يعتبر قاضي التحقيق هو الساهر الأول على إنجاز التحقيق الإعدادي، فقد قال فيه الأستاذ بيير دوفي المحامي العام بمحكمة الاستئناف بالرباط في ندوة وزارة العدل المنعقدة بتاريخ 20 أبريل 1959 بأن «هذا الرجل الذي يملك سلطات واسعة ويتصرف في حرية المواطنين وشرفهم يباشر مهمته ضمن شبكة القوانين العسيرة، حيث ينبغي له أن يستعمل علمه وخبرته، لكن في نهاية الأمر إنما هي صفاته الأخلاقية وضميره وفضائله التي تكسب مهمته عظمتها الحقيقية». ومن الأبحاث التي سلطت الضوء على مؤسسة قاضي التحقيق بحث معد من طرف مديرية الدراسات و التعاون والتحديث لوزارة العدل، الذي ننشر منه ما يفيد القارئ للتعريف بدور هذه المؤسسة. ...إذا كان الفصل 6 من الظهير بمثابة قانون رقم 448-74-1 الصادر بتاريخ 11 رمضان 1394 (28 شتنبر 1974) المتعلق بالإجراءات الانتقالية قد حصر القضاة المكلفين بالتحقيق في محاكم الاستئناف، فإن المادة 52 من ق.م.ج. الجديد قد أحدثت قضاة للتحقيق بالمحاكم الابتدائية إذ نصت على أن «يعين القضاة المكلفون بالتحقيق في المحاكم الابتدائية من بين قضاة الحكم فيها لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار لوزير العدل بناء على اقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية، ويعين القضاة المكلفون بالتحقيق في محاكم الاستئناف من بين مستشاريها لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار لوزير العدل بناء على اقتراح من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف». ...وبالرجوع إلى المادة 52 من ق.م.ج. الجديد نستشف أن المشرع المغربي تبنى ثنائية التحقيق، وذلك بجعل التحقيق على مستوى المحاكم الابتدائية بالإضافة إلى تواجده بمحاكم الاستئناف أسوة ببعض التشريعات المقارنة كالتشريع المصري، الذي سبق له أن سلك هذا المنحى وذلك من خلال المادة 64 من قانون الإجراءات الجنائية المصري... مجال التحقيق الإعدادي: إن التحقيق الإعدادي هو مرحلة من مراحل القضية الجنائية تتوسط البحث التمهيدي الذي تباشره الشرطة القضائية والتحقيق النهائي الذي تباشره المحكمة في الجلسة، وحسب رأي الفقه والقضاء تعد هذه المرحلة دعامة أساسية لحقوق الإنسان وركيزة مهمة في تحقيق المحاكمة العادلة. ويعد التحقيق الإعدادي كذلك مجموعة من التحريات تستهدف استكمال المعلومات وجمع الحجج التي تكون في صالح المتابع أو ضده من طرف سلطة قضائية مختصة يحق لها في نهاية الأمر أن تقرر ما إذا كان مناسبا أو غير مناسب إحالة القضية على المحكمة؛ وعليه فإن قاضي التحقيق له مهمة مزدوجة تتمثل من جهة أولى في جمع الأدلة المتعلقة بالجريمة التي توبع من أجلها الظنين، ومن جهة ثانية في تقدير قيمة تلك الأدلة لمعرفة ما إذا كانت كافية أو غير كافية للاستمرار في المتابعة. ...في ظل ق.م.ج. الجديد نجد أن المشرع حافظ على نظام التحقيق كما كان معمولا به سابقا، أي التحقيق على صعيد محكمة الاستئناف بصفة إجبارية في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث أو الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد وفي الجنح الوارد بشأنها نص خاص وبصفة اختيارية في باقي الجنايات، وأضاف التحقيق على صعيد المحكمة الابتدائية، وذلك بجعله إجباريا في الجنح كلما وجد نص خاص يقضي به واختياريا في الجنح المرتكبة من طرف الأحداث وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها هو خمس سنوات (المادة 83 من القانون الجديد). السلطات التي يمارسها قاضي التحقيق: إن السلطات التي يمارسها قاضي التحقيق متعددة ومتنوعة كما أنها خطيرة لما يترتب عليها من آثار على مستوى الحريات الفردية، ويمكن حصر هذه السلطات فيما يلي: - سماع الأشخاص: لقاضي التحقيق سماع بعض الأشخاص وهم: المتهم والشهود، ويخضع سماع كل فئة من هؤلاء الأشخاص إلى إجراءات وشكليات خاصة. - استنطاق المتهم و مواجهته مع الغير: الاستنطاق إجراء خطير أحاطه المشرع بكثير من الضمانات من بينها كونه لا يقوم به إلا قاضي ولا يكون أمام الشرطة القضائية ولو في إطار الإنابة القضائية. والاستنطاق وسيلة يحصل بها القاضي من المتهم على تفسيرات تتعلق بالوقائع المنسوبة إليه، وهو وسيلة دفاع واتهام في آن واحد، وسيلة دفاع لأنه ضروري ويؤدي انعدامه إلى بطلان المسطرة كما لو أغلق التحقيق دون الاستماع إلى المتهم أو دون استدعائه بصفة قانونية، إلا أن تحقق هذا الشرط تكفي فيه البيانات والإيضاحات التي يفضي بها الظنين عند إجراء المقابلة الأولى، والاستنطاق يعتبر وسيلة اتهام بحيث يتمكن قاضي التحقيق من اللجوء إليه من جديد كلما وجد ضرورة لذلك، فالغاية منه هي تمكين المتهم من إقامة الدليل على براءته أو الاعتراف بالأفعال المنسوبة ...