثورات فإنه يحمل معه بعضاً من الماضي الذي يمضي. ويختلف حجم هذا القديم وتختلف صيغه باختلاف الشروط المتصلة بحركة التغيير التي تعبر عنها هذه الثورات، وبقدرتها، قوى وبرنامج، على تحقيق الإنجازات في اتجاه المستقبل الآتي. وبمقدار ما يرتقي الوعي عند القوى صاحبة المصلحة الأساس في بناء هذا المستقبل الجديد، وبمقدار ما يكبر جمهورها الواعي ستكون قادرة، وسط هذا التنوع والتعدد في قوى الثورة، على تحديد طبيعة هذا المستقبل الآتي وطبيعة وحجم الإنجازات ذات الصلة بأهداف الثورات التي يمكن تحقيقها. وستكون قادرة في الوقت عينه على التخفيف من الأخطار التي يمثلها وجود بقايا النظام القديم في النظام الجديد. أقول ذلك انطلاقاً من أن الثورات التي عرفها تاريخنا وتاريخ العالم القديم والحديث، وكانت تبشر بمستقبل أفضل، لم تكن صافية في وحدة قواها وفي وحدة اتجاهها. بمعنى أنها كانت على الدوام خليطاً من القوى ومن الإتجاهات ومن أنماط وأشكال النضال وأدواته. وثوراتنا المعاصرة هي شبيهة بالثورات السابقة في عدم صفائها بالمعنى المشار إليه. ثم أن الثورات السابقة لم تقدم لنا النموذج الذي يقتدى به. إذ هي فشلت في منتصف الطريق لأسباب يعود الأساسي منها إلى القمع الذي واجهها من النظام القديم، ويعود قسم آخر إليها هي بالذات بسبب الخلل الذي رافق مسارها ومسيرتها. لكنها، برغم القمع وبرغم الخلل، قد خلفت وراءها إنجازات استمر بعضها وورثتها الثورات العربية، وتعطلت أخرى في منتصف الطريق. لذلك فمن الصعب، ونحن نرى هذه الثورات جامحة في نضالها الشجاع لإحداث التغيير، أن نتنبأ بالمستقبل الآتي. ذلك أن صنع هذا المستقبل سيتطلب توفر الشروط التي تجعله قابلاً للتحقق وفق ما يبتغيه الثوار ويحلمون به ويطمحون إليه. ومصدر الصعوبة هو أن الثوار، بتعدد وتنوع قواهم، ليسوا وحدهم الذين سيصنعون ذلك المستقبل. إن لهم شركاء من كل الأنواع ومن كل الإتجاهات. ومن بين هؤلاء الشركاء من يمثلون بصيغ مختلفة بعض الماضي الذي انتفض الثوار عليه. يضاف إلى ذلك أن ثمة قوى التحقت بالثورة بعد قيامها وصارت جزءاً منها ومن قيادتها. أقول ذلك من قبيل الحذر وعدم الوقوع في الوهم، من دون أن أقلل مقدار ذرة من أهمية ما ارتبط ويرتبط بشجاعة الثوار وباستمرارهم في الكفاح من أجل جعل المستقبل الذي يذهبون إليه يعبّر تعبيراً حقيقياً عن طموحاتهم. ورغم أن القوى الأساسية في ساحات النضال هي قوى الشباب والفقراء والمهمشين من مواقعهم الإجتماعية المختلفة الذين وقع عليهم العبء الأكبر من الإستبداد، فإن القوى الأكثر فعالية في الثورة بعد قيامها هي القوى الأكثر تنظيماً داخل تلك القوى على وجه التحديد. وبالتأكيد فليس بمقدور أحد أن يدعي امتلاك الحق في تحديد وجهة الطريق التي تقود إلى المستقبل المبتغى الوصول إليه، وتحديد المهمات للمرحلة الأولى وللمراحل اللاحقة. إلا أن الأساسي من المهمات الموضوعة على جدول أعمال الحركة الثورية يبقى، مهما تنوعت وتعددت مكونات القوى المشاركة في الثورات أو المدعية ذلك، هو تحقيق الحرية التي لا تتحقق إلا بسقوط رموز النظام القديم في موقع الهرم وفي مواقع أساسية أخرى في السلطة. وحين أتحدث عن التعدد