الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، نلتئم اليوم في إطار الدورة الخامسة للجنتنا المركزية، ونحن في موقع المعارضة، وحزبنا، كما كان، فاعل أساسي في الحياة السياسية الوطنية، يحذوه تطلع أقوى لأن تتعزز مكانته في المشهد الحزبي الوطني. فمسيرة نضال وكفاح حزبنا تتواصل من أجل قضايا الوطن والشعب، بوفاء وتجديد، كيفما كان الموقع المؤسساتي الذي نوجد فيه، ومهما كانت صعوبات المرحلة التي يجتازها وطننا. إن وجود حزبنا له ارتباط وثيق بالدفاع عن مشروع مجتمعي يقوم على الديمقراطية ودولة المؤسسات، وعلى مجتمع الحرية والكرامة وحقوق الإنسان والمساواة، مجتمع الاقتصاد الوطني القوي والتوزيع العادل للخيرات الوطنية اجتماعيا ومجاليا، مجتمع التقدم والانفتاح والتحديث،،، وكل ذلك في أفق بناء المجتمع الاشتراكي الذي يشكل جوهر غاياتنا وهويتنا. إن حزبنا تأسس من أجل ذلك فقط، فلا فائدة في وجودنا إذا نحن انحرفنا عن هذا الخط، سواء كنا داخل الحكومة أو خارجها،،، ولا نفع فينا إذا زِغنا عن النبرة المميزة لحزبنا، والقائمة على الصرامة في التحليل، والجرأة المسؤولة في التعبير، والموضوعية في مقاربة القضايا، والتعاطي الرصين مع الوقائع والتطورات،،،، وهي الميزات التي جعلتنا سباقين إلى اعتماد عدد من المواقف التي لم يعترف بصوابها ووجاهتها إلا بعد حين. أوضاع دولية سمتها الأساس الاضطراب الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، اسمحوا لي قبل أن أتناول القضايا الوطنية والحزبية، أن أعرج بداية على السمات الأساسية للأوضاع الدولية، لكونها تسائلنا وطنيا، ما دامت بلادنا لا تعيش بمعزلٍ عما يدور من حولها. فالتطورات الجارية على الساحة الدولية تؤشر على أن العالم ينحو في اتجاه مزيدٍ من الاضطراب، بداية بفعل السياسات التي ينتهجها النظام الرأسمالي المهيمن، ثم أيضا بفعل التوترات الداخلية الناتجة عن السياسات الإمبريالية ذات الانعكاسات السلبية على الشعوب، ولا سيما على الطبقات الكادحة. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي تلعبه الولاياتالمتحدةالأمريكية في هذه السياسات، تحت شعار الانفتاح الاقتصادي، والحال أن هذا الشعار ينتفي تماما عندما يتعلق الأمر بمصالحها الخاصة، كما يتبين ذلك جليا من خلال حربها التجارية مع الصين، في إطار سعي حمائي ضيق. كثيرون سيقولون إن هذا الوضع ليس جديدا، وهذا صحيحٌ موضوعا، لكن في نفس الآن لا يختلف اثنان حول كون هذه التمظهرات تأخذ اليوم حجما غير مسبوق منذ عقود. فَما يلفت الانتباه اليوم هو هذه الهبات اليقظة للشعوب، وإقدامها على التعبير والاحتجاج، ونزوعها الجريء نحو المطالبة بالتحرر والانعتاق، وسعيها الجِدِّي نحو انبثاق وضع عالمي بديلٍ للنظام العالمي الذي تحاول الإمبريالية فرضه عنوة على الشعوب،،، وضع عالمي بديل ينطوي على قيم الإنسانية والحرية والكرامة والعدل والسلم والديمقراطية. على هذا الأساس، يمكن القول إننا اليوم بصدد مرحلة تاريخية عالمية عنوانها البارز هو “تنامي قوة الاحتجاج”، ما يدل على أننا أمام قوة دفع جديدة لحركة التاريخ والمجتمعات، وقودها هو بلوغ الرأسمال مستويات قصوية من الظلم والتجبر والاستغلال والاستعلاء، ما أفضى إلى درجات أقصى من ردود الفعل القلقة والغاضبة من قبل الشعوب، تتحول شيئا فشيئا إلى حركات اجتماعية مرشحة لأن تصير أكثر تأثيرا في مجريات التاريخ المعاصر. ولا يمكن هنا أن نغفل ما تلعبه وسائل الاتصال الحديثة من أدوار حاسم في هذه التطورات، لا سيما بالنظر إلى الوزن الذي صارت تشكله الشعارات المتناقَلَة بشكل هائل، وإلى الصدمة التي تخلفها الصور المرافقة لها. إن اضطراب الوضع الدولي لا يعيش اليوم سوى إرهاصاتٍ أولى لها كل الخصائص التي تؤهلها للتصاعد، ويستنتج ذلك من تزامن مظاهر الأزمة السياسية، أو الاحتجاج الاجتماعي، أو هما معا، في معظم أرجاء العالم تقريبا، من الولاياتالمتحدة، إلى بلدان أمريكا اللاتينية (البرازيل، بوليفيا، الشيلي،…إلخ)، وأوروبا (فرنسا وإسبانيا،…)، مرورا بالمنطقة العربية (سوريا، العراق، لبنان، الجزائر، السودان، الأردن، وليبيا…إلخ)،،، وغير ذلك كثيرٌ ومتفاوت. كل ذلك يجعلنا نستخلص الخلاصات الأولية الآتية: أولا: أن التاريخ لم ينته، والرأسمالية لم تنتصر، وللجدل الإيديولوجي بقية، ولحركة التاريخ كلمة لم تقلها بعد؛ ثانيا: الرأسمالية تثبت فعلا بأنها ليست هي الجواب السليم عن أسئلة رفاهية البشرية وإنسانية الإنسان وتحرره وكرامته؛ ثالثا: الحركة الاجتماعية العالمية الحالية تحمل أهدافا وشعاراتٍ تلتقي موضوعيا مع المقولات الفلسفية والبرامج السياسية لليسار، لكنها حركة لا تضع نفسها دائما في بوتقة هذا اليسار، ولا تخدم في كل الحالات أجندته السياسية والنضالية، بل الأدهى من ذلك أنها تصب أحيانا في خانة قوى سياسية يمينية أو شوفينية أو محافظة أو شعبوية، مما تطرح معه بحدة إشكاليتان مرتبطتان، وهما إشكالية الوعي الطبقي والسياسي، ثم إشكالية الأدوات التنظيمية والتأطيرية لليسار؛ رابعا: الاشتراكية كأفق إنساني، واليسار كاصطفاف نضالي، لا يزالان محتفظين بكافة مقومات البديل التاريخي، فكرا وممارسة. بهذا السياق، فإن حزب التقدم والاشتراكية المنتمي لليسار العالمي، يجد نفسه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مَعنِياً بتجسيد البديل الموثوق وطنيا، لا سيما من خلال استيعاب التحولات الجارية وتجديد أدوات الفعل، من أجل الإسهام الأوفر في بلورة غدٍ أفضل لوطننا وشعبنا، والانخراط في بناء عالمٍ إنسانيٍّ بديل، والتموقع الفاعل في مناهضة الحرب المتعددة الأشكال التي تشنها الإمبريالية على الشعوب. وانطلاقا من مبدأ التضامن الأممي، فإن حزب التقدم والاشتراكية يجدد تضامنه مع كافة الشعوب التواقة إلى الحرية والديمقراطية والاستقرار والتنمية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويقف موقفا مناهضا للتدخلات الأجنبية في شؤون الدول والشعوب، وضد المساس بإرادتها وسيادتها ووحدتها. وهنا، التضامن المطلق نوجهه، على وجه الأولوية، إلى الشعب الفلسطيني في كفاحه المتواصل ضد آلة التقتيل والإرهاب الصهيونية المسنودة بدعم الإدارة الأمريكية الحالية، في محاولة لتصفية القضية الفلسطينية ومُصادرة كافة حقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حقه في العيش الآمن في كنف دولة حرة ومستقلة وقابلة للحياة وعاصمتها القدس الشريف. محورية القضية الوطنية الأولى وضرورة تمتين الجبهة الداخلية أما على المستوى الوطني، فإنه لا تردد لدينا في كون قضيتنا الأولى والمصيرية تظل هي قضية الصحراء المغربية، والتي تستوجب كل التعبئة دفاعا عنها بلا هوادة، وذلك على أساس مقترح الحكم الذاتي في نطاق السيادة الوطنية، بوصفه حلا سياسيا جريئا يضمن الاستقرار الجيو سياسي لمنطقة تتنامى فيها التحدياتُ الأمنية. وإذا كنا في حزب التقدم والاشتراكية نسجل إيجابا القرارات الأخيرة لمجلس الأمن، لاسيما من خلال استبعادها للطروحات غير الواقعية، فإننا نعتبر أنفسنا معنيين، إلى جانب كافة الفعاليات والمؤسسات الوطنية، بواجب فضح مناورات الأوساط المعادية للمصالح العليا لبلادنا، وإمعانها في معاكسة المساعي والنوايا الحسنة للمغرب ولمقترحه الذي يُعد أقصى ما يمكن أن يقدمه من تنازلات، كما على المنتظم الدولي أيضا أن يتحمل مسؤولياته تجاه مناورات الحكام الجزائريين وجماعة الانفصاليين، وإصرارهم على اختلاق وضعياتٍ الهدفُ منها محاولة تأبيدِ النزاع المفتعل من أجل تبرير استفادتهم منه بأشكالَ متعددة. في نفس الوقت، فإن حزب التقدم والاشتراكية يؤكد مرة أخرى على أن رهان كسب قضيتنا الوطنية يتوقف على تمتين الجبهة الداخلية، من خلال المضي قدما في بناء المغرب القوي بديمقراطيته ومؤسساته، مغرب العدالة الاجتماعية والإنصاف المجالي،،، وكذا في بلورة نموذج تنموي بديل وناجع، وفي تفعيل الجهوية المتقدمة، وأيضا في تعزيز أدوار ووسائل الدبلوماسية الموازية. أزمة الثقة: العنوان الأبرز للأوضاع الوطنية الراهنة الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، علاقةً بهذه الجبهة الوطنية الداخلية، فإنه من باب الموضوعية أن نؤكد على كون المسار الديمقراطي والتنموي قد تَمَيَّز،َ خصوصا في السنوات الأولى من هذه الألفية، بدينامية أَفْضَت إلى مكتسبات غيرت