وإذا قرر قاضي التحقيق إجراء مواجهة بين المتهم والطرف المدني يتعين عليه الالتزام بما أقره المشرع للمتهم عند استجوابه في الموضوع بخصوص حضور محامي المتهم أو دعوته قانونا للحضور.... - سماع الشهود: لم يوضح ق.م.ج. الجديد المقصود بالشهود غير أنه يستشف من قراءة نص المادة 117/1 منه أن المشرع يقصد بالشاهد كل شخص يرى قاضي التحقيق فائدة لسماع شهادته، ولا يشترط فيه القانون أن يكون شاهد عيان بل يكفي أن تكون شهادته مفيدة لإظهار الحقيقة، وقد أشار المشرع في القانون الجديد للاستماع إلى الشهود في الباب السادس من القسم الثالث المتعلق بالتحقيق الإعدادي وخص له المواد من 117 إلى 133. ويرجع لقاضي التحقيق وحده تقدير ملائمة الاستماع للشاهد وكذا كيفية استدعائه أمامه أو في مكان خارج مكتبه في حالة تعذر حضور الشاهد أمامه... التنقل والتفتيش والحجز: لا ينحصر مجال عمل قاضي التحقيق في مكتبه ولا يقتصر دوره على التحقيق فيما تنقله محاضر الضابطة القضائية بل إن ميدانه أوسع من مكتبه ومهمته أعظم من التحقيق الابتدائي مما يدعوه أحيانا إلى الانتقال إلى الميدان لإجراء معاينات مادية أو للقيام بعمليات التفتيش أو الحجز التي يراها مفيدة لإظهار الحقيقة، وقد خص المشرع المغربي في القانون الجديد لموضوع التنقل والتفتيش والحجز المواد من 99 إلى 107 من الباب الرابع المشار إليه في القسم الثالث المتعلق بالتحقيق الإعدادي من الكتاب الأول تحت عنوان «التحري عن الجرائم ومعاينتها». التقاط المكالمات والاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد: يتعلق الأمر في هذا الصدد بمسألة بالغة الأهمية لكونها تشكل انتهاكا لحرمة المكالمات والمراسلات التي يحميها الدستور. لم يرد في ق.م.ج. السابق في هذا الموضوع أي مقتضى، كما أنه لم يصدر عن القضاء المغربي أي اجتهاد لمعرفة موقفه منه. * و لقد سبق أن أثيرت مسألة شرعية التقاط المكالمات في فرنسا التي كان تشريعها يعرف فراغا قانونيا في هذا الشأن فلم يتردد القضاء الفرنسي في القول بقانونية هذا الإجراء حيث أكدت محكمة النقض الفرنسية شرعية التصنت التليفوني الذي يأمر به قاضي التحقيق بشرط ألا يقترن ذلك بحيلة فنية أو بمخالفة لحق الدفاع... أما فيما يخص التشريع المغربي وأسوة بباقي التشريعات المقارنة التي أخذت بهذه المسألة فقد أشار المشرع إلى موضوع التقاط المكالمات والاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد في الباب الخامس من القسم الثالث المتعلق بالتحقيق الإعدادي وخص له المواد من 108 إلى 116 من ق.م.ج.الجديد. وقد خول المشرع لقاضي التحقيق إمكانية الأمر بالتقاط المكالمات الهاتفية وجميع الاتصالات المنجزة بواسطة وسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها، كما مكن الوكيل العام للملك من أن يصدر أمرا بالتقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال بعد تقديم التماس كتابي إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، غير أنه في حالة الاستعجال القصوى أجاز المشرع المغربي للوكيل العام للملك أن يأمر كتابه بالتقاط المكالمات الهاتفية... علاقة قاضي التحقيق بالنيابة العامة: لقد أعطى ق.م.ج. الجديد وخاصة المادة 75 منه الحق لقاضي التحقيق إذا كان حاضرا بمكان وقوع الجريمة المتلبس بها في أن يتخلى له الوكيل العام للملك ووكيل الملك أو ضباط الشرطة القضائية بقوة القانون عن عملية البحث، إلا أن المادة 84 من نفس القانون ورد فيها أن قاضي التحقيق لا يستطيع إجراء أي تحقيق إلا بعد أن يتلقى من النيابة العامة ملتمسا بإجراء التحقيق ولو كان قاضي التحقيق يقوم بالمهام المخولة له في حالة التلبس. فالنيابة العامة هي الجهة المخول لها تعيين من يحقق في القضية عند تعدد قضاة التحقيق لدى محكمة الاستئناف كما يمكن أن تقدم ملتمسا للغرفة الجنحية بسحب القضية من قاضي التحقيق وإحالتها على قاض آخر للتحقيق... وفي إطار علاقة قاضي التحقيق مع النيابة العامة فإن القانون الجديد للمسطرة الجنائية يلقي مجموعة من الواجبات على عاتق قاضي التحقيق، بدءا من إحالة ملف القضية على النيابة العامة لاستدعاء الأطراف للمحاكمة إلى الأمر بإخضاع المتهم للعلاج والاعتقال الاحتياطي.... خاتمة: يمكن القول إن المشرع من خلال قانون المسطرة الجنائية الجديد قد وضع لبنات جديدة لمؤسسة قاضي التحقيق بالنظر إلى دورها الفعال في مجال التحقيق الإعدادي الذي يوفر الحماية للمتهم والمجتمع على حد سواء، كما أنه وسع من اختصاصات هذه المؤسسة وخلق ثنائية للتحقيق الذي كان محصورا في السابق في محاكم الاستئناف، وذلك بخلق قضاة مكلفين بالتحقيق في المحاكم الابتدائية؛ وتبقى هذه التجربة الجديدة رهينة بما سوف تسفر عنه الممارسة القضائية وتفعيل المقتضيات الإجرائية الجديدة.