شكل المؤتمر الوطني الحادي عشر لحزب التقدم والاشتراكية، الذي اختتمت أشغاله أول أمس السبت، ببوزنيقة، لحظة استثنائية وفارقة في مسار حزب وطني ديمقراطي وتقدمي طبع المشهد السياسي الوطني لما يزيد عن ثمانين سنة، راكم خلالها تجربة غنية ومتفردة حافلة بالتضحيات والنضالات خدمة لقضايا الشعب والوطن. وكان المؤتمر الوطني الحادي عشر قد التأم مساء الجمعة الماضي، تحت شعار "البديل الديمقراطي التقدمي" بمشاركة أزيد من 1400 مؤتمر ومؤتمرة، يمثلون مختلف الفروع المحلية والإقليمية والجهوية والمنظمات الموازية والقطاعات السوسيومهنية ومختلف الفعاليات والكفاءات الحزبية. وقد تميزت الجلسة الافتتاحية التي أدارها عبد الواحد سهيل، عضو الديوان السياسي المنتهية ولايته، بحضور وازن لمختلف التعبيرات السياسية الرسمية والحزبية والشعبية.. ومن بينهم رئيس الحكومة عزيز أخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار، ورئيس مجلس المستشارين النعمة ميارة، والأمين العام لحزب الاستقلال نزار بركة، وإدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ونبيلة منيب الأمينة العام لحزب الاشتراكي الموحد، وعبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، وامحند العنصر الأمين العام للحركة الشعبية، ومصطفى بنعلي الأمين العام لجبهة القوى الديمقراطية، ومحمد جودار الأمين العام لحزب الاتحاد الدستوي، وممثل عن حزب الأصالة والمعاصرة، وزعماء المركزيات النقابية وفي مقدمتهم ميلودي مخارق الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، وقادة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، بالإضافة إلى العديد من البرلمانيين والمستشارين وشخصيات من عالم الفكر والسياسة والفن والإعلام، وكذا ممثلين عن الأحزاب السياسية اليسارية والتقدمية من العالم العربي وإفريقيا وأسيا. كما عرفت الجلسة الافتتاحية حضور يونس مجاهد رئيس المجلس الوطني للصحافة، وعبد الله البقالي رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، ومحمد بنعيسى رئيس منتدي أصيلا، ومحمد بنجلون الأندلسي رئيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، وممثلين عن مجموعة من الهيئات الحقوقية والنسائية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني.. وقد تميزت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني الحادي عشر لحزب التقدم والاشتراكية، بالتقرير السياسي الذي قدمه الأمين العام للحزب محمد نبيل بنعبد الله باسم اللجنة المركزية المنتهية ولايتها، والذي أكد فيه على مواقف حزب التقدم والاشتراكية من العديد من القضايا ذات الصلة بالأوضاع الدولية والوطنية (أنظر التقرير ضمن مواد هذا العدد). وفي هذا السياق، جدد محمد نبيل بنعبد الله التأكيد على محورية القضية الوطنية كقضية مركزية ومبدئية تتعلق بالهوية الوطنية، وتكتسي أولوية تسمو فوق كل الاعتبارات. ووقف المتحدث على الممارسات التي طبعت الانتخابات الأخيرة والتي وصفها ب "غير السليمة وفاسدة"، مضيفا أن ذلك يطرح بإلحاحية ضرورةَ توفير الشروط السياسية والصيغ القانونية لحمايةَ مصداقيةِ الفضاء المؤسساتي والسياسي من هيمنة عالَم المال المرتبط بأوساط الفساد والريع. إلى ذلك أكد الأمين العام على ضعف الحكومة في التعاطي مع الوضع الوطني العام وعدم قدرتها على ابتكار الحلول وإجراء الإصلاحات الضرورية، مشددا على أن الوضع الراهن للبلاد يقتضي بديلاً ديمقراطيا تقدميا متكاملاً، تتوازى وتتكامل فيه الإصلاحاتُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والسياسية، بشكلٍ خلاَّق. وفي نظر الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية فإن تحقيق البديل الديمقراطي التقدمي الذي يقترحه الحزب على المجتمعِ السياسي ومجموعِ الشعب المغربي لا يمكن أن يتحقق من دون عمل وحدوي، ودون تحالفات بين كل القوى التي تتقاسم بعض أو معظم أو كل مضامينه، وهو ما يستلزم، بحسبه، التفاف جديد للقوى الوطنية والديمقراطية، ومواصلةِ السعي نحو وحدة اليسار المستعصية، والسعي نحو توسيع منطق مفهوم التحالفات ليشمل ما يسميه حزب التقدم والاشتراكية ب "الحركة الاجتماعية المواطِنة"، ذات المطالبِ الحقوقية والمساواتية والشبابية والمدنية والإيكولوجية والاجتماعية وغيرها. وخلال الجلسة العام الثانية التي التأمت بعد الجلسة الافتتاحية، تم تشكيل رئاسة المؤتمر والمصادقة عليها، والتي ترأسها أحمد زكي عضو الديوان السياسي المنتهية ولايته، كما تمت المصادقة بالإجماع على التقرير السياسي الذي قدمه الأمين العام باسم اللجنة المركزية، كما تمت المصادقة بالإجماع على تقرير اللجنة الوطنية للتحكيم وتقرير اللجنة الوطنية للمراقبة المالية. وصودق كذلك بالإجماع على تقرير لجنة الانتداب الذي تضمن معطيات رقمية وإحصائية حول المؤتمرين والمؤتمرات. وفيما يلي النص الكامل للتقرير السياسي الذي قدمه الأمين العام في الجلسة الافتتاحية: السيد رئيس الحكومة؛ السيدات والسادة الوزراء؛ السادة السفراء؛ الإخوة والأخوات الأعزاء، في قيادات الأحزاب والنقابات الوطنية الصديقة والشقيقة؛ الإخوة والرفاق، ممثلو الأحزاب السياسية من مختلف البلدان والقارات؛ السيدات الفضليات، السادة الأفاضل، ضيوفنا الكرام من مختلف المؤسسات والهيئات والجمعيات والمنابر الإعلامية والفضاءات الثقافية والرياضية؛ رفيقاتي العزيزات، رفاقي الأعزاء؛ إنها لحظةٌ مُميَّزةٌ، ونحن نفتتح مؤتمرنا الوطني الحادي عشر، تحت شعار "البديل الديمقراطي التقدمي". فها نحن نواصل، بثبات وإصرار، وبوفاء وتجديد، مسيرةَ نضال حزب وطني ديمقراطي تقدمي، تمتد إلى ثمانين سنةً حافلةً بالبذل والتضحية والعطاء والكفاح، خدمة لمصالح الوطن والشعب. لقد أثلجتم صُدُورَنا، في حزبِ التقدم والاشتراكية، وغَمَرْتُمْ نُفوسَنَا بسعادةٍ كبيرة، من خلال حضوركم الوازن معنا في هذه المحطة السياسية المُحَمَّلة بالدلالات القوية التي يُسعدنا كثيراً استقبالُكُم فيها. فأهلا وسهلاً بكم، جميعاً، ومرحباً بكم، وشكراً لكم، وللهيئات التي تُمثلونها، على تلبيتكم دعوة حزبنا، وتشريفه بحضوركم. فلكم منا أرقى عباراتِ الاحترامِ والوُدَّ. وأنتم شخصياتٌ قادمةٌ من مختلف فضاءاتِ العمل المؤسساتي والسياسي والفكري والنقابي؛ ومن حقول الثقافة والفن والرياضة والإبداع والإعلام والمعرفة؛ ومن فضاءاتِ النضال النسائي والشبابي والمدني والحقوقي والبيئي، وغيرها من الفضاءات. الحضور الكريم؛ الرفيقات والرفاق؛ ها نحن نصل إلى مؤتمرنا الحادي عشر هذا، تتويجًا لشهور من التحضير المكثف، في أجواء طبعتها المسؤوليةُ والحماسُ والتعبئة، وروحُ الوحدةِ والتلاحُم، في صفوف جميع المناضلات والمناضلين والهياكل الحزبية، عبر كافة ربوع الوطن. فكلُّ الشكر والتحية، لكل طاقاتِ وكفاءاتِ حزبنا، على مجهوداتكم الكبيرة والمثمرة التي مَكَّنَتْ حزبَنا من بُلُوغِ هذه المحطة، بهذه الروح العالية والإيجابية. نصل، إذن، إلى هذه المحطة، ونحنُ بين أيدينا مشاريعُ وثائق تُجَسِّدُ المضمون السياسي والبديل البرنامجي الذي يتقدم به حزبُنا إلى الرأي العام الوطني، انطلاقاً من حرصنا على أن يكون حزبُ التقدم والاشتراكية، دائماً، قيمةً مُضافةً لوطننا، وأداةَ اقتراحٍ تُسهمُ في تقوية الآمال وفتحِ الآفاق أمام مغربٍ أفضل وغدٍ أسعد. فها نحنُ نعقد مؤتمرنا الحادي عشر هذا، ونحن على بُعد أربع سنوات من آخر مؤتمرٍ وطني لحزبنا، والذي كان التألم في ماي 2018. فترةٌ جَرَتْ تحت جِسْرِها