في قوى الثورة فإنما أشير إلى اتجاهات وتيارات سياسية ذات مرجعيات فكرية وعقائدية مختلفة، من ديمقراطيين وعلمانيين ويساريين وليبراليين وإسلاميين. وهذا التعدد ذاته يلقي بثقله على الثورة وعلى تطورها وعلى اتجاهات هذا التطور، لا سيما ما يتعلق بطبيعة النظام الجديد الذي يجري العمل لبنائه على أنقاض النظام القديم، وما يتعلق بطبيعة الدولة التي تعبّر عن طموحات الأكثرية الساحقة من جيش الثورة ومن الجمهور الكبير الآخر الذي لم يشترك فيها والذي تعبّر الثورة ذاتها عن طموحاته وأحلامه. وإذ يعتبر شباب الثورة أنهم هم أصحابها ومفجروها وأنهم هم الذين بنضالاتهم السابقة الذين هيأوا لها، وهم على حق في ذلك، فإنهم لا يملكون التجربة الكافية ولا هم منظمون في حركات تؤهلهم لأن يلعبوا الدور الذي يعتبرون بحق أنه هو دورهم الأساسي في التغيير. لكنني أزعم أن الوعي الذي بدأ يرتقي في صفوف هؤلاء الشباب والكفاحية المقترنة بالشجاعة وبالإستعداد النادر المثال لتقديم التضحيات سيؤهلهم بالتدريج لأن يلعبوا هذا الدور، إن لم يكن في المستقبل القريب ففي مستقبل قادم. غير أنه سيكون من الخطأ عدم الحذر إزاء ما تمثله بعض الحركات الأصولية التكفيرية التي تطل بوجهها وببعض أشكال نشاطها التخريبي هنا وهناك وهنالك. وخطورة هذه القوى تكمن في اتجاهين. الإتجاه الأول يتمثل في أنها تحاول استغلال حالة الفقر والبؤس والتهميش عند كثرة كبيرة من المواطنين لتعمق عندهم الخوف والحذر من القوى التي تنادي بالتغيير الديمقراطي تحت شعار مدنية النظام وعلمانيته. إذ هي تسعى لاستنفار مشاعرهم الدينية البسيطة وتأجيج الغرائز عندهم وجعلهم في حالة امتناع ظرفي عن معرفة حقوقهم في الحرية والعيش الكريم في حياتهم الدنيا. الإتجاه الثاني يتمثل في ما يخلفه هذا التطرف عند هذه القوى السلفية التكفيرية، باسم الخرافات التي تلصق بالدين ضد قيمه، من تأثير سلبي في الصراع داخل التيارات الإسلامية بين قوى تريد التجديد وتشكل جزءاً من الثورة وقوى تريد البقاء في القديم من دون تغيير. إلا أن التحذير من هذا النوع من الحركات السلفية لا يصل إلى الحدود التي تجعلنا نرى فيها خطراً على الثورة، كما يشير إلى ذلك بعض الثوار. بل أن على شباب الثورة أن يكونوا حذرين إزاء ما يروج له أركان الأنظمة المنهارة وأركان الأنظمة المرشحة للإنهيار من أن هذه الحركات التي تعطى صفة الإرهاب ستشكل البديل من أنظمتهم في حال نجاح الثورات في إسقاط تلك الأنظمة. يتحدث البعض في هذا السياق من التذكير بتنوع وتعدد مكونات قوى الثورة عن خطر آخر يواجه الثورات يتمثل بالتنظيمات الإسلامية المعروفة التي أعلنت انتماءها إلى الثورات بعد قيامها: الإخوان المسلمون في مصر وسوريا وحركة النهضة في تونس وسواها من التنظيمات الإسلامية. إذ يعتبر هذا البعض أن تلك التنظيمات هي سلفية وأن انضمامها إلى الثورات يشكل مصدر خطر يهدد ويشوه الهدف الذي عبّرت عنه شعارات الثورات، ويحرفها عن اتجاهها الأصلي في ما يشبه الثورة المضادة. لست بالطبع معنياً بالدفاع عن هذه المنظمات ولا معنياً بالتأكيد على انسجامها مع أهداف الثورة. فهي وحدها المؤهلة للدفاع عن نفسها وعن موقعها في