إيجابا وجه بلادنا على كافة الأصعدة، وذلك ما أكسب وطننا مقومات المناعة والاستقرار، وجعلَه يقطع أشواطًا على طريق الإصلاح المستند إلى الدور القيادي والمكانة الخاصة للمؤسسة الملكية، وإلى كَامِ مجهوداتها مع المساهمة الفاعلة والقوية للقوى الوطنية والديمقراطية، ذات المصداقية، في سيرورة الإصلاح. في مقابل ذلك، لا يمكننا اليوم إلا أن نقف عند مظاهر القلق والتساؤل والغضب التي باتت تخترق معظم الطبقات والفئات والشرائح المجتمعية، من العمال والفلاحين والطلبة والشباب والمعطلين والموظفين، إلى رجال الأعمال، مرورا بمختلف فئات الطبقة الوسطى. إنه وضعٌ يؤشر على فقدان عنصرٍ أساسي في التحريك الإيجابي للمجتمعات، ألا وهو عنصر الثقة،،، ولا يحتاج المرء إلى كثير من الجهد لكي يَخْلُصَ إلى أننا فعلا أمام أزمةٍ حقيقيةٍ وجِدية وعميقة اسمها أزمة الثقة:Crise de Confiance ، وهو الأمر الذي لم نتردد في التنبيه إليه واقتراح البدائل لتجاوزه، من خلال مختلف التقارير والبيانات، حتى حين كنا في موقع التدبير الحكومي الذي نُذَكِّرُ، بالمناسبة، كُلَّ من تخونُهُ ذاكرتُهُ أو يخونُهَا، أنه موقعٌ لم يُثْنِنَا أبدًا عن المناداة بالنفس الديموقراطي الجديد بمداخله الإصلاحية المتكاملة، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وقيميا وثقافيا. بل إنَّ تَرَسُّخَ اقتناعنا بكون الأغلبية التي كنا ننتمي إليها ليست مُسْتَشْعِرَةً لدقة وحساسية الوضع، وليست مستعدة ولا قادرةً سياسيا على بلورة وقيادة الإصلاحات الضرورية للتفاعل مع متطلبات المرحلة، لهو المبرر الحقيقي والوحيد لما اتخذناه من موقفٍ مستقل ومسؤول وديموقراطي بمغادرة تلك الأغلبية، والتي يبدو أن بعضها مرتكنٌ إلى اطمئنانٍ مغشوش بخصوص الأوضاع الراهنة وتحدياتها، والبعضُ الآخر شغلُهُ الشاغل فرملةُ الإنجاز وعرقلتهُ مُشْرَئِبًّا نحو استحقاقات سنة 2021، متغافلا لكونه مُطَالَبٌ، الآن وهنا، بأن يضطلع بواجباته، وليس بأن يجعل من مؤسسة الحكومة منبرا وأداةً انتخابية لتقديم الوعود وترويج الأوهام. طبعا، لسنا هنا اليوم بصدد إعادة الحديث عن مبررات موقفنا بالانسحاب من الأغلبية، لكن مع ذلك نجد أنفسنا مضطرين لكي نقول إن الأوضاع العامة لبلادنا، ووضعية الأغلبية الحالية، لم يطرأ عليها بَعدُ ذلك التغييرُ المطلوبُ، مما يجعل من ندائنا إلى النفس الديموقراطي الجديد مُكتسِبًا اليوم أيضا لراهنيته وملحاحيته. والواقع أن مسلسل تفكيرنا الجماعي في حزب التقدم والاشتراكية متسقٌ ومنسجمٌ، ومواقفنا لا نتخذها أبدا انطلاقا من ردود الفعل. في هذا الإطار، وللتذكير السريع: إذا كانت الدورة الاستثنائية للجنة المركزية ليوم 04 أكتوبر 2019 قد أنهينا من خلالها المصادقة على قرار الانسحاب من الأغلبية بسبب استنفاذنا لكل أمل في أن تتجاوب الأغلبية مع سؤالنا حول المعنى الإصلاحي والتوجهات السياسية الجديدة للتعديل الحكومي، وهي المنطلقات التي كان صاحب الجلالة قد أسس عليها دعوته إلى التعديل المذكور،،، فإن الدورة الرابعة ليوم 04 ماي 2019 كنا خلالها قد شددنا على ضرورة تجاوز حالة الفراغ والعبث والانحباس المؤدية إلى تفاقمِ أجواءِ اليأسِ والشعبوية والعفوية وفقدانِ ما تبقى من مصداقيةٍ،،،، كما كنا ربطنا استمرارنا ضمن صفوف الأغلبية بِشَرْطِ قُدْرَة الحكومة على تحريكِ الإصلاحاتِ الأساسية. وهي نفس نبرة الدورة الثالثة الملتئمة يوم 27 أكتوبر 2018، والتي كنا قد أكدنا فيها على أن مسألةَ حضور الحزب في الحكومة موضوعٌ يُمْكِنُ مراجعتُه بحسب مدى تَمَاهِي الحكومةُ مع ديناميةِ الإصلاح. نستعيد معكم كل ذلك، دون أن نعود إلى مُخرجات مؤتمرنا الوطني الأخير المنعقد في شهر ماي 2018، وأهمها وثيقةُ النفسِ الديموقراطي الجديد، والتي تعبر عن خيط ناظم لمواقفنا المطالِبة بتثبيت المكتسباتِ وتجاوز الإخفاقات التي يواجهها المشروع الاصلاحي الوطني، سواءٌ في ما يتصل بتقوية المؤسسات والتفعيل السليم لمضامين الدستور، أو في ما يتعلق بتمكين المواطنات والمواطنين، وخاصة الفئات المستضعفة والفقيرة، وفي جميع المناطق، من الاستفادة من ثمار تقدم بلادنا، والتمتع بالعيش الكريم