الكثيرُ من المياه، وطنيا وإقليميا ودوليا. وظل حزبُنا، في مقارباته لمختلف التطورات، وفيّاً لهويته الوطنية والديموقراطية واليسارية، ولخطه السياسي الواضح، مُجدِّدًا في أساليب تكيفه اليقظ مع المتغيرات. فلقد عقدنا المؤتمر الوطني الأخير تحت شعار "النَّفَس الديموقراطي الجديد"، وحزبُنا مُساهِمٌ في الحكومة آنذاك، قبل أن يختار مغادرتهَا والاصطفافَ في المعارضة منذ أكتوبر 2019. ونجحت بلادُنا في تنظيم انتخاباتٍ عامة في 2021، رغم حالة الطوارئ الصحية. انتخاباتٌ حقق فيها حزبُنا نتائجَ إيجابية. ويظل أبرز ما مَيَّزَ هذه الفترة على الإطلاق هو جائحةُ كورونا، بتداعياتها الصحية، والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والنفسية والقيمية. فلقد وقف العالَمُ كُلّهُ في ذهولٍ أمام طوفانِ الخوف والإغلاق والحجر الصحي، وأمام هَوْلِ التحولاتِ التي فَرَضَهَا الوباءُ على نمط الحياة بالنسبة لكافة شعوب العالَم. هكذا، تناسلتِ الدروسُ والعِبر المُستخلَصة من جائحة كورونا، بالنسبة للعالم بأسره، ومنه بلادُنا طبعاً. فَبرَزَ الدَّوْرُ الاستراتيجيُّ للدولة وللقطاع العمومي في مواجهة تداعياتِ هذه الجائحة. وتعلَّم العالمُ كيف أنَّ منطق الربح والرأسمال يظلُّ سخيفاً أمام صحة وحياة الإنسان. ووقف الجميعُ أمام حقيقةِ أنَّ المقارباتِ الرأسمالية عاجزةٌ عن معالجة معضلات البشرية. كما انكشفتِ الحقائقُ عاريةً حول الفقر والهشاشة وغياب العدالة الاجتماعية بالنسبة للمئاتِ الملايين من الناس. وبرزَ دورُ العلماء والبحث العلمي حاسماً في مُقاومة زحف المرض والموتِ. وتعاظمت قيمةُ التكنولوجيا والرقميات. وتنامتِ الحاجةُ إلى الأمن الصحي والغذائي. واستعاد، بقوةٍ، مفهومُ السيادةِ بريقَهُ وتوَهجَهُ. وتبيَّن للعالم أنَّ مصير البشرية واحد، وأنَّ التضامن الدولي تعتريهِ اختلالاتٌ كبيرة لا يمكنُ الإبقاء عليها. وفي الخلاصة، أيقظتِ جائحةُ كورونا الضميرَ الإنساني، فرديا وجماعيا، من خلال الإقرار العارم بأنَّ الإنسانَ يتعينُ أن يكون مِحور المساراتِ التنموية، وبأنَّ الحاجَةَ ماسَّةٌ إلى مقارباتٍ اجتماعية للسياسات العمومية الوطنية، وإلى نظامٍ عالميٍّ بديل، أكثر عدلاً وإنصافاً، وإنسانيةً وتعاوناً، بين مختلف الأمم والشعوب. وفي الوقت الذي كانت فيه الشعوبُ تُمنّي النَّفْسَ بأن يُستجابَ لانتظاراتها المشتركة، وبالتعافي التام من التداعيات المدمرة للجائحة على جميع الأصعدة. وفي الوقت الذي كان فيه مُنتَظراً أن تستوعب وتستفيد الدولُ كُلُّها من الدروس البليغة التي لا يتعين أن تُنسى أبداً، لجائحة كوفيد 19، ها نحن نشهد رجوعاً إلى عددٍ من الأساليب الرأسمالية، ولو بدرجةٍ أخف تشهد على خَجَلِ أصحابها منها. كما نشهد حرباً جديدةً مدمرةً، بين روسيا وأوكرانيا، بأبعادها الدولية، وبما تُشَكِّلُهُ من أضرارَ ومخاطرَ عُظمى على العالم بِرُمَّتِه. نعم، ينبغي علينا ألَّا ننسى أنَّ العالَمَ، في مواجهته للجائحة، لم يعتمد على ما طالما تَغَنَّت به الأوساطُ الرأسماليةُ لمدة عقودٍ من الزمن، إلى درجة تَجَرُّئِها على اعتبارها أنَّ التاريخَ قد انتهى، وأن الاعتماد على منطق السوق والربح هو المُنتهى. وفي المقابل، ينبغي علينا ألاَّ ننسى أبداً أنَّ العالم، حين كان يُقاوِمُ الجائحة، إنَّما فعل ذلك أساساً من خلال الارتكاز على الدولة القوية بقراراتها ومؤسساتها، وبديموقراطيتها المُعَبِّئَة للطاقات، وعلى التضامن بين الناس، وعلى عقولهم وسواعدهم، وعلى المستشفى العمومي والمدرسة العمومية، وعلى الاستثمار العمومي في المجالات الحيوية، وعلى الحلول الميزانياتية العمومية، إلى جانبِ الإسهامات الخصوصية المُختلفة. واليوم، ها نحن نلتئم، والعالَمُ يعيشُ على إيقاعِ تعميقِ المُيولات الهيمنية، والصراعِ على مناطق النفوذ، والنزاعات المسلحة، بما يهدد السلم العالمي، ويُدخِلُ العالمَ في أزمة مُرَكَّبة مجهولة الأفق. السيدات الفضليات، السادة الأفاضل؛ رفيقاتي العزيزات، رفاقي الأعزاء؛ لا شكَّ أننا، اليوم، أمام مخاضٍ دوليٍّ ينطوي على تقلباتٍ عميقة، حيثُ المنافسةُ الشرسة على قيادة العالم تُنبئُ بميلاد عالمٍ جديد، ومن شأن ذلك أن يُفضِيَ إلى نهاية القطب الواحد وانبثاقِ عالمٍ متعددِ الأقطاب لن يكون سوى في صالح الشعوب التي وحدها تؤدي ثمنَ النزاعات والأزمات الحالية. فنحن أمام تحولاتٍ في موازين القوى العالمية، وفي التموقعات الجيو استراتيجية، حيث تبرزُ قوىً صاعدة، وتُصَارِعُ أخرى لأجل الحفاظ على مواقعها ونفوذها. كما أنَّ من أهم سمات الأوضاع العالمية الراهنة: هشاشةُ النموذج الاقتصادي الرأسمالي ومحدوديته إزاء معضلات البشرية؛ وسيادةُ اللايقين؛ وتَحَوُّلُ قوى الرأسمال الصناعية إلى قوى مالية؛ واتساعُ التناقضات الطبقية والفوارق الاجتماعية؛ وتفاقمُ الفقر حتى في بلدانٍ غنية، مع تنامي قيمٍ جديدةٍ للإنتاج والاستهلاك؛ واتساعُ نطاق الاعتماد على الرقميات. ورغم أنَّ هذه المتغيرات تجري في ظل أزمةِ السياسة وصعوباتِ الديموقراطية التمثيلية، لا سيما في القدرة على احتضان التعبيرات المجتمعية الجديدة واحتواء ظاهرة العزوف عن السياسة، إلاَّ أنَّ العالم لا يسوده السَّوادُ فقط، بل إنَّ إشراقاتِ الأمل في مستقبل أفضل للبشرية تلوح في الأفق. لعل أبرزها انبثاقُ جيلٍ جديدٍ من الحركات النضالية في مواجهة السياسات الرأسمالية والإمبريالية والهيمنية. كما تُسجَّلُ بداياتُ وإرهاصاتُ انتعاشٍ فكريٍّ وسياسيٍّ لليسار عالميا، على اختلاف تلاوينه وتعبيراته. وذلك أمرٌ طبيعي أمام تَفَاقُمِ الأوضاعِ الاقتصادية والاجتماعية، وأمام استنزافِ موارد وخيراتِ الشعوب، وأمام أضرار السياساتِ التي تَعتبِرُ الإنسانَ مُجَرَّدَ أداةٍ لخدمة غاية الربح المالي، وكذا أمام مختلف التهديداتِ التي تُحدِقُ بالعالم، كالأوبئة، والجريمة، والهجرة، والحروب، والفقر، والتطرف والإرهاب، والمجاعة، ونُدرة المياه. بالإضافة إلى ما يُواجِهُ الحياةَ البشرية من مخاطر الفَنَاء، بسبب التغيراتِ المناخية التي تنعقد حولها حاليًّا قمةُ المناخ السابعةُ والعشرون بمصر الشقيقة. وهي مناسبة لكي نُجدِّدَ مطالبتنا الدولَ الغنية بِتَحَمُّلِ مسؤولياتِها الإيكولوجية والتمويلية، من أجل دعمِ مشاريع الانتقال الطاقي وبرامجِ التخفيف والتكيُّف مع آثار التغيرات المناخية التي ضحيتُها الأولى هي بلدانُ الجنوبِ الفقيرة. على هذه الأسس، فَحِزبُنا لا يُمكِنُ أن يكون مُسانِداً للتوجهاتِ التي تُعَمِّقُ مآسي الإنسان، ويَجِدُ نفسَهُ، كما كان دائماً، في صفِّ المُنادين إلى نظامٍ عالمي بديل، وإلى عالمٍ متضامنٍ فِعلاً، يَسودُهُ السلمُ والازدهار والنماء والحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة، بما يجعل البشرية قادرةً على مواجهة مختلف التحديات والآفات المشتركة. في هذا الخضم، فإنَّ بُلدانَ الجنوبِ عموماً، وقارَّتَنَا الإفريقية تحديداً، تظل المتضرر الأكبر من الأوضاع الحالية، بالنظر إلى كَوْنِها ضحيةَ الاستعمارِ والاستغلال معاً. وهو ما يستلزم من البلدان الغنية، المسؤولة تاريخياًّ عن مآسي إفريقيا، أن تُغيِّر مُقارباتها إزاء قارتنا. لكن علينا كأفارقة بدايةً أن نُسائلَ أنفُسَنا، وأن نُراجِعَ أساليبَ حكامتنا، وأن نعتمد على ذواتنا، وأن نُوَطِّد تعاوُنَنَا وتضامُننا، بما يُمَكِّنُ مجتمعاتنا من الانعتاق والتنمية والديموقراطية. إنَّ هذا التوجه السليم هو الذي تسيرُ فيه بلادُنا، وبقوة أكبر، منذ عودتها المُثمِرة إلى الاتحاد