الثورة كأجزاء مكونة من قواها. لكنني، بحسب معرفتي بما يجري من تحولات داخل هذه التنظيمات بفعل تجاربها وبفعل ما يجري من حولها، أتحفظ، من دون جزم، على ما يرمي إليه هذا البعض في مخاوفهم المشار إليها لثلاثة أسباب. السبب الأول هو أن الثورات قد أصبحت، بفعل ما حققته وتحققه، أقوى من أن تستوعبها أية تنظيمات مهما كبرت وأن تحرّفها عن مسارها. السبب الثاني هو أنني أرى أن تغييرات مهمة بدأت تحصل في التنظيمات الإسلامية المشار إليها في الإتجاه الذي يقودها إلى الإنخراط في التحولات الجارية في بلداننا وفي العالم المعاصر. وهي تحولات تفرضها على هذه المنظمات وقائع العصر وتحولاته. وقد أتيح لي أن ألتقي وأناقش مع قائدين كبيرين لتنظيمين إسلاميين في مصر وفي تونس، وأن أستمع إلى أحاديث وأن أقرأ مواقف لعدد من قادة هذه التنظيمات، استنتجت منها ما أشرت إليه من هذه التحولات في المواقف. وسيكون من المهم كما أرى من بعيد أن تتعامل القوى التي تعتبر نفسها صانعة الثورة ومطلقة شعاراتها وأهدافها بإيجابية، وبحذر إذا أرادت ولكن من دون أفكار مسبقة، مع التحولات التي تشهدها هذه المنظمات. وذلك من أحل تعظيم قوى الثورة في نضالها لتحقيق المهمات المطلوب تحقيقها باسم التغيير الديمقراطي. السبب الثالث هو تنبّه قوى الثورة، أو بعضها ممن أشرت إليهم، إلى عدم الوقوع في شرك سادة النظام القديم الذين يبررون قمعهم للثورة بحجة أن سقوط نظامهم سيكون لصالح التنظيمات الإسلامية المشار إليها. ويتحدث البعض داخل تجمع القوى المشاركة في الثورة وبعض آخر من خارجها أو ضدها عن خطرين آخرين. الخطر الأول هو الخطر الذي يواجه الأقليات في العالم العربي. وهو في رأيي وهم خطر، تشكل المبالغة في الحديث عنه خطراً حقيقياً على الأقليات وعلى بلداننا وعلى وحدة مكوناتها، ينبغي الحذر منه والحذر من الذين يطرحونه ويبالغون فيه. ورغم أن هذا البعض من جهتيه يستند إلى وقائع معينة من نوع ما واجه ويواجه المسيحيين في مصر وفي العراق فإن لهذه الوقائع ما وراءها ولها من هو صاحب المصلحة في إثارتها وفي تعظيمها. لذلك فإن على قوى الثورة أن تظل لصيقة بنضالها من أجل المستقبل وأن تزيل من أدبيات الثورة ما يتصل بالتخويف من الأخطار التي تواجه الأقليات، وأن تعمل لجعل هذه الأقليات صاحبة المصلحة في أن تكون جزءاً من الثورات وصاحبة دور فيها وصاحبة مصلحة في إنجاز المهمات التي يناضل الثوار من أجل تحقيقها. أما الخطر الثاني فهو ما يتصل بدور الخارج في الثورات. وأعلن بوضوح أن موقفي المبدئي هو ضد أي تدخل من قبل بلد في شؤون بلد آخر. ولهذا التدخل، وفق ما تشير إليه تجارب بلداننا وتجارب بلدان أخرى، شكلان أساسيان من ضمن أشكال أخرى. الشكل الأول لهذا التدخل يتخذ في جانب منه صفة عدوان من بلد على بلد آخر بذرائع مختلفة، ويتخذ في جانب آخر منه أحد صفتين: الدعم السياسي لنظام استبدادي في مواجهة ثورة شعبية ترمي لإسقاطه، أو صفة تدخل مباشر لقمع الثورة بطلب من أركان ذلك النظام الإستبدادي. أما الشكل الثاني للتدخل فهو حمال أوجه. وهو يخضع لشروط عديدة شديدة التعقيد. وهو ما نشهد نماذج منه في زمن الثورات العربية المعاصرة. ورغم أنني