في وطن تسوده العدالةُ وقوامهُ المساواةُ والحرية والكرامة، ومواصلة بناء ديمقراطيةٍ حقيقية وسويةٍ تضطلعُ فيها كافة المؤسسات، بما فيها الأحزاب بأدوارها الكاملة، للإسهام في إعادةِ الثقة وتهييئ أجواءِ التفاؤلِ والعمل. وعملنا على تدقيق رؤيتنا السياسية تلك، من خلال مقترحنا حول النموذجِ التنموي الجديد الذي ذهبنا إلى ضرورة استدماجه الخلاق للأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية والقيمية والثقافية، وإلى وجوب قيامه على خمسةِ مرتكزاتٍ رَئِيسَة، هي: جعلُ الإنسان في قلب العملية التنموية،،، ونموٌّ اقتصادي سريع ومضطرد،،، وتحسين الحكامةِ وضمان مناخ مناسب،،، والبعد القيمي والثقافي والمجتمعي، ثم أساسًا الديمقراطية لحمل النموذج التنموي. ونحن بصدد الحديث عن النموذج التنموي الجديد، فإننا نوجه متمنياتنا الخالصة بالتوفيق والسداد إلى اللجنة المَنُوطَةِ بها مهمةُ إعداده، وإلى رئيسها وأعضائها مِنْ ذوي التخصصات والكفاءات المختلفة، ونتطلع إلى أن تكون الشهور المقبلة حُبلى بالنقاش العمومي الواسع حول هذا الموضوع الوطني الأساسي، مع الأمل في أن يكون المدخلُ السياسي مدخلا أساسيا ومحوريا في عمل هذه اللجنة، اعتبارا لكون النموذج التنموي الذي سَتَخْلُصُ إليه سيتعين، أساسا وفي نهاية المطاف، على السلطة التنفيذية بلورتُهُ، إلى جانب السلطة التشريعية في ما يتعلق بالتأسيس القانوني لعدد من جوانبه، وذلك في إطار حياة ديموقراطية سوية وعادية. لكن، لماذا استرجعنا كل ذلك المسار من مواقف الحزب؟ هل على سبيل الاعتداد المشروع بصواب تفكيرنا الجماعي؟ هل لكي نَطْمَئِنَّ إلى أن تحاليلنا لم يَشُبْهَا أيُّ سوءٍ في التقدير؟ هل لنجعل مناضلاتنا ومناضلينا أكثر اعتزازا بمواقف حزبهم ولمشروعه السياسي؟ هل لكي نوضح للرأي العام أن هذا حزب مسؤول ومنطقي وواضح مع نفسه ومع الناس؟ نعم، إن كل ذلك وارد جدا،،، لكن دعوني أقول لكم إن السبب الرئيسي الذي يجعلنا نستحضر كل هذا المسار المتناسق من المواقف، هو استشرافُ حاضر ومستقبل وطننا وشعبنا. فَيا ليت حزبنا كان مخطئا في تحاليله تلك،،، ولكنه للأسف كان ولا يزال على حق في كل تنبيهاته ونداءاته، والواقع لا يكف عن إثبات صحة ما صَدَحْنَا ونصدَح به لصالح وطننا وشعبنا،،، كما لا تتوقف تطورات الأحداث عن تقديم البرهان الذي يجسد فعليا وحرفيا كل ما نبهنا إليه وعبرنا عن تخوفنا من إسقاط بلدنا في سلبياته. ولا شيء أدل على ذلك من كون قوى مجتمعية وسياسية التحقت موضوعيا لتتبنى خطابا قريبا من خطابنا،،، كما لا شيء أدل على ذلك من استمرار غَلَبَةِ سماتِ الضبابية والالتباس والارتباك والحيرة والقلق والانتظارية على فضائنا الوطني العام، أمام هَوْلِ الفراغ والجمودِ والعجز الواضح عن تحريك الأوضاع وتبديدِ المخاوفِ والتساؤلاتِ لدى مختلف الأوساط والشرائح والطبقات. كنا نأمل أن تُكَذِّبَنَا الوقائع،،، لكن ها نحن نتابع للأسف كيف أن الأغلبية تُمْعِنُ في إخلاف موعدها مع مُباشرة الإصلاحات الكبرى والأساسية، وكيف أن السمة الأساسية لهذه الأغلبية هي عدم الانسجام المتجلي في استمرار الصراع بين مكوناتها،،، وكيف أن بعض هذه المكونات مُتمادٍ في ادعاء بطولات مؤجلة إلى ما بعد 2021، وكيف أن البعض الآخر يستمر بشكل باهت، وبلا التزام، ضمن أغلبية لطالما عارض تماما أي تواجد إلى جانب الحزب الذي يرأسها،،، ثم كيف أن البعضَ الآخر من هذه الأغلبية فَقَدَ الكثير من حماسته إلى التغيير واستسلم إلى الواقع كما هو. هذه هي سمات الوضع، ولا جديد لاح في الأفق، ولا نكهة سياسية للحكومة الحالية، ولا تصريح سياسي أعلنته بخصوص توجهاتها الجديدة، ولا مبادرات من قِبلها لتجاوز صورتها الباهتة، أو لتوضيح الغموض الذي يَلُفُّ عملها، وجميع المؤشرات تُنبئُ بكون الخلافات والتشنجات بين مكوناتها مُرَشَّحَةٌ لمزيد من التفاقم كلما اقتربنا من موعد الانتخابات المقبلة. إننا لا نُورِدُ هذه التوصيفات على سبيل التشفي أو النقد الانطباعي، ولا نوردها كما لو أننا في صالون فكري لتبادل أطراف الحديث،،، بل إننا بصدد التأكيد على أنْ لا شيء تغير إيجابا، كما ننادي بذلك، مما يؤدي إلى