الإفريقي. في نفس الوقت، فإن الحاجة، اليوم، أكثر إلحاحاً لتقوية التعاون العربي المُستعصي على أرض الواقع، بسبب التشتت والنزاعات والحروب الداخلية، أساساً بفعل ما تتعرضُ له المنطقةُ العربيةُ من تدخلاتٍ أجنبيةٍ مرفوضة، ومن تمزيقٍ لنسيجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري، من قِبَل القوى الأمبريالية والكيان الصهيوني. ولقد أبانت القمةُ العربية الأخيرة عن هذا الواقع المُختَل والمعطوب، من خلال محدودية نتائجها الباهتة. وإذا كانت العواملُ الخارجية لهذا الوضع ثابتةٌ وواضحة، فإنه من الواجبِ عدمُ التغافل عن الأسباب الذاتية، مع ما يستدعيه ذلك من صراحةٍ بَيْنِيَّة، ومن مُساءلةٍ لدور جامعة الدول العربية في تقوية التعاون العربي، وفي دعم المسارات الديموقراطية والتنموية للبلدان والشعوب العربية. وهنا، لا بد من تجديد تضامننا مع كافة الشعوب العربية الشقيقة، في العراق، والسودان، وسوريا، واليمن، وليبيا، ولبنان. كما نؤكد تضامننا الأممي مع جميع القضايا العادلة للشعوب، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني البَطَل. الحضور الكريم؛ رفيقاتي، رفاقي؛ نلتئم، اليوم، وفِكرُنا منشغِلٌ، أيَّمَا انشغال، بمحنة الشعب الفلسطيني الذي يعيشُ أحلك اللحظات، بسبب سياسةِ التنكيل والترهيب، والتقتيل والتهجير، والتطهير العرقي العنصري، التي يتعرض لها يوميًّا فوق أرض فلسطين العزيزة، من قِبَل قُوَّة الاحتلال الصهيوني الغاشمة والمتغطرسة. إنَّ ما يُواجُهُهُ الشعبُ الفلسطينيُّ الأعزلُ لَيُشَكِّلُ وصمةَ عارٍ على جبين العالَم بأسره، في ظل الصمتِ وتَرَاجُعِ الاهتمام الدولي بقضية فلسطين العادلة، وفي ظلِّ السَّعيِ البئيس إلى تصفية قضية شعبٍ لا ذنب له سوى أنه يُكافِحُ بِصَدرٍ عارٍ لأجل نَيْلِ حقوقه المشروعة والثابتة. إنها لحظةٌ تستوجبُ صحوةً قويةً وعارمةً للضمير العالمي، وللأصواتِ الحرة جميعِهَا، لأجل التضامن والدعم، نعم، ولكن أساساً لأجل العمل الفعلي، على كل الواجهات وبكل الوسائل، حمايةً ودعماً ومساندةً للشعب الفلسطيني الشقيق المقاوِم، حتى يَنَالَ حقوقَهُ كاملةً، وفي مقدمتها بناءُ دولة فلسطين المستقلة والموحَّدة وعاصمتُها القدس. ومن باب الصراحة الأخوية، نتوجه إلى مختلف فصائل الشعب الفلسطيني، بنداءٍ حار، من أجل توحيد الصف، وتجاوز حالة الانقسام المُضِرَّة، بشكلٍ كبير، أيما ضرر، بهذه القضية العزيزة علينا جميعاً. وإذ نؤكد على أن حزبَ التقدم والاشتراكية سيظل، دوماً، إلى جانب الشعب الفلسطيني داعِماً ومُسانداً، على غرار كافة الشعب المغربي وقواه الحية ومؤسساته، فإننا نُجدد التعبير عن تطلعنا نحو أن تُسهم الخطواتُ الانفتاحية لبلادنا على إسرائيل في تيسير إيجاد تسوية سلمية ونهائية وعادلة ودائمة تضمن كافة حقوق الشعب الفلسطيني الصامد. الحضور الكريم؛ يلتئم مؤتمرُنا هذا، أيضاً، في سياقٍ إقليمي يتسم بتعاظم المخاطر والمآسي المتنوعة التي تتهدد منطقة المغرب الكبير والساحل الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء، من الهجرة والجفاف والمجاعة والفقر والاتجار في المخدرات والسلاح، عِلاوةً على سُوءِ التدبير في عددٍ من أقطار المنطقة، وفي ظل أطماعَ ومصالحَ وتدخلاتٍ خارجيةٍ لا تخفى على أحد. إنَّ هذه الأوضاعَ الإقليمية، التي يتأثر بها المغرب، كما تتأثر بها أوروبا والعالمُ بأسره، هي التي تدفعنا نحو النداء إلى ضرورة تشجيع عوامل الاستقرار، والاعتماد على الدول التي يُمْكِنُها أن تُشكِّل قاطرةً لتنمية المنطقة وازدهارها، في إطار الاحترام التام للسيادة الوطنية لِكُلِّ بلد، ونبذ النزوعات الانفصالية المقيتة. وفي ظل هذا السياق المعقد، يُواصِلُ بلدُنا نضالَهُ وكفاحَهُ من أجل تثبيت سيادته الوطنية على كافة ترابه، سواءٌ من خلال الجُهد الديبلوماسي النشيط، أو من حيث المجهود التنموي الهائل بأقاليمنا الجنوبية، والذي أكَّدَ جلالةُ الملك على حصيلةِ منجزاته في خطابه السامي الأخير بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء. إنَّ مسألة وحدتنا الترابية هي قضيةٌ مركزيةٌ ومبدئية تتعلق بالهوية الوطنية، وتكتسي أولويةً تَسْمُو فوق كل الاعتبارات. وهي قضيةٌ تَهُمُّ الشعبَ المغربي قاطبةً. وهي في الأول والأخير مسألةُ تحررٍ وطني ارتبطت دائما، عند حزبنا، بمعركة الاستقلال الوطني وتوطيد دعائمه، وببناء الدولة الوطنية الديموقراطية. ولقد شهدت قضيةُ وحدتنا الترابية تطورات إيجابية، تبعثُ على الاعتزاز، تَجَلَّتْ أَهَمُّهَا في المنعطف التاريخي المتعلق بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. كما تجسدت في التَّحَوُّلِ الإيجابي لموقف الجارة الإسبانية، وهو ما يُعتَبَرُ طفرةً هامة بالنظر إلى المسؤولية التاريخية والسياسية التي تتحملها إسبانيا في هذه القضية. وتجسَّدتِ المكتسباتُ أيضاً في تزايُدِ عدد البلدان الداعمة لموقف بلادنا، حيث بات الجميع يُدرك، أكثر فأكثر، مدى جدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي المغربي، وأهميته كمقترحٍ ذي مصداقية لأجل الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل الذي تتحمل الجزائرُ مسؤوليةً مُباشِرةً فيه، في معاكَسةٍ مُحَيِّرة لطموحاتِ شعوب المغرب الكبير وتطلعها نحو الوحدة والتكامل والازدهار المشترك. السيد رئيس الحكومة؛ السيدات والسادة الوزراء؛ السادة السفراء؛ الإخوة والأخوات الأعزاء، في قيادات الأحزاب والنقابات الوطنية الصديقة والشقيقة؛ الإخوة والرفاق، ممثلو الأحزاب السياسية من مختلف البلدان والقارات؛ السيدات الفضليات، السادة الأفاضل، ضيوفنا الكرام من مختلف المؤسسات والهيئات والجمعيات والمنابر الإعلامية والفضاءات الثقافية والرياضية؛ رفيقاتي العزيزات، رفاقي الأعزاء؛ إنها لحظةٌ مُميَّزةٌ، ونحن نفتتح مؤتمرنا الوطني الحادي عشر، تحت شعار "البديل الديمقراطي التقدمي". فها نحن نواصل، بثبات وإصرار، وبوفاء وتجديد، مسيرةَ نضال حزب وطني ديمقراطي تقدمي، تمتد إلى ثمانين سنةً حافلةً بالبذل والتضحية والعطاء والكفاح، خدمة لمصالح الوطن والشعب. لقد أثلجتم صُدُورَنا، في حزبِ التقدم والاشتراكية، وغَمَرْتُمْ نُفوسَنَا بسعادةٍ كبيرة، من خلال حضوركم الوازن معنا في هذه المحطة السياسية المُحَمَّلة بالدلالات القوية التي يُسعدنا كثيراً استقبالُكُم فيها. فأهلا وسهلاً بكم، جميعاً، ومرحباً بكم، وشكراً لكم، وللهيئات التي تُمثلونها، على تلبيتكم دعوة حزبنا، وتشريفه بحضوركم. فلكم منا أرقى عباراتِ الاحترامِ والوُدَّ. وأنتم شخصياتٌ قادمةٌ من مختلف فضاءاتِ العمل المؤسساتي والسياسي والفكري والنقابي؛ ومن حقول الثقافة والفن والرياضة والإبداع والإعلام والمعرفة؛ ومن فضاءاتِ النضال النسائي والشبابي والمدني والحقوقي والبيئي، وغيرها من الفضاءات. الحضور الكريم؛ الرفيقات والرفاق؛ ها نحن نصل إلى مؤتمرنا الحادي عشر هذا، تتويجًا لشهور من التحضير المكثف، في أجواء طبعتها المسؤوليةُ والحماسُ والتعبئة، وروحُ الوحدةِ والتلاحُم، في صفوف جميع المناضلات والمناضلين والهياكل الحزبية، عبر كافة ربوع الوطن. فكلُّ الشكر والتحية، لكل طاقاتِ وكفاءاتِ حزبنا، على مجهوداتكم الكبيرة والمثمرة التي مَكَّنَتْ حزبَنا من بُلُوغِ هذه المحطة، بهذه الروح العالية والإيجابية. نصل، إذن، إلى هذه المحطة، ونحنُ بين أيدينا مشاريعُ وثائق تُجَسِّدُ المضمون السياسي والبديل البرنامجي الذي يتقدم به حزبُنا إلى الرأي العام الوطني، انطلاقاً من حرصنا