متمسك بموقفي المبدئي رفضاً للتدخل الخارجي في شؤون بلداننا، إلا أنني أرى أن القرار في قبول أو رفض التدخل لدعم ثورة هنا وثورة هناك من أية جهة أتى إنما يعود لقيادات تلك الثورات وليس لأحد سواها. ولأن للتدخل محاذير كبيرة فإن على قادة الثورات الذين يغامرون في طلب الدعم الخارجي أن يحصنوا ثوراتهم ويحصنوا بلدانهم في حاضرها وفي مستقبلها من مفاعيل هذا النوع من التدخل باسم الدعم لثوراتهم. وبالطبع فإن ثمة فرقاً كبيراً بين هذه الأنواع من التدخل الخارجي في شؤون البلدان الأخرى وثورات شعوبها، وبين التضامن مع الذين يتعرضون للقمع في بلدانهم، بما في ذلك الموقف الذي تتخذه مؤسسات المجتمع الدولي الرسمية والشعبية ضد هذا القمع. وهو تضامن مطلوب من كل الجهات ومن كل الإتجاهات مع الذين يتعرضون للقمع وهم يناضلون دفاعاً عن حقوقهم وحرياتهم. ويهمني في موضوع الدعم الذي تقدمه بعض الدول الكبرى للثورات العربية بأشكاله وبصيغه المختلفة أن أشير إلى أن من الضروري الحذر في كل الأحوال إزاء الأدوار الخارجية من جهاتها ومن اتجاهاتها المختلفة، سواء في دعم الثورات أم في الوقوف مع الأنظمة ضد ما يزعم سادتها وحلفاؤهم من أن سقوط الأنظمة بفعل الثورات سيقود إلى سيطرة القوى السلفية باسم الإرهاب. أدعو إلى هذا الحذر لأن للدول الكبرى مصالحها. وهي لا تقدم دعماً مجانياً لأحد. وقد كانت جميع هذه الدول بصيغ مختلفة متحالفة مع الأنظمة الإستبدادية. وإذا كان بعضها قد فوجئ بالثورات وبدأ يغير مواقفه من الأنظمة المنهارة فلأنه بدأ يدرك أن من الأفضل أن يتعامل بإيجابية مع قوى الأنظمة الجديدة تأميناً لمصالحه في المستقبل. والدول الكبرى قادرة على ذلك. وإذا كنت أرى أن دعم الأنظمة الإستبدادية من بعض القوى الكبرى يتطلب الشجب والإستنكار والنصح في الآن ذاته بالتخلي عن مواقفهم، فإنني أرى أن ثمة في الظاهر تقاطعاً ظرفياً ومؤقتاً في المصالح بين ما تسعى إليه الثورات لإسقاط أنظمة الإستبداد واستبدالها بأنظمة ديمقراطية، وبين مصالح تسعى تلك الدول الكبرى وهي تقدم الدعم للثوار أن تضمنها في الأنظمة الجديدة القادمة. لكن على القوى الأساسية في ثوراتنا أن تكون حذرة الآن وفي المستقبل إزاء هذا النوع من الدعم الخارجي لثوراتها، وأن تكون محصنة في تعاملها مع هذا التدخل من أجل ألا تطغى مصالح القوى الخارجية على مصالحها هي ومصالح ثوراتها، وأن تظل حريصة وهي تتعامل ظرفياً مع هذه القوى بكل الوسائل على الحفاظ على استقلال بلدانها وحماية مصالح شعوبها. وما أسوقه من كلام في موضوع هذه التدخلات الخارجية للدول الكبرى هو قراءة موضوعية لما يجري. وقادة الثورات وجمهورها في أي من البلدان العربية هم الذين يقررون شكل تعاملهم مع هذه التدخلات بأنواعها المختلفة شرط أن يحصنوا ثوراتهم وبلدانهم من الأخطار المحتملة التي يمكن أن تقود إليها هذه التدخلات. ثمة إذن صعوبات كبيرة تواجه الطريق الذي تسلكه هذه الثورات نحو المستقبل الذي تعد به بلدانها. ومع ذلك وبرغم هذه الصعوبات، ما هو ظاهر منها وما هو كامن، فإننا أمام تحولات ستقود إليها هذه الثورات العربية في طريقها إلى عالم عربي جديد قيد الولادة. لذلك فإن على الديمقراطيين