مزيد من الاحتقان، وإلى مزيد من الغضب، ومزيد من الإفرازات المجتمعية الحانقة، وإلى مزيد من الرغبة في مغادرة الوطن، أو على الأقل الاستقالة من قضاياه. لكن الأكثر إثارة للمخاوف والانتباه، هو ما يفرزه وضعُ الجمود الحالي المتسم عموما بالانسداد وتراجع منسوب الثقة في العمل المؤسساتي وفي آلياته، بسبب الفراغ المُحدث، من أشكال عفوية وغير منظمة للاحتجاج، ومن صيغٍ جديدةٍ للتعبير تأخذ للأسف أحيانا أبعادا تمس بالثوابت الوطنية، مما يقتضي القراءة المتمعنة والمسؤولة لهذه التمظهرات، والسعي نحو بلورة الصيغ الملائمة من أجل احتضان وتأطير المَطالب والاحتجاجات والإنصات إليها، وتحويلها إلى فعلٍ إيجابي ومُنظم، عوض الإصرار على تكريس الفراغ الذي لا يفسح المجال سوى أمام تنامي التعبير العفوي عن الرفض والغضب والقلق بشكل غير محسوب العواقب. فحزب التقدم والاشتراكية الذي ناضل دائما من أجل التغيير المُنَظَّم والمتزن من داخل المؤسسات، وفي احترام تام للثوابت الوطنية ولمكانتها، وبتفاعلٍ إيجابي مع حركية المجتمع، وانخراطٍ مسؤول في النضال الجماهيري، يكرر دعوته من أجل الانتباه إلى هذه التعبيرات، وعدم الاستخفاف بها، أو التعامل معها على أساس المعالجة الضبطية الضيقة، وبالأحرى إطلاقِ تصريحاتٍ مُستفزة بنية تأديب أصحابها،،، بل على العكس، عين العقل والحكمة هو التقاط ما يقتضيه الوضعُ من إعادةِ الاعتبار للفعل السياسي الجاد وللوسائط المجتمعية والمؤسساتية، بما يضمن تملك القدرة على احتضان الحركية الطبيعية للمجتمع، وتأطيرها، واستيعاب مختلف تعبيراتها المشروعة، في ظل الإطار الدستوري والقانوني والمؤسساتي، وبأفق الإصلاح في كنف الاستقرار، مع ما تتطلبه اللحظة الوطنية أيضا من ضرورة الارتقاء بالأوضاع الاجتماعية لمختلف الفئات المحرومة، بما يحرر طاقات الشباب ويُطلقها في اتجاهات إيجابية وبناءة. لذلك كله، لا يزال حزبنا متشبثا بإلحاحه في المناداة إلى ضخ نَفَسٍ ديمقراطي جديد في حياتنا الوطنية العامة، وإنعاش الحركة الاقتصادية، ومراجعة نظام توزيع الثروة الوطنية بما يضمن شروط الكرامة بالنسبة لجميع المواطنات والمواطنين على قدم المساواة وبتكافؤٍ في الفرص، وإحداث شروطِ الانفراج.. لا شك في أن هناك ترابطا جدليا بين الأوضاع السياسية من جهة، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية، لذلك، نحرص على أن يكون تحليلنا شاملا، غير انتقائي ولا تجزيئي،،، وحين ننادي بالنفس الديمقراطي الجديد، فإننا ننطلق من قناعة راسخة بأن الانفراج السياسي سيكون مدخلا من مداخل تجاوز عدد من المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها بلادنا. وحين نقول إن الوضعية الاقتصادية الوطنية لا تدعو إلى الاطمئنان، فإننا بذلك لا نختلق المعطيات من خيالنا، بل إن مؤسسات وطنية متخصصة هي أول من يؤكد ذلك في مختلف تقاريرها. فبالإضافة إلى تأثيرات أزمة الاقتصاد العالمي التي ترخي بظلالها على اقتصادنا الوطني، هناك عوامل ذاتية تجعل من الأمور تنحو نحو التفاقم، ومن بينها نظام الحكامة السائد، وطبيعة السياسات العمومية، وضعف تقييم المخططات القطاعية. هكذا، صرنا نسجل تراجعا ملحوظا في معدلات النمو، والتي نزلت على 3%، بعد أن كانت تناهز 4.5% خلال الفترة 2008-2013، مع العلم أن ثمار هذا النمو، على علاته، لا تستفيد منه الطبقات الاجتماعية والمجالات الجغرافية بنفس الدرجة. وهو نمو ناتج بالأساس عن الطلب الداخلي، في حين يظل الطلب الخارجي يلعب دورا سالبا في هذا النمو، بسبب العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة بين بلدنا وشركائه، وهو ما دفع بحزبنا إلى أن يُضَمِّنَ مقترحاته الخاصة بالنموذج التنموي الجديد مراجعةَ اتفاقيات التبادل الحر، بما يحمي نسيجنا الإنتاجي الوطني. كما يتجلى ضعف أدائنا الاقتصادي في استمرار عجز ميزان الأداءات، حيث أنه بالرغم مما سجلته الأرقام المطلقة من زيادة في ما يتعلق بتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج وكذا الإيرادات السياحية، إلا أننا نسجل بالمقابل تراجعا ملحوظا من حيث مساهمة هذه الموارد في الناتج الداخلي الخام. أكثر من