على أن يكون حزبُ التقدم والاشتراكية، دائماً، قيمةً مُضافةً لوطننا، وأداةَ اقتراحٍ تُسهمُ في تقوية الآمال وفتحِ الآفاق أمام مغربٍ أفضل وغدٍ أسعد. فها نحنُ نعقد مؤتمرنا الحادي عشر هذا، ونحن على بُعد أربع سنوات من آخر مؤتمرٍ وطني لحزبنا، والذي كان التألم في ماي 2018. فترةٌ جَرَتْ تحت جِسْرِها الكثيرُ من المياه، وطنيا وإقليميا ودوليا. وظل حزبُنا، في مقارباته لمختلف التطورات، وفيّاً لهويته الوطنية والديموقراطية واليسارية، ولخطه السياسي الواضح، مُجدِّدًا في أساليب تكيفه اليقظ مع المتغيرات. فلقد عقدنا المؤتمر الوطني الأخير تحت شعار "النَّفَس الديموقراطي الجديد"، وحزبُنا مُساهِمٌ في الحكومة آنذاك، قبل أن يختار مغادرتهَا والاصطفافَ في المعارضة منذ أكتوبر 2019. ونجحت بلادُنا في تنظيم انتخاباتٍ عامة في 2021، رغم حالة الطوارئ الصحية. انتخاباتٌ حقق فيها حزبُنا نتائجَ إيجابية. ويظل أبرز ما مَيَّزَ هذه الفترة على الإطلاق هو جائحةُ كورونا، بتداعياتها الصحية، والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والنفسية والقيمية. فلقد وقف العالَمُ كُلّهُ في ذهولٍ أمام طوفانِ الخوف والإغلاق والحجر الصحي، وأمام هَوْلِ التحولاتِ التي فَرَضَهَا الوباءُ على نمط الحياة بالنسبة لكافة شعوب العالَم. هكذا، تناسلتِ الدروسُ والعِبر المُستخلَصة من جائحة كورونا، بالنسبة للعالم بأسره، ومنه بلادُنا طبعاً. فَبرَزَ الدَّوْرُ الاستراتيجيُّ للدولة وللقطاع العمومي في مواجهة تداعياتِ هذه الجائحة. وتعلَّم العالمُ كيف أنَّ منطق الربح والرأسمال يظلُّ سخيفاً أمام صحة وحياة الإنسان. ووقف الجميعُ أمام حقيقةِ أنَّ المقارباتِ الرأسمالية عاجزةٌ عن معالجة معضلات البشرية. كما انكشفتِ الحقائقُ عاريةً حول الفقر والهشاشة وغياب العدالة الاجتماعية بالنسبة للمئاتِ الملايين من الناس. وبرزَ دورُ العلماء والبحث العلمي حاسماً في مُقاومة زحف المرض والموتِ. وتعاظمت قيمةُ التكنولوجيا والرقميات. وتنامتِ الحاجةُ إلى الأمن الصحي والغذائي. واستعاد، بقوةٍ، مفهومُ السيادةِ بريقَهُ وتوَهجَهُ. وتبيَّن للعالم أنَّ مصير البشرية واحد، وأنَّ التضامن الدولي تعتريهِ اختلالاتٌ كبيرة لا يمكنُ الإبقاء عليها. وفي الخلاصة، أيقظتِ جائحةُ كورونا الضميرَ الإنساني، فرديا وجماعيا، من خلال الإقرار العارم بأنَّ الإنسانَ يتعينُ أن يكون مِحور المساراتِ التنموية، وبأنَّ الحاجَةَ ماسَّةٌ إلى مقارباتٍ اجتماعية للسياسات العمومية الوطنية، وإلى نظامٍ عالميٍّ بديل، أكثر عدلاً وإنصافاً، وإنسانيةً وتعاوناً، بين مختلف الأمم والشعوب. وفي الوقت الذي كانت فيه الشعوبُ تُمنّي النَّفْسَ بأن يُستجابَ لانتظاراتها المشتركة، وبالتعافي التام من التداعيات المدمرة للجائحة على جميع الأصعدة. وفي الوقت الذي كان فيه مُنتَظراً أن تستوعب وتستفيد الدولُ كُلُّها من الدروس البليغة التي لا يتعين أن تُنسى أبداً، لجائحة كوفيد 19، ها نحن نشهد رجوعاً إلى عددٍ من الأساليب الرأسمالية، ولو بدرجةٍ أخف تشهد على خَجَلِ أصحابها منها. كما نشهد حرباً جديدةً مدمرةً، بين روسيا وأوكرانيا، بأبعادها الدولية، وبما تُشَكِّلُهُ من أضرارَ ومخاطرَ عُظمى على العالم بِرُمَّتِه. نعم، ينبغي علينا ألَّا ننسى أنَّ العالَمَ، في مواجهته للجائحة، لم يعتمد على ما طالما تَغَنَّت به الأوساطُ الرأسماليةُ لمدة عقودٍ من الزمن، إلى درجة تَجَرُّئِها على اعتبارها أنَّ التاريخَ قد انتهى، وأن الاعتماد على منطق السوق والربح هو المُنتهى. وفي المقابل، ينبغي علينا ألاَّ ننسى أبداً أنَّ العالم، حين كان يُقاوِمُ الجائحة، إنَّما فعل ذلك أساساً من خلال الارتكاز على الدولة القوية بقراراتها ومؤسساتها، وبديموقراطيتها المُعَبِّئَة للطاقات، وعلى التضامن بين الناس، وعلى عقولهم وسواعدهم، وعلى المستشفى العمومي والمدرسة العمومية، وعلى الاستثمار العمومي في المجالات الحيوية، وعلى الحلول الميزانياتية العمومية، إلى جانبِ الإسهامات الخصوصية المُختلفة. واليوم، ها نحن نلتئم، والعالَمُ يعيشُ على إيقاعِ تعميقِ المُيولات الهيمنية، والصراعِ على مناطق النفوذ، والنزاعات المسلحة، بما يهدد السلم العالمي، ويُدخِلُ العالمَ في أزمة مُرَكَّبة مجهولة الأفق. السيدات الفضليات، السادة الأفاضل؛ رفيقاتي العزيزات، رفاقي الأعزاء؛ لا شكَّ أننا، اليوم، أمام مخاضٍ دوليٍّ ينطوي على تقلباتٍ عميقة، حيثُ المنافسةُ الشرسة على قيادة العالم تُنبئُ بميلاد عالمٍ جديد، ومن شأن ذلك أن يُفضِيَ إلى نهاية القطب الواحد وانبثاقِ عالمٍ متعددِ الأقطاب لن يكون سوى في صالح الشعوب التي وحدها تؤدي ثمنَ النزاعات والأزمات الحالية. فنحن أمام تحولاتٍ في موازين القوى العالمية، وفي التموقعات الجيو استراتيجية، حيث تبرزُ قوىً صاعدة، وتُصَارِعُ أخرى لأجل الحفاظ على مواقعها ونفوذها. كما أنَّ من أهم سمات الأوضاع العالمية الراهنة: هشاشةُ النموذج الاقتصادي الرأسمالي ومحدوديته إزاء معضلات البشرية؛ وسيادةُ اللايقين؛ وتَحَوُّلُ قوى الرأسمال الصناعية إلى قوى مالية؛ واتساعُ التناقضات الطبقية والفوارق الاجتماعية؛ وتفاقمُ الفقر حتى في بلدانٍ غنية، مع تنامي قيمٍ جديدةٍ للإنتاج والاستهلاك؛ واتساعُ نطاق الاعتماد على الرقميات. ورغم أنَّ هذه المتغيرات تجري في ظل أزمةِ السياسة وصعوباتِ الديموقراطية التمثيلية، لا سيما في القدرة على احتضان التعبيرات المجتمعية الجديدة واحتواء ظاهرة العزوف عن السياسة، إلاَّ أنَّ العالم لا يسوده السَّوادُ فقط، بل إنَّ إشراقاتِ الأمل في مستقبل أفضل للبشرية تلوح في الأفق. لعل أبرزها انبثاقُ جيلٍ جديدٍ من الحركات النضالية في مواجهة السياسات الرأسمالية والإمبريالية والهيمنية. كما تُسجَّلُ بداياتُ وإرهاصاتُ انتعاشٍ فكريٍّ وسياسيٍّ لليسار عالميا، على اختلاف تلاوينه وتعبيراته. وذلك أمرٌ طبيعي أمام تَفَاقُمِ الأوضاعِ الاقتصادية والاجتماعية، وأمام استنزافِ موارد وخيراتِ الشعوب، وأمام أضرار السياساتِ التي تَعتبِرُ الإنسانَ مُجَرَّدَ أداةٍ لخدمة غاية الربح المالي، وكذا أمام مختلف التهديداتِ التي تُحدِقُ بالعالم، كالأوبئة، والجريمة، والهجرة، والحروب، والفقر، والتطرف والإرهاب، والمجاعة، ونُدرة المياه. بالإضافة إلى ما يُواجِهُ الحياةَ البشرية من مخاطر الفَنَاء، بسبب التغيراتِ المناخية التي تنعقد حولها حاليًّا قمةُ المناخ السابعةُ والعشرون بمصر الشقيقة. وهي مناسبة لكي نُجدِّدَ مطالبتنا الدولَ الغنية بِتَحَمُّلِ مسؤولياتِها الإيكولوجية والتمويلية، من أجل دعمِ مشاريع الانتقال الطاقي وبرامجِ التخفيف والتكيُّف مع آثار التغيرات المناخية التي ضحيتُها الأولى هي بلدانُ الجنوبِ الفقيرة. على هذه الأسس، فَحِزبُنا لا يُمكِنُ أن يكون مُسانِداً للتوجهاتِ التي تُعَمِّقُ مآسي الإنسان، ويَجِدُ نفسَهُ، كما كان دائماً، في صفِّ المُنادين إلى نظامٍ عالمي بديل، وإلى عالمٍ متضامنٍ فِعلاً، يَسودُهُ السلمُ والازدهار والنماء والحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة، بما يجعل البشرية قادرةً على مواجهة مختلف التحديات والآفات المشتركة. في هذا الخضم، فإنَّ بُلدانَ الجنوبِ عموماً، وقارَّتَنَا الإفريقية تحديداً، تظل المتضرر الأكبر من الأوضاع الحالية، بالنظر إلى كَوْنِها ضحيةَ الاستعمارِ والاستغلال معاً. وهو ما يستلزم من البلدان الغنية، المسؤولة تاريخياًّ عن مآسي إفريقيا، أن تُغيِّر مُقارباتها إزاء