في قلب هذه الثورات أن يعملوا بكل طاقاتهم من أجل الإرتقاء بوعيهم ومن أجل تعميم هذا الوعي في الجمهور الأوسع في بلدانهم، وأن يعملوا على تسديد وترشيد نضالهم لتحقيق المستقبل الأفضل لبلدانهم ولشعوبهم. وهو أمر لا يمكن التوصل إليه من دون برنامج يشارك في صياغته جميع من يعتبرون أنفسهم أجزاء مكونة من الثورات داخل كل بلد وفق شروطه الخاصة به. وهو برنامج أرى، وفق ما تشير إليه الوقائع بالإيجابي الكبير منها والسلبي، أن يقوم بالضرورة على أربعة أعمدة أساسية تحترم في النضال لتحقيقها المرحلية والواقعية. العمود الأول يتمثل بالإقرار من قبل الجميع بضرورة وحتمية تأسيس نظام ديمقراطي مدني تعددي يحترم التنوع بجوانبه المختلفة في كل مجتمع من مجتمعاتنا العربية. وكلمة مدني تعني تحرير هذا النظام من أي طابع عسكري وديني عليه. العمود الثاني يتمثل بتاسيس دولة ديمقراطية حديثة، دولة حق وقانون، دولة مؤسسات ديمقراطية يتم الإتيان بها عن طريق الإنتخاب على قاعدة قوانين تتم صياغتها في الشكل الذي يؤمن المشاركة الحقيقية لكل فئات الشعب ويحقق لها تمثيلاً صحيحاً في هذه المؤسسات. العمود الثالث يتمثل بإلغاء جميع القوانين القديمة التي استندت إليها أنظمة الإستبداد في قمع الشعوب وفي حرمانها من حقها في الحرية وفي العيش الكريم. العمود الرابع يتمثل في التكامل بين الدولة والمجتمع ومؤسساتهما، التكامل في كل ما يتصل بتحقيق الشروط التي تؤمن للشعب حقوقه السياسية والإجتماعية، وتؤمن الشروط للتطور الطبيعي للإقتصاد الوطني في جميع فروعه تحقيقاً للتقدم الذي بالإستناد إليه وإلى هذا التكامل بين الدولة الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي يتم العمل والنضال الدائم لتحقيق العدالة الإجتماعية. إلا أن صياغة هذا البرنامج واحترام بنوده والنضال لتحقيق المرتجى منه يتطلب في الدرجة الأولى من قوى التغيير الديمقراطي بكل مكوناتها أن تكون قوية وموحدة وأن تثبت وجودها لكي تحتل الموقع الذي يعود لها في هذا التجمع الواسع من القوى التي تصنف نفسها أجزاء أساسية من الثورات العربية المعاصرة. لكن السؤال الكبير هو كيف ستتم صياغة هذا البرنامج، وفي أية شروط في ظل هذا التعدد والتنوع والإختلاف داخل القوى التي يتشكل منها مجتمع الثورة. هنا بالتحديد تبرز أهمية خروج قوى التغيير الديمقراطي بمدارسها ومرجعياتها المختلفة من أزماتها ومن الأخطاء الفادحة التي قادتها إلى التهميش. فإذا ما ارتقت هذه القوى إلى الموقع الجديد المطلوب منها الإنتقال إليه تصبح قادرة على لعب دور مهم في صياغة هذا البرنامج الجديد للمستقبل الآتي. وإذا ظلت هذه القوى ثابتة في مواقعها المهمشة فإن الذي سيتحكم في صياغة البرنامج هي القوى الأكثر تنظيماً والأكثر تجربة والأكثر تأثيراً. وفي مطلق الأحوال فإن على جميع قوى الثورة بتنوعها وتعددها، وهي تعمل على صياغة البرنامج للحاضر وللمستقبل، أن تأخذ في الإعتبار أن البرنامج الحقيقي هو الذي ينطلق من الواقع ومن الإمكانية الحقيقية لتحقيقه. وهذا يعني بالضرورة أن على هذه القوى أن تعمل للحد من التطرف الذي يبرز عند بعض شباب الثورة باسم الراديكالية، الذي يتمثل