ذلك، لم تنجح الحكومة، إلى حد الآن، في إعادة النظر في السياسة الجبائية، باتجاه عدالتها وفعاليتها ومردوديتها،،، وبعد مرور سبعة أشهر على المناظرة الوطنية حول الجبايات، لا زال مختلف الفاعلون، ومعهم الرأي العام الوطني، ينتظرون تفعيل توصيات المناظرة المذكورة وبلورة مشروع قانون إطار بهذا الصدد. كما أنه في ظل عدم قدرة الحكومة على تعبئة موارد مالية كافية، فإنها تلجأ إلى الحلول السهلة مثل الاقتراض الذي يرهن مستقبل الأجيال المقبلة، حيث تعتزم اقتراض نحو 97 مليار درهما برسم سنة 2020، وهو نفس الرقم تقريبا المخصص لتسديد مستحقات الديون وفوائدها، مما يعني أن الاقتراض المذكور لا يتوجه في العمق نحو تمويل المشاريع التنموية، وهو أمر خطير يُنبئ بدخول بلادنا في حلقة مفرغة من المديونية. هذه فقط بعض الملامح المقلقة لاقتصادنا الوطني التي تُظهر ضعف مناعته، وهي ذاتُ انعكاسٍ سلبي واضح على الأوضاع الاجتماعية لشعبنا، لا سيما في مجال التشغيل، حيث تعاني فئة الشباب من البطالة المهولة. وعلى المستوى الاجتماعي دائما، نسجل تباطؤ الحكومة في توسيع التغطية الصحية والتغطية الاجتماعية بالنسبة للمهنيين المستقلين، حيث إذا كان لحزبنا شرفُ إخراج القوانين ذات الصلة إلى الوجود، إلا أن التماطل في تفعيل هذا الورش الاجتماعي الحيوي يظل أمرا غير مفهوم، وغير معقول، وغير مقبول. نفس الشيء، يمكن أن يُقال عن تعثر نظام المساعدة الطبية “راميد” الذي رغم انطلاقته الطموحة، إلا أن الحصول على بطاقة الراميد صارت اليوم لا تعني للمواطن الفقير أي شيء تقريبا، بالنظر إلى ضعف الموارد وضعف حكامة النظام المذكور برمته. أما إصلاحُ منظومة التربية والتكوين، فلا يزال التعثر يلازمه لحد الآن، حيث بعد المصادقة العسيرة على القانون الإطار بسبب مزايدات سياسوية غير مسؤولة، لا شيء يُظهر أن الحكومة مُصَمِّمَةٌ على تفعيل مقتضياته الهامة، والتي تتطلب إمكانيات لم يتم رصدها له بعد. وإنْ كانت بلادنا تتقدم على مستوى مشاريع الطاقات البديلة، إلا أن القضايا الإيكولوجية، بما تشكله من أهمية بالغة، حَالاً ومستقبلا، لا زالت لا تحظى بالأولوية، كما يظل البعد البيئي شبه غائب عمليا في السياسات العمومية، على الرغم من تعمق ظاهرة التلويث والاستنزاف البشع الذي تتعرض له الطبيعة ومواردها في غالبية مناطق بلادنا، كما هو الشأن بالنسبة لبعض الشواطئ، أو بعض المدن المتأثرة سلبا بالنشاط الصناعي الموجود بها، أو كذلك النقص الكبير الحاصل في معالجة النفايات بمختلف أنواعها،،، وهو ما يحتم تناول الموضوع من زواياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، في إطار نموذجٍ جديد للإنتاج يراعي وجوبا الالتزامات الإيكولوجية. لكن الأخطر من كل هذا وذاك، هو اتساع رقعة الأوضاع الاجتماعية المزرية الناتجة عن الهشاشة المطلقة، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، بالنسبة لآلاف الأسر الفقيرة بإقليم المضيق الفنيدق، على إثر إغلاق معبر باب سبتة أمام مرور السلع، وما أحدثه من توقفٍ يكاد يكون كاملا لمصدر القوت المعيشي الوحيد بالنسبة للكادحات والكادحين هناك في ظروف لا إنسانية. إن هذه الهشاشة المطلقة، بمآسيها وألمها ولا إنسانيتها، هي ما يسائلنا في الصميم،،، فإما أن يتم الانتباه إلى ذلك ومعالجته بالجدية المطلوبة، وإما أن يتم التغاضي عنه وإفساح المجال أمام عواقبه الوخيمة. تلكم بعض الملامح فقط من وضعٍ اقتصادي واجتماعي كان من المفترض أن تتصدى له، بحزمٍ وجرأة، الحكومةُ الحالية التي نرى أنها حكومة بلا رؤية، ولا إقدام، ولا انسجام. وهي الحكومة التي قدمت مشروع القانون المالي برسم سنة 2020، الذي يفتقد للحس الإصلاحي وللنفس السياسي، مكتفيا بمقاربة محاسبية ترسخ الأمر الواقع، وتعيد إنتاج نفس الأساليب الجامدة التي أبانت عن عقمها،،، وذلك، ما جعلنا نصوت برفض المشروع، من موقع المعارضة الوطنية التقدمية المسؤولة. البديل التقدمي وإمكانية التغيير في كنف الاستقرار الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، على الرغم من كل الصعوبات، إلا أن هوية حزب التقدم والاشتراكية تجعل من واجبه الإصرار على