قارتنا. لكن علينا كأفارقة بدايةً أن نُسائلَ أنفُسَنا، وأن نُراجِعَ أساليبَ حكامتنا، وأن نعتمد على ذواتنا، وأن نُوَطِّد تعاوُنَنَا وتضامُننا، بما يُمَكِّنُ مجتمعاتنا من الانعتاق والتنمية والديموقراطية. إنَّ هذا التوجه السليم هو الذي تسيرُ فيه بلادُنا، وبقوة أكبر، منذ عودتها المُثمِرة إلى الاتحاد الإفريقي. في نفس الوقت، فإن الحاجة، اليوم، أكثر إلحاحاً لتقوية التعاون العربي المُستعصي على أرض الواقع، بسبب التشتت والنزاعات والحروب الداخلية، أساساً بفعل ما تتعرضُ له المنطقةُ العربيةُ من تدخلاتٍ أجنبيةٍ مرفوضة، ومن تمزيقٍ لنسيجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري، من قِبَل القوى الأمبريالية والكيان الصهيوني. ولقد أبانت القمةُ العربية الأخيرة عن هذا الواقع المُختَل والمعطوب، من خلال محدودية نتائجها الباهتة. وإذا كانت العواملُ الخارجية لهذا الوضع ثابتةٌ وواضحة، فإنه من الواجبِ عدمُ التغافل عن الأسباب الذاتية، مع ما يستدعيه ذلك من صراحةٍ بَيْنِيَّة، ومن مُساءلةٍ لدور جامعة الدول العربية في تقوية التعاون العربي، وفي دعم المسارات الديموقراطية والتنموية للبلدان والشعوب العربية. وهنا، لا بد من تجديد تضامننا مع كافة الشعوب العربية الشقيقة، في العراق، والسودان، وسوريا، واليمن، وليبيا، ولبنان. كما نؤكد تضامننا الأممي مع جميع القضايا العادلة للشعوب، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني البَطَل. الحضور الكريم؛ رفيقاتي، رفاقي؛ نلتئم، اليوم، وفِكرُنا منشغِلٌ، أيَّمَا انشغال، بمحنة الشعب الفلسطيني الذي يعيشُ أحلك اللحظات، بسبب سياسةِ التنكيل والترهيب، والتقتيل والتهجير، والتطهير العرقي العنصري، التي يتعرض لها يوميًّا فوق أرض فلسطين العزيزة، من قِبَل قُوَّة الاحتلال الصهيوني الغاشمة والمتغطرسة. إنَّ ما يُواجُهُهُ الشعبُ الفلسطينيُّ الأعزلُ لَيُشَكِّلُ وصمةَ عارٍ على جبين العالَم بأسره، في ظل الصمتِ وتَرَاجُعِ الاهتمام الدولي بقضية فلسطين العادلة، وفي ظلِّ السَّعيِ البئيس إلى تصفية قضية شعبٍ لا ذنب له سوى أنه يُكافِحُ بِصَدرٍ عارٍ لأجل نَيْلِ حقوقه المشروعة والثابتة. إنها لحظةٌ تستوجبُ صحوةً قويةً وعارمةً للضمير العالمي، وللأصواتِ الحرة جميعِهَا، لأجل التضامن والدعم، نعم، ولكن أساساً لأجل العمل الفعلي، على كل الواجهات وبكل الوسائل، حمايةً ودعماً ومساندةً للشعب الفلسطيني الشقيق المقاوِم، حتى يَنَالَ حقوقَهُ كاملةً، وفي مقدمتها بناءُ دولة فلسطين المستقلة والموحَّدة وعاصمتُها القدس. ومن باب الصراحة الأخوية، نتوجه إلى مختلف فصائل الشعب الفلسطيني، بنداءٍ حار، من أجل توحيد الصف، وتجاوز حالة الانقسام المُضِرَّة، بشكلٍ كبير، أيما ضرر، بهذه القضية العزيزة علينا جميعاً. وإذ نؤكد على أن حزبَ التقدم والاشتراكية سيظل، دوماً، إلى جانب الشعب الفلسطيني داعِماً ومُسانداً، على غرار كافة الشعب المغربي وقواه الحية ومؤسساته، فإننا نُجدد التعبير عن تطلعنا نحو أن تُسهم الخطواتُ الانفتاحية لبلادنا على إسرائيل في تيسير إيجاد تسوية سلمية ونهائية وعادلة ودائمة تضمن كافة حقوق الشعب الفلسطيني الصامد. الحضور الكريم؛ يلتئم مؤتمرُنا هذا، أيضاً، في سياقٍ إقليمي يتسم بتعاظم المخاطر والمآسي المتنوعة التي تتهدد منطقة المغرب الكبير والساحل الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء، من الهجرة والجفاف والمجاعة والفقر والاتجار في المخدرات والسلاح، عِلاوةً على سُوءِ التدبير في عددٍ من أقطار المنطقة، وفي ظل أطماعَ ومصالحَ وتدخلاتٍ خارجيةٍ لا تخفى على أحد. إنَّ هذه الأوضاعَ الإقليمية، التي يتأثر بها المغرب، كما تتأثر بها أوروبا والعالمُ بأسره، هي التي تدفعنا نحو النداء إلى ضرورة تشجيع عوامل الاستقرار، والاعتماد على الدول التي يُمْكِنُها أن تُشكِّل قاطرةً لتنمية المنطقة وازدهارها، في إطار الاحترام التام للسيادة الوطنية لِكُلِّ بلد، ونبذ النزوعات الانفصالية المقيتة. وفي ظل هذا السياق المعقد، يُواصِلُ بلدُنا نضالَهُ وكفاحَهُ من أجل تثبيت سيادته الوطنية على كافة ترابه، سواءٌ من خلال الجُهد الديبلوماسي النشيط، أو من حيث المجهود التنموي الهائل بأقاليمنا الجنوبية، والذي أكَّدَ جلالةُ الملك على حصيلةِ منجزاته في خطابه السامي الأخير بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء. إنَّ مسألة وحدتنا الترابية هي قضيةٌ مركزيةٌ ومبدئية تتعلق بالهوية الوطنية، وتكتسي أولويةً تَسْمُو فوق كل الاعتبارات. وهي قضيةٌ تَهُمُّ الشعبَ المغربي قاطبةً. وهي في الأول والأخير مسألةُ تحررٍ وطني ارتبطت دائما، عند حزبنا، بمعركة الاستقلال الوطني وتوطيد دعائمه، وببناء الدولة الوطنية الديموقراطية. ولقد شهدت قضيةُ وحدتنا الترابية تطورات إيجابية، تبعثُ على الاعتزاز، تَجَلَّتْ أَهَمُّهَا في المنعطف التاريخي المتعلق بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. كما تجسدت في التَّحَوُّلِ الإيجابي لموقف الجارة الإسبانية، وهو ما يُعتَبَرُ طفرةً هامة بالنظر إلى المسؤولية التاريخية والسياسية التي تتحملها إسبانيا في هذه القضية. وتجسَّدتِ المكتسباتُ أيضاً في تزايُدِ عدد البلدان الداعمة لموقف بلادنا، حيث بات الجميع يُدرك، أكثر فأكثر، مدى جدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي المغربي، وأهميته كمقترحٍ ذي مصداقية لأجل الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل الذي تتحمل الجزائرُ مسؤوليةً مُباشِرةً فيه، في معاكَسةٍ مُحَيِّرة لطموحاتِ شعوب المغرب الكبير وتطلعها نحو الوحدة والتكامل والازدهار المشترك. ففي مُقابِل حُسنِ نِيَّةِ بلادنا وخُطُواتها الإيجابية، فإنَّ خصومَ وحدتنا الترابية، وحُكام الجزائر تحديداً، يُصِرُّونَ على التَّعَنُّت، في اجترارٍ لأسطورة الجمهورية الوهمية، وعلى اتخاذِ مواقفَ متهورة ومُتجاوَزَة وغير واقعية، بهدف عرقلة التوصل إلى حل سياسي على أساس مبادرة الحكم الذاتي الذي يظل الحل الأمثل لهذا النزاع المفتعل. ومع ذلك، فإن بلادنا تظل متمسكة، بسُمُوٍّ، كما يعكسُ ذلك مضمونُ عددٍ من الخُطَب والمبادرات المَلَكِية السامية، بسياسة اليد الممدودة، إزاء كافة جيرانها، وحريصةً على بناء المغرب الكبير، عَسَى أن يأتيِ يومٌ تتغلب فيه لغةُ العقل والحق والمشروعية. وبقدر اعتزازنا، في حزب التقدم والاشتراكية، بالمكاسب الديبلوماسية، مع ضرورة مُواصَلَةِ المجهودات على هذا المُستوى، بقدر ما نؤكد على أنَّ حسم قضية وحدتنا الترابية يمر، أساساً، عبر تمتين جبهتنا الداخلية، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لضمان استمرار وتقوية تعبئة كافة مكونات الشعب المغربي حول قضية وحدتنا الترابية. إنَّ هذا الالتفاف هو ما يُشكِّلُ المصدر الأول لقوتنا وصمودنا. الحضور الكريم؛ الرفيقات والرفاق؛ وسط كل التحديات، تَتَلَمَّسُ بلادُنا طريقها، بصورةٍ متصاعدة، وبنهجٍ حُرٍّ ومستقل، نحو المكانة التي تستحقها، مُرتكِزةً على مكتسباتها الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى تنوع وانصهار مكونات هويتها الوطنية الموحدة، العربية، الإسلامية، الأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. ومهما اشتدتِ الصعوبات، فإنَّ بلادنا تعلمت، على مَرِّ تاريخها، كيف تُحَوّلُ الأزماتِ إلى فرصٍ للتقدم. وهذا ما يستلزم السير قُدُماً في مسارنا التنموي، وفي تعزيز فضائنا الديموقراطي، وتقوية بنائنا