بطرح مهمات غير قابلة للتحقيق. الأمر الذي يؤدي، فيما تشير إليه بعض التحركات، إلى خلق الأوهام من جهة، وإلى خلق حالة من الإضطراب وعدم الإستقرار من جهة ثانية اللذين يؤديان إلى إثارة الحذر والخوف من المستقبل عند أكثرية شعبية لم تشارك في الثورة، حتى وهي تتبنى شعاراتها وتأمل في أن تتحقق. إن ذلك يستدعي من قادة الثورات تجنب الشعارات الشعبوية بكل أشكالها. وعليهم في الآن ذاته وهم يواجهون المستقبل أن يدركوا جيداً ما أصاب اقتصاد بلدانهم من خراب على يد أنظمة الإستبداد والفساد ومن تبديد الثروات الوطنية. وعليهم في الموضوع الإقتصادي أن يكونوا عقلانيين، سواء فيما يتعلق بالمؤسسات الإقتصادية القائمة في بلدانهم أم في التعامل مع المؤسسات الدولية من أجل الحؤول دون تحويل هذه الكارثة الإقتصادية إلى عجز وإفلاس شبيه لما حصل ويحصل لبعض البلدان الأوروبية. إن للإقتصاد الوطني في هذا المنعطف التاريخي دوراً حاسماً في بناء المرحلة الجديدة التي يتأسس عليها مستقبل بلداننا. غير أن من أروع ما ارتبط بالربيع العربي هو أنه بدأ يشكل ظاهرة عالمية وبدأت مفاعيله تدخل إلى بلدان العالم المختلفة. ألا تشير إلى ذلك الحركات الشعبية التي تشهدها الولاياتالمتحدة الأميركية في شارع الوول ستريت، والتي تتصاعد في الطريقة ذاتها التي ابتدعها الربيع العربي؟ ألا تشير إلى ذلك الحركات الشعبية باسم «الغاضبون» التي شهدتها ألف مدينة في شتى بلدان العالم وشهدتها إسرائيل بالذات؟ إذا كان الربيع العربي قد وصل إلى العالم، فهل من المعقول والمقبول أن يبقى بلدنا لبنان بمنأى عن هذا الربيع العربي وعن آثاره؟ إن الواقع القائم في لبنان يشير إلى أننا في وضع خطير. فالتدمير هو القاسم المشترك في كل مجالات الحياة في بلدنا، في مؤسسات الدولة وفي مؤسسات المجتمع على حد سواء. ثمة اهتراء يطال كل شيء. يطال حياة الناس في أوضاعهم الإجتماعية. ويطال الطبيعة والإقتصاد. ويطال الثروات الوطنية. ويطال بنى الدولة ومؤسساتها. وأخطر ما في ذلك هو تحويل السياسة من كونها تقوم على الثقافة والأخلاق إلى سياسة تقسم اللبنانيين ضد مصالحهم تأميناً لمصالح لا علاقة لهم بها. تقسمهم على أساس حزبي وطائفي وعقائدي وسياسي مشوّه. وإذا كان لبنان قد اختلف عن بلدان عربية أخرى بأنه يعيش في ظل نظام ديمقراطي منذ تأسيسه يقوم على التعدد وتداول السلطة بالإنتخاب والحرية وسوى ذلك، إلا أن نظامه الديمقراطي هذا الذي حصّنه ضد الوقوع في الإستبداد قد عانى ويعاني من تشويهات بدأت تفقده مضمونه الديمقراطي. وبدأت تلك التشويهات تشير إلى مخاطر كبيرة تهدده في المستقبل. إننا أمام تحد تاريخي جديد في العالم العربي مليء بالأمل بمستقبل أفضل. فهل سنكون في لبنان قادرين على الدخول في هذا التحدي؟ لا مجال للشك في أن اللبنانيين قادرون على ذلك. فإلى العمل يا شباب لبنان ويا عماله وفلاحيه ويا مثقفيه ويا نخبه السياسية، إلى العمل من أجل إنقاذ وطنكم الجميل مما هو فيه وتحقيق التغيير الديمقراطي الذي تنشدونه. لقد دقت ساعة التغيير في بلداننا. ومن سيتأخر في الإنخراط في حركة التغيير هذه سيفقد مكانه في عصر التحولات الكبرى التي ستشكل سمة القرن الجديد.