فتح أبواب الأمل أمام وطننا وشعبنا، وحمل شعلة التفاؤل، مُحاربا للعدمية والتبخيس، والمغامرة واللامبالاة، واليأس والتطرف والانتظارية، مؤمنا بإمكانية التغيير في كنف الاستقرار، وبقدرة وطننا على رفع التحديات التنموية والانتقال إلى مصاف الدول الديمقراطية، بثبات واطمئنان. لِمَ لا نكون متفائلين؟! وشعبنا اجتاز مراحل أصعب، وحقق نجاحات متفردة، لاسيما خلال اللحظات التي التقت فيها وتطابقتْ وتظافرت إرادات القوى الأساسية والفاعلة في وطننا،،،، وما ذلك اليوم على وطننا بعزيز. فمن المهم أن يتشبع مناضلاتنا ومناضلونا بفكرةٍ محورية مفادها أن حزبنا، انطلاقا من التزامه النضالي ومسؤوليته الوطنية، ومن خلال مواقفه ومقترحاته الجريئة والمسؤولة، فإنه بذلك يطرح عرضا سياسيا بمثابة بديل ديمقراطي وتقدمي حقيقي. فحزب التقدم والاشتراكية، حين يُصِرُّ على النقد البناء وتقديم المقترحات الجدية، فهو بذلك لا يمارس الديماغوجية، ولا يختار الحلول والتموقعات السهلة، بل إنه يجسد كَوْنَهُ جزءً أساسيا من الحلول والأجوبة عن الأوضاع العامة المقلقة الحالية، ويتطلعٍ إلى أن يحظى مشروعُهُ السياسي بمزيدٍ من الاحتضان من قِبل الطاقات الديموقراطية والتقدمية المؤمنة بإمكانية الإصلاح والتغيير في بلادنا، والمستعدة للعمل المُنَظَّمِ من أجل ذلك. حزبنا مقتنع تمام الاقتناع بأن المغرب يمكن أن يكون أَفْضَلَ حالا، وبأن الدولة الوطنية الديمقراطية القوية بمؤسساتها وبمشروعياتها التنموية الحديثة أمر ممكن، وبأن شعبنا يمتلك من المقومات ما يؤهله لعبور مطبات المرحلة الحالية بأمان وسلام وهدوء،،، نحو مغرب أكثر عدلا وإنصافا، نحو مغرب ينعم فيه الجميعُ بحقوقه بقدر تحمسه للقيام بواجباته،،،، مغرب المؤسسات القوية وذات المصداقية،،، مغرب الثقة،،، مغرب المشاركة والتعبئة الشعبية،،، مغرب الإصلاح المستمر الذي لا تنتهي مسيرته. على هذه الأسس، يتوجه حزبنا إلى الحاضر والمستقبل، بطاقته الخاصة، لكن بروحٍ وحدوية عالية، وباستعدادٍ للعمل البناء إلى جانب كافة النيات والطاقات الصادقة وكل القوى المجتمعية الجادة، سواء من داخل الحقل الحزبي، ومكونات المعارضة منها على وجه التحديد، أو من خارج الفضاء الحزبي التقليدي والأساسي في نفس الوقت، أي مع التعبيرات والتشكيلات المستعدة للانخراط المسؤول في سيرورة الحركة الاجتماعية المواطنة. وثيقة “تجذر وانصهار” وسيلة وأسلوب ومقاربة للعمل من موقع المعارضة للنهوض بأوضاع حزبنا والتماهي مع حركية المجتمع الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، ها نحن اليوم، من موقع المعارضة الوطنية التقدمية البناءة، نوجد أمام رهاناتٍ وطنية كبرى، وبأهداف طموحة رَسَمَهَا حزبُنَا لنفسه، وبدأنا فصلا جديدا، لكنه ليس غريبا على حزبنا، من النضال الذي نباشره اليوم بتصميمٍ أقوى على الارتقاءِ بأدائنا الحزبي إلى ما يجعله في مستوى اللحظة التاريخية. فهذا حزبٌ له الشجاعةُ الأدبية لأن يكَيف أساليبه، ويقفَ عند نقائصه من أجل معالجتها،،،، وهو حزبٌ منفتح وله الاستعداد لأن يجدد دماءه على كافة المستويات، ويحذوه تطلعٌ كبير نحو تجسيد البديل التقدمي الديمقراطي، ليس فقط على مستوى المشروع السياسي، وإنما أيضا على صعيد بنيات الاستقبال التنظيمية، حيث لا يكفي أن نتمتع بجاذبية سياسية ليكون في متناولنا ذلك الموقع الذي يليق بنا ونليق به، بل إنه من الضروري إرفاق ذلك بأداة حزبية ناجعة، مؤطّرة، منفتحة، مستوعبة لمحيطها وللمتغيرات، مجددة لأساليب عملها، بروحٍ مبادِرة ومبتكِرة، وبدينامية منتظمة. لذلك، عرضنا عليكم وثيقة “تجذر وانصهار” كوثيقة تأطيرية لمقاربة عمل كافة تنظيمات الحزب من موقع المعارضة، وهي الوثيقة التي تُعَدُّ استمرارا وامتدادا وتحيينا لوثائق مماثلة، وخاصةً خطة تجذر، وقبلها خارطة الطريق، كما أنها ورقة موجِّهة للسير بخطى واثقة نحو استرجاع زمام المبادرة والانصهار في الحركة الاجتماعية،،، وهي تنهل من هويتنا ومشروعنا السياسي التقدمي، وغايتها تعبئة الجسد الحزبي، من أجل بعث دينامية أقوى في صفوفنا، والإسهام في إحداث وتأطير دينامية مجتمعية، والانخراط الأقوى في قلب النضالات الجماهيرية. ذلك أنه لا معنى ولا جدوى من مواقفنا بدون أن نكون متواجدين ضمن الحركة الاجتماعية، والتي هي ليست شيئا مجردا أو شعارا فارغا أو كلاما نتبادله وننساه،،، بل إنها كُلُّ شكلٍ مطلبي، وكل تعبيرٍ نضالي، وكل مبادرة جماعية لمواطنات ومواطنين،،، هي كل التظاهرات، والنقاشات، والوقفات، والتجمعات، وكافة الأشكال النضالية، فئوية كانت، أو موضوعاتية، أو طبقية. على مناضلاتنا ومناضلينا، إذن، أن يعودوا بقوة من أجل ملء الساحة الاجتماعية، وتأطيرها، إلى جانب الناس، ومن أجلهم، بخطاب متزن ومتوازن، وبقدرة على التأطير، في الدواوير والمداشر، في القرى والحواضر، في الأحياء والجامعات والملاعب الرياضية، وفي الفضاءات المهنية، وداخل النقابات والجمعيات والتعاونيات والوداديات، وفي ساحات النقاش السياسي والفكري، وفي النوادي الثقافية والفنية…. إن مقاربة التجذر والانصهار التي نسعى إليها تعني ببساطة: “نمط الحياة” الذي يتناسب فعلا مع حمل صفة مناضلة أو مناضل تقدمي أصيل،،، من خلال التواجد وسط الناس، والتماهي مع همومهم ومطالبهم، لأنها جزءٌ من همومنا ومطالبنا. باختصار شديد، سأذَكر هنا بتوجهات الوثيقة التي توجد بين أيديكم منذ أسابيع: – أولا: هي ورقة تؤكد على مُرتكزاتِ مشروعنا السياسي الحالي، وتستهدف تحويل أفكارنا إلى تقدم، في تكامل بين الواجهات النضالية المؤسساتية مع الواجهات النضالية الجماهيرية، والإسهام في إحداث حركية اجتماعية مواطنة مؤطرة تتجاوز حدود الحزب لتتمكن من حشد الطاقات المناضلة والمطلبية. – ثانيا: تسعى الوثيقة إلى التصدي للممارسات السلبية والغريبة التي اخترقت صفوف وقيم الحزب، وفي مقدمتها محدودية القدرة على التأثير والتأطير والانصهار في المجتمع، وضعف الإقدام على المبادرة، والانغلاق على الذات أمام الطاقات، وكذا بعض السلوكات الداخلية المُشِينَة المرتبطة بتدبير العلائق الداخلية وطرائق التعبير، وبروز بوادر الفردانية والانتهازية لدى البعض، وتراجع الشعور بالانتماء، وضعف الالتزام، والاكتفاء بالواجهات المؤسساتية دون الجماهيرية. – ثالثا: تقترح الوثيقة ستة مداخل ممكنة من أجل بعث دينامية قوية في حياة الحزب، وهي: المدخل الأول: الانفتاح على الحركة الاجتماعية والإسهام في تأطيرها، والانفتاح على الطاقات التي تزخر بها؛ المدخل الثاني: بعث الدينامية في التنظيم الداخلي للحزب، من خلال الإقدام على فتح الأبواب، وإزالة جميع أشكال مقاومة التجديد، وفتح المجال أمام المبادرات، وتطوير وتنويع بنيات الاستقبال؛ المدخل الثالث: التكوين الذي يجب أن لا يقتصر على الجوانب النظرية، حيث أن الممارسة النضالية هي مصدرٌ أساسي من مصادر التكوين؛ المدخل الرابع: التواصل، حيث يمكن للحزب أن ينجح فيه، مرتكزا على قدرته التلقائية في جذب الاهتمام، وعلى التعبئة التي يتعين أن تسود وسط المناضلات والمناضلين، من خلال تحولهم إلى فاعلين تواصليين حاملين إيجابا لخطاب الحزب داخل الفضاءات التواصلية الحديثة؛ المدخل الخامس: الالتزام النضالي بالواجب المالي تجاه الحزب الذي لا يمكنه أن يستمر في الوجود، ولا أن يحافظ على وتيرة نشاطه، بشكل مستقل، دون أن يوفر ما يلزم من إمكانيات مالية ذاتية؛ المدخل السادس: المكانة البارزة للواجهة الانتخابية، إذ نوجد على بُعدِ سنةٍ واحدةٍ ونيف على استحقاقات سنة 2021 ، ما يستدعي من كل المناضلين أن يجعلوا هذا الرهان أولوية قصوى، مع الحرص على الاجتهاد أكثر في دعم ومواكبة عمل المنتخبات والمنتخبين. الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، هذه عصارة وثيقة “تجذر وانصهار”، وأوجه إليكم نداءً حارا وقويا، كما أتوجه إلى ضميركم النضالي، وإلى حبكم للحزب وتعلقكم به، من أجل التعبئة الشاملة والانخراط القوي في تفعيل مضامينها، عبر تحركات فاعلة، وأعمال ملموسة، وبرامج ومبادرات ومشاريع عمل،،، فحياة حزبنا ومستقبله ومكانته تتوقف على ذلك بشكل حاسمٍ ومصيري. فلنتوقف عن اعتبار الحياة الحزبية هي فقط تلك الاجتماعات التي نعقدها في ما بيننا، وتلك النقاشات التي نخوضها في ما بيننا، وتلك الاختلافات التي نضخمها في ما بيننا، وتلك المواقع التي نتنافس