المؤسساتي، في كَنَف المَلَكية الدستورية، الديمقراطية، البرلمانية والاجتماعية. فحزبُ التقدم والاشتراكية مُؤمِنٌ، بشكلٍ راسخٍ، بدورِ المؤسسات، وعلى رأسها المؤسسةُ المَلكية التي تضطلع، تاريخيا ودستوريا، بدورٍ طلائعي، وتحظى بمكانةٍ محورية في قيادة الإصلاح، في ظل دستورٍ يَكْفُلُ لكافة المؤسسات الدستورية الأخرى مُمارسةَ اختصاصاتها. ذلك أنَّ الديمقراطية الحقة والمبنية على الحرية والمسؤولية، وعلى الوطنية والمواطَنَة، هي الضمانة الأوثقُ للاستقرار والتنمية، اعتباراً لكون مَنَاخ الديموقراطية والحرية وحده الذي يُتيح تفجير طاقات المجتمع وإبداعه، ويسمح بتعبئة المواطنات والمواطنين حول الإصلاح، لتجاوز حالة الركود السياسي الحالي الذي من شأنه أن يستنزف المكتسبات. إنَّ هذا من بين أهم توجهات وثيقة "النَّفَس الديموقراطي الجديد" التي أطَّرَتْ مؤتمرنا الوطني الأخير في سنة 2018. وهي توجهاتٌ لا تزالُ مُحتفِظةً براهنيتها، ونُعززها اليوم بوثيقة "البديل الديموقراطي التقدمي" خلال هذا المؤتمر الحادي عشر. لقد انعقد مؤتمرُنا ذاك ونحن نساهمُ في تجربةٍ متفردة، منذ 2012. تجربة تقاسمناها مع حزبِ العدالة والتنمية وأحزاب وطنية أخرى، وانبنت على الإرادة في مواصلة المسار الديموقراطي والتفعيل السليم للدستور. وكان يحدونا الأملُ في أن تكون قوى الصف الوطني والديموقراطي (أي الكتلة الديموقراطية آنذاك) كُلُّها مُساهِمَةً في تلك التجربة، حيث لم نَدَّخر جُهداً في سبيل تَحَقُّقِ ذلك، دون جدوى للأسف، سواء مع حكومة 2012 التي تميزت بحضورٍ سياسي قوي ونَفَسٍ إصلاحي واضح، أو كذلك إثر انتخابات 2016 التي تشكلت على أساسها حكومة 2017، المشلولة والمتضاربة، بعد بلوكاجٍ طويل وعسير. عشنا، إذن، تجربةً لم نُفرِّط أبداً خلالها في هويتنا ولا في مرجعياتنا. بل كنا ندافع عن المسار الديموقراطي ونقف في وجه التعثرات التي كانت تُهدِّدُه. والتي تُؤكدها انعكاساتُها السلبية على متانة وقوة الفضاء السياسي إلى يومنا هذا. وقد صمد حزبُنا طويلاً، وأدى الثمن عن تلك التجربة التي غادرناها في 2019، بقرارٍ حر ومستقل وجريء، حينما لم يعد لوجود حزبنا في الحكومة آنذاك أيُّ مبرر، وحينما خَفَتَ في الصيغة الثانية من هذه التجربة ذلك النَّفَسُ الإصلاحيُّ المطلوب للمُضيِّ قُدُماً في بلورة المشروع الديموقراطي. وهو المشروع الذي كنا دائماً حريصين على أن نتقاسم النضال من أجله مع حلفاءَ من القوى الوطنية، بهدف تطوير مسارنا الديموقراطي. تماماً كما فعلنا في تجربة حكومة التناوب التوافقي في سنة 1998. ومهما يكن من أمر، فإنَّ تجربة الائتلاف الموضوعي، وليس على أساسٍ إيديولوجي أو فكري أو مرجعي، التي جمعت حزبَنا مع حزب العدالة والتنمية على مدى سنواتٍ، تكاد تكونُ متفردةً ورائدةً في محيطنا الإقليمي والدولي، حيث استأثرت باهتمامٍ بالغٍ، من خلال ما جَسَّدَتهُ من تقاربٍ مرحلي وبرنامجي بين حزبٍ يساري أصيل وآخر ذي مرجعية إسلامية. وقد أسهم حزبُنا بذلك في ترسيخ إدماج هذا التيار في الحياة السياسية والمؤسساتية الوطنية، بشكلٍ سَلِسٍ وبَنَّاء، بغض النظر عن التَّبَايُنِ الحاصل في تقييم مدى قدرة هذا التيار السياسي الوطني على تدبيرِ الواقعِ المعقد. إذن، غادَرْنَا الحكومةَ في أكتوبر 2019، حيثُ شَكَّلَ ذلك حينها حدثًا سياسيا خَلَّفَ صدىً إيجابيا. واصطففنا في المعارضة التي أعطاها حزبُنا زخماً وحيوية. ونَسَجْنَا تدريجيا علاقاتٍ من أجل بروز معارضةٍ قوية جمعتنا أساساً مع حليفٍ تاريخي هو حزبُ الاستقلال، وكذا مع حزب الأصالة والمعاصرة في حُلَّتهِ الجديدة بعد المراجعات التي قام بها. حتى بدأت تظهر بوادرُ أفُقٍ لِتَكَتُّلٍ سياسي بديل، والسير نحو تناوبٍ ديمقراطي جديد. لكن لم تتحقق شروط تشكيل مثل هذا البديل. وناديْنا، ثَلَاثَتُنا، من موقع المعارضة، باستعادة الثقة في الفضاء السياسي، وبالانفراج الحقوقي، وبتوسيع فضاء الحريات والمساواة، وبمصالحة المجتمع مع السياسة والمؤسسات، وبفتح المجال أمام النقاش العمومي، وبالإصلاحاتِ جميعِها، بما فيها تحسينُ شروط إجراء الانتخابات. وها هي هذه الملفات والتطلعات نفسها لا تزالُ مطروحةً بنفس الدرجة، في ظل ركودٍ سياسي وحقوقي يستنزف المكتسبات. وهو أمرٌ مُحَيِّرٌ فعلاً. ولقد استمرت معارضتُنا تلك، مانحةً الفضاءَ السياسي انتعاشاً ملحوظاً. وأسهمنا في تحضير الترسانة القانونية للانتخابات، بشكلٍ إيجابي وتوافقي. حتى حَلَّ موعدُ الانتخاباتِ العامة في شتنبر 2021 التي جَرَتْ في موعدها، وحصل فيها حزبُنا على نتائج مُشرِّفة، كما أسلفنا الذكر. لكن ما عرفته تلك الانتخاباتُ من ممارساتٍ غير سليمة وفاسدة، مُعتَمِدةً على المال من قِبَلِ عددٍ من المُساهمين فيها، يَفرض علينا جميعاً، التساؤل، ليس بمنطقٍ حزبي أو من منطلقٍ حسابي، ولكن بمنطقٍ وطني ومواطناتي، ومِنْ مُنطلَقِ المسؤولية، حول مكانة المؤسسات المنتخبة وأدوارها الفعلية، وحول طبيعة العديد من المنتخبات والمنتخبين الذين أفرزتهم عمليات الاقتراع. كما أنَّ ذلك يطرح بحدة، في المستقبل، ضرورةَ توفير الشروط السياسية والصيغ القانونية اللازمة للارتقاء بالعملية الانتخابية، شكلاً ومضموناً، وحِمَايَةَ مصداقيةِ الفضاء المؤسساتي والسياسي من هيمنة عالَم المال المرتبط بأوساط الفساد والريع، وضمانَ مُشاركةِ وحضور أجود وأنزه الطاقات البشرية في المؤسسات المنتخبة. علينا، إذن، أن نستخلص العِبَر، وأن نذهب في تحضير أجواء مختلفة بالنسبة للانتخاباتِ المقبلة، معارضةً وأغلبية، بما يُصالِح الناس مع الشأن العام، وبما يُعطي القيمة للفاعل الحزبي وللفعل السياسي، وبما يُفَعِّلُ الدستور نصًّا وروحاً، ويُفرِزُ برلماناً للكفاءات فعلاً، وحكومةً للكفاءات فعلاً، ومجالسَ منتخبة للكفاءات فعلاً. كفاءاتٍ سياسية قادرةٍ على إنتاج الحلول، وعلى تفسير الصعوبات والقرارات للرأي العام. وهذه من المقومات المُفتَقَدَة التي تُواجِهُهَا الحكومةُ الحاليةُ يوميا. وفي ذلك هدرٌ لزمن الإصلاح. وجديرٌ بالتوضيح أنَّ حزبَ التقدم والاشتراكية ليس حِزبَ ادِّعَاءٍ بحَسَبِ المواقع، وإنما يسعى دوماً إلى أن تتميز مواقفُهُ بالموضوعية وفتح الآفاق. لذلك، سواءٌ حينما كنا مُساهمين في حكوماتٍ تَفَاوَتَتْ درجاتُ نَفَسِها الإصلاحي، وسواءٌ ونحن في المعارضة، فخطابنا هو هو، ومواقفنا هي هي. ونحنُ مدركون تماماً لكوننا جُزءً من مسار بلادنا، بنجاحاته ومكتسباته، وبإخفاقاته ونقائصه. وحَسْبُنَا أنَّنا لا نكُفُّ عن الصَّدْحِ بما نراهُ صواباً ومصلحةً لوطننا ولشعبنا، كيفما كانتِ الظروفُ وأينما كان موقعُنا المؤسساتي. الحضور الكريم؛ الرفيقات والرفاق؛ نعم، بالتأكيد، نحن اليوم، أمام صعوباتٍ استثنائية ومُرَكَّبة، تظافر فيها عاملُ التقلبات الدولية مع تداعيات الإغلاق الطويل من جراء الجائحة، وانضاف إلى ذلك الجفافُ الحاد. لا نُنكر ذلك، ولا نتجاهله أبداً، بل نستحضره في كل لحظة، متمنينَ للحكومة الحالية، التي لم نرغب في المشاركة فيها ولم يُعرَضْ علينا ذلك، النجاحَ في تجاوز الوضع. فنجاحُكم هو نجاح لبلادنا؛ السيد رئيس الحكومة المحترم. وحتى عندما ننتقد، في إطار أدوارنا الدستورية، فإننا نفعل ذلك بالموازاة مع الاقتراح البناء. فليس من شِيم التقدم والاشتراكية المزايدة. وليس هناك جدوى ولا منفعة، إذا لم يُقرن تشخيص الأوضاعِ بفتح باب الأمل والتفاؤل والطموح. على هذا الأساس، قُلنا، وسنقول للحكومة، التي مَرَّ على تشكيلها أزيدُ من سنة: ليس أمامكِ سوى مواجهة الأزمة، وليس تبريرها، وليس أمامكِ سوى تَحَمُّلُ أعباء الظرفية الصعبة، وليس أمامكِ سوى إبراز القدرة على ابتكار الحلول وإجراء الإصلاحات الضرورية. فالأزمات، عبر التاريخ، شَكَّلَت فرصةً للتطوير والتقدم، بشرط حُسنِ التعاطي معها والتقاطِ عناصرها الإيجابية. فغلاءُ الأسعار، الذي يكتوي بنيرانه المستضعفون والفئاتُ الوسطى، لا يمكن أن تتركوه هكذا، من دون إجراءاتٍ قوية، حتى يأتيَ على الأخضر واليابس. كما أنَّ الأمنَ الغذائي والطاقي والصحي لا يُمْكِنُ لكم تأجيل معالجته في انتظار انتهاء الأزمة الحالية التي قد لا تنتهي، أو قد تتلوها أزماتٌ أخرى أكثر قسوة. إننا أمام حكومةٍ رفعت شعار "الدولة الاجتماعية" وأعلنت "وثيقةَ النموذج التنموي الجديد" مرجعاً لها. ولا يَسَعُنَا سوى أن نحترم هذه الاختيارات والنوايا المُعلنة. لكن سنة مرت، ولا جديد تحت الشمس، غير تدابير عادية في زمنٍ استثنائي بكل المقاييس. تدابير لا ترقى إلى حماية القدرة الشرائية للمغاربة الذين يئنون تحت وطأة الغلاء. كما لا ترقى إلى الرُّقِيِّ بالنسيج الاقتصادي الوطني وتحصينه ضد الصدمات. كما لا نزالُ في انتظار تفسير وإقناع الحكومةِ للناس بالخطوات التي قامت بها أو لم تقم بها. لا نقول هذا الكلام تحامُلاً. بل نقوله لأننا متشبعون به اقتناعاً. ولأن صبر الأسر المغربية بدأ يَنْفَذ. ولأن بلداناً أخرى تدخلت حكوماتُها من أجل خفض الأسعار، وحمايةِ الأسواق الداخلية من المضاربات، واستعمال الأداة الضريبية، وتفعيل التضامن الوطني، وإنعاش الاقتصاد، وتحصين الأمن الطاقي، وحماية القدرة الشرائية لمواطنيها، وتقديم الدعم لهم بأشكال مختلفة، مُباشِرة أو غير مُباشِرة. وهنا لا نتحدث عن بلدان اشتراكية، ولا حتى قريبة من الاشتراكية، بل عن بلدانَ غارقةٍ في الرأسمالية من رأسها إلى أخْمَصِ القدمين. فلماذا نحن لم تَقُمْ حكومتُنا بأيِّ خُطوةٍ جريئة على هذا المستوى؟ ألم يَكُنِ الأجدرُ توظيفُ العائدات الإضافية في إجراءاتٍ متناسقةٍ وقوية وذاتِ أثر إيجابي وملموس: جزءٌ لدعم المقاصة، وجزءٌ لتمويل الورش الاجتماعي، وجزءٌ لتقديم دعمٍ مباشر للأسر الفقيرة والمعدومة الدخل؟ (إيوا شوية لربي وشوية لعبدو). نعلمُ أنَّ الحكومة تتحجج بأنَّ الميزانية ستتأثر سلباً، بل قد يتم إغراقُها، بنفقاتٍ إضافية في ظل مواردَ غيرِ كافية. ولن نُجيبَ هنا بكون الحكومة كان لها الحظُّ في تَحَسُّن أداء قطاعاتٍ بعينها، كالمداخيل الضريبية، وعائدات مغاربة العالم، والقطاع السياحي الذي يتعافى، فضلاً عن تحسن الأداء المرتبط بالفوسفاط. ولكننا سنُجيبُ الحكومة بأنَّ لديها مصدراً أكيداً لتمويل كل البرامج الاجتماعية، بما فيها ورشُ الحماية الاجتماعية، وإصلاحُ الصحة والتعليم، ودعمُ الأسر ماديا. وليس على الحكومة سوى أن تتملك الجرأة السياسية للتوجه رأساً إلى حيثُ يوجد المال: أولاً الشركات الكبرى التي تُراكِمُ أرباحًا مَهُولَة من وراء الأزمة وبسببها، ومنها شركاتُ المحروقات والاتصالات وغيرها. على الحكومة أن تطرق هذا الباب، فالمساهمةُ الوازنةُ في التضامن الوطني هذا هو وقتها. والاستقرارُ له ثمنٌ على الجميع أن يتقاسم كلفته. وثانيا، على الحكومة أن تُباشر الإصلاح الضريبي، وخصوصا عليها إيجاد السبيل لتغيير وِجهة الملايير من خزائن المتملصين والمتهربين من الضريبة نحو خزينة الدولة. وهذا لا يُكلف سوى الإرادة السياسية. نرجو أن يكون صدرُ الحكومة متَّسِعاً لملاحظاتنا. فهذه حكومةٌ تتشكل من ثلاثة أحزابٍ تعرفُ جيداً كم نُقَدِّرُها على المستوى العام، وحتى على مستوى العلاقات الشخصية، وكم نحن صادقون في تعبيرنا عن أملنا في نجاحها. لكن لا يمكننا أن نَكْتُمَ استياءنا من أدائِها المُخَيِّبِ للآمال، ولا يمكننا أيضاً أن نُخفيَ حيرتنا من غياب الخطاب السياسي والديموقراطي والحقوقي والمساواتي، ومن تَوَارِي خطاب إصلاح الفضاء السياسي، على الرغم من أنَّ معظم هذه الإصلاحات لا تتطلبُ ميزانياتٍ ولا نفقات، بقدرِ ما تتطلب الإرادة والجرأة السياسيتين. الحضور الكريم؛ الرفيقات والرفاق؛ على أهمية ما أتينا على ذكره من مقترحاتٍ لمعالجة الأزمة من خلال المجهود المالي، إلاَّ أنَّ حزبَ التقدم والاشتراكية مُدرِكٌ تماماً أنَّ بلدنا ليست كلُّ إشكالياته ذاتَ طابعٍ ميزانياتي ومالي فقط. إنَّ الوضع، بالأحرى، يقتضي بديلاً ديموقراطيا تقدميا متكاملاً، تتوازى وتتكاملُ فيه الإصلاحاتُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والسياسية، بشكلٍ خلاَّق، مع الارتكاز على المكتسباتِ في جميع هذه المستويات. لذلك، فمؤتمرُنا الوطني هذا يلتئم على أساس مضمونٍ ومعنى ومغزى، هو هذه الوثيقة السياسية والبرنامجية التي نعرضها اليوم على المؤتمر، ولكن على عموم الرأي العام أيضاً. إنها بديلُنا لمواجهة الأوضاع الحالية والمستقبلية. فأولاً، يتعين وضعُ الإنسانِ فعليًّا في قلب المسارِ التنموي، من خلال إعمال الدلالات والمضامين الحقيقية لمفهوم الدولة الاجتماعية، بما تعنيه من إعلاءٍ لدور الخدمة العمومية، وللمدرسة العمومية والمستشفى العمومي تحديداً، وتوزيعٍ عادل للخيرات؛ وتوفيرٍ لشروط إنجاح ورش الحماية الاجتماعية، بما فيها شرط استدامة التمويل؛ وإقرارٍ للعدالة الاجتماعية والمجالية؛ واستعمالٍ للأداة الجبائية لتوزيعٍ أفضلَ للدخل؛ ومكافحةٍ للفقر والهشاشة؛ مع الاستثمارِ في اقتصاد المعرفة؛ والعنايةِ بأوضاع الشباب؛ ودفعٍ قويٍّ بالديموقراطية الترابية. لكن حزبُنا لا يُطالبُ بتوزيع ثرواتٍ لن توجَدَ في الأصل. ولذلك فبديلُنا يقوم على اقتراحاتٍ عملية لتحقيق نموٍّ اقتصادي مطرد وقادر على الصمود ومواجهة الأزمات، لا سيما من خلال ضمان السيادة الاقتصادية الوطنية. إنَّ ذلك يستلزمُ قطاعاً عمومياًّ استراتيجيا يُشكل قاطرة مُوجِّهة ومتدخلة في التنمية، مع قطاعٍ خصوصي قوي ومسؤول تحظى فيه المقاولةُ الوطنية بمستوىً عالٍ من الدعم المُنتِج، مع سَعيٍ حقيقي وحثيث نحو إيجاد الصيغ المحفِّزة لمعالجة القطاع غيرِ المُهيكل. ولهذا فإنَّ السيادة الصناعية والغذائية والطاقية ينبغي أن تكون هي الأوْلى. مع جعل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية؛ فضلاً عن الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية ومهن المستقبل؛ وإعادة توجيه الأبناك نحو تمويل القطاعات الأكثر إنتاجية. كما أنَّ بديلَ حزبنا يعتمد على الإيكولوجيا والنمو الأخضر كعنصر تحولٍ في أنماط الإنتاج والاستهلاك، بما يتطلبه ذلك من سياسات جريئة للحفاظ على الموارد الطبيعية، مع تعزيز خطواتِ الانتقال الطاقي. وتتموقع إشكاليةُ الماء في قلب بديلِ حزبِنا، بالنظر إلى حالة الجفاف الحاد، والآثار الوخيمة للتغيرات المناخية. وهو ما يقتضي إجراءاتٍ قوية ومعالجَةً عميقةً على هذا المستوى، مع تنويع مصادر التَّزَوُّدِ بالماء، وتغييرِ الثقافةِ المجتمعية والأنماط الاستهلاكية، جذريا، تُجاه الموارد المائية، بما يسمح بضمان الأمن المائي الوطني، وبتوفير الماء الصالح للشرب، بشكلٍ مُستدام، لكل المغاربة، وفي كل مناطق بلادنا. لكن مهما كانت السياساتُ العموميةُ مُتْقَنَةَ الصياغة، ستظل محدودة الوقْع إنْ لم تَتِم مُواكبتُها بقراراتٍ كبرى لتحسين الحكامة وضمان مَنَاخٍ مناسبٍ للأعمال. ونعني هنا ضرورة إعمال دولة القانون في المجال الاقتصادي؛ ومكافحة الفساد والريع وكافة الممارسات الاقتصادية القائمة على الاحتكار والمنافية لقواعد المنافسة؛ مع إصلاحٍ حقيقيٍّ للعدل والإدارة، تخليقاً وتدبيراً ورقمنة. وبالموازاة مع كل ذلك، فإنَّ حزبَ التقدم والاشتراكية ينطلق من اقتناعٍ راسخ بأنَّ التغييرَ والإصلاح لن يُكتَبَ لهما النجاح سوى في ظل فضاءٍ ديموقراطيٍّ وحقوقي رحب. فمقترحاتُنا تنصبُّ، أيضاً، على توسيع مجال الحريات؛ وعلى ملاءمة واقعِ حقوق الإنسان مع المرجعيات الدستورية والكونية؛ وحرية الصحافة؛ وعلى الرُّقيِّ بالمجتمع المدني وبالديموقراطية المشاركاتية. كما يُولِي بديلُنا اهتماماً خاصاًّ وقويا بالمساواة التامة بين النساء والرجال على جميع المستويات وفي كافة المجالات. وهي فرصةٌ نُجدد فيها دعوة حزبنا إلى طيِّ ملفاتٍ مُؤسفة، سواء منها تلك المتعلقة بالحركات الاجتماعية، أو تلك المرتبطة ببعض الصحفيين. ولأنَّ الثروة ليست كلها ذات طابعٍ مادي، فإنَّ حزبنا يأخذ في عين الاعتبار، بقوة، الأبعادَ القيميةَ والثقافية والمجتمعية في بديله الديموقراطي التقدمي. لذلك نعتبر، في بديلنا، أنَّ الثقافةَ عُنصرٌ محدِّد للإصلاح وللتقدم في البناء الديموقراطي والمسار التنموي. ما يتطلب الاستثمارَ الذكي والمنتِج لتعدد وغنى مكونات وروافد الثقافة الوطنية، وجعل هذه الأخيرة قطاعاً اقتصاديا قائم الذات. كما يتطلبُ الأمرُ إيلاءَ أهميةٍ خاصة للمثقفين والمُبدعين. وهنا لا نحتاج إلى التأكيد على مكانة الأمازيغية التي حققنا فيها مكتسباتٍ على صعيد الإقرار، لكنها مكتسباتٌ تحتاج إلى التفعيل الحقيقي. وفي الأول والأخير، لا كُلُّ هذه الإصلاحات، الواردة بتدقيقٍ وتفصيلٍ في وثيقة المؤتمر، ولا أيُّ إصلاحاتٍ أخرى، يمكنها أن ترى النور بشكلٍ تجريدي، بل إنَّ أيَّ إصلاحٍ لا بد له من فضاءٍ ديموقراطي قوي، بمؤسساتٍ قادرةٍ على حمل مشاريعِ التغيير والبناء، ولا بد له من نُخَبٍ وأحزاب تَحمِلُه؛ ولا بد له من تفاعُلٍ وتفسير إزاء المجتمع؛ ولا بد له من إطارٍ تشريعي. والأهم من هذا وذاك: ولكي ينجح، لا بد له من فضاءٍ ملائمٍ تتفجر فيه الطاقاتُ وتُحدَثُ فيه التعبئةُ المجتمعية، وتسود فيه الثقة والمشاركة الإيجابية. فالمجتمع الذي لا جَدلَ ديموقراطيَّ فيه، ولا نقاشَ عمومي، هو مجتمعٌ يسير نحو مخاطر المجهول. وببساطة: لا يستقيم الإصلاحُ الاقتصادي والاجتماعي أبداً من دون فضاء ديموقراطي سليم، بمجال واسعٍ للحريات. فالديموقراطية شرط لازم للتنمية. والدولة ستكون أقوى بمؤسساتها وممارساتها الديموقراطية، والمجتمع سيكون أقدر على العطاء وأكثر شعوراً بالانتماء في كنفِ الديموقراطية ذات المضمون السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي، في آنٍ واحد. الحضور الكريم؛ الرفيقات والرفاق؛ إنَّ تحقيق البديل الديمقراطي التقدمي الذي يَقترحه حزبُ التقدم والاشتراكية على المجتمعِ السياسي ومجموعِ الشعب المغربي لا يمكن أن يتحقق من دون عملٍ وحدوي، ومن غيرِ تحالفاتٍ بين كل القوى التي تتقاسم بعضَ أو مُعظمَ أو كُلَّ مضامينه. وقد أسَّسَ الحزبُ دائماً مقاربته لهذا الموضوع على تغليب المصلحة العليا للوطن والشعب. فبالنظر إلى ما يعرفه المسارُ الديمقراطي من جزر وركود، ولأنَّ الإصلاحاتِ تكادُ تكون متوقفة، حتى أنها بدأت في استنزاف المكتسبات، فإن مهام حزبنا، في هذه المرحلة، هو النضالُ بمختلف الأشكال المتاحة، وعلى كل الواجهات الجماهيرية والمؤسساتية، من أجل أن تَنْفَلِتَ بلادُنا من مرحلة الركود والجمود هذه، وتنطلِقَ نحو أفُقٍ جديد ومتقدم في مسار الإصلاح الديمقراطي والتنموي واستكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. ومن هنا الحاجة التاريخية والمُلِحَّةُ إلى التفافٍ جديد للقوى الوطنية والديموقراطية، ومواصلةِ السعي نحو وحدة اليسار المستعصية. لكن يتعين السعي أيضاً نحو توسيع منطق ومفهوم التحالف، ليشمل ما نُسَمِّيهِ في حزبنا: "الحركةُ الاجتماعية المواطِنة"، ذاتُ المطالبِ الحقوقية والمساواتية والشبابية والمدنية والإيكولوجية والاجتماعية وغيرها. هذا هو، إذن، منظورُ حزبِ التقدم والاشتراكية، الذي نلتئم اليوم في إطار مؤتمره الوطني الحادي عشر. حزبٌ حاملٌ لمشروعٍ سياسي جماعي، بخلفية فكرية واضحة، وبمهام تاريخية، بوفاءٍ لهويتنا الاشتراكية والتقدمية الثابتة، وللأبعاد الوطنية والديموقراطية والإيكولوجية في هذه الهوية؛ وبانفتاحٍ على المرجعيات والتجارب الإنسانية المتجددة؛ وبِسَعيٍ نحو تجديد مقارباتِ العمل. إننا حزبٌ نسعى إلى أن نحافظ على كوننا قوة اقتراحية تمارس السياسة بنضالية والتزام وأخلاق، من منطلق المصلحة العليا للوطن والشعب، كما كنا دائما منذ ثمانين سنة، منتصرين لمصالح الشغيلة اليدوية والفكرية وعموم الطبقات الكادحة والمستضعفة، ومؤمنين بأنَّ الطريق نحو التغيير لا يستقيم سوى من خلال التعاون والعمل الوحدوي. هذا هو حزبُ التقدم والاشتراكية الذي يعتبر نفسَهُ أداةً بِيَدِ المغرب والمغاربة. ويعتبر الإصلاحَ مبرِّرَ وجوده وغَايَتَهُ. حزبٌ يحرص على صون قيمه الأساسية، دون أدنى ترددٍ في الانفتاح على كل الطاقاتِ المجتمعية الفاعلة واحتضانها. إننا على قَدْر اعتزازنا بالتطور الذي عرفه حزبُنا على مستوى الانتشار الجغرافي، وعلى صعيد الإشعاع السياسي، وحتى على مستوى الحضور الانتخابي، بِقَدرِ ما لا نَجِدُ حَرَجاً في ممارسةِ النقد الذاتي علانيَّةً. لأنَّ الموضوعية تقتضي أن نتحدث عن نقائص وإخفاقاتِ حزبِنا. وهذا ما دأبنا على ممارسته منذ نشأتنا. وفي الزمن القريب، أنتجنا عدداً من الوثائق الداخلية المُحَمَّلَةِ بنَفَسٍ نقدِيٍّ قوي، مع اقتراح عددٍ من المَداخلِ لتجاوُزِ النقائص. فنحن مُطالبون ببذل جهد أقوى من حيث تطويرُ نموذجنا التنظيمي وأساليب تدبيرنا لشؤون الحزب وأشكال تَواصُلِه؛ ومن حيثُ تفاعُلُهُ مع الفضاء الرقمي؛ وقدرته على تأطير النساء والشباب؛ وعلى التجذر أكثر في الأوساط المهنية المختلفة؛ وعلى التفاعل مع الحركاتِ الاجتماعية وتأطيرها وقيادتها. إنَّها، وغيرُها، هفواتٌ ونقائص يتعين السعيُ إلى التغلب عليها، بشكلٍ دينامي، وبأفق استراتيجي، من أجل تقوية حُضورِ الحزب، وتعزيز جاذبيته، ومن أجل استيعابٍ أفضل لمتغيراتِ وتحولات العصر، وبأفق تحقيق التطابق بين الإشعاع السياسي والوزن الانتخابي. ودون أن نُغْفِلَ الصعوباتِ الموضوعية التي أضحت تواجهُ العمل السياسي، عندنا وعند غيرنا. ومع الإقرارِ بضرورةِ هذه المقاربة النقدية، بالنظر إلى مزاياها في تطوير أداء حزبنا، فإنَّ ذلك لا يُنْقِصُ أبداً من قيمة ما استطعنا القيام به بشكلٍ جماعي. وهنا لا بد أن أتوجه بالتحية العالية إليكن وإليكم، جميع المناضلات والمناضلين، في كافة فروع الحزب وهياكله ومنظماته وقطاعاته ومؤسساته الفكرية، على ما تبذلونه من مجهوداتٍ نضالية تطوعية عَزَّ نظيرُها في زمنٍ تراجعت فيه قيمُ النضال والتضحية، من أجل أن يتبوأ حزبُنا المكانة التي يستحقها في المشهد الوطني. ولذلك، نعقد مؤتمرنا هذا، بأفقٍ استراتيجي يمتد على السنوات القليلة المقبلة، غايتُنا الحفاظ على هوية الحزب، وتعميق تجذره وتأثيره في المجتمع، وتعزيزُ الانفتاح على الكفاءاتِ والطاقات الجديدة، مع تطويرِ أساليب عملنا. فعلى مدى هذه الثلاثة أيام، مُنتظر منا جميعا، أن نتحلى، كالعادة، بروحٍ مسؤولة وجريئة وبناءة، وبقدرةٍ على ممارسة النقد والنقد الذاتي، عسانا نكون في مستوى حزبنا المعتز بماضيه النضالي المشرق، والمُقَدِّرِ لمهامه التاريخية الراهنة، والواثق في المستقبل، والمعتمِدِ على جدلية الوفاء والتجديد، في تكيُّفٍ دائم مع الواقع المتغير. فإلى العمل، ثم العمل. شكرا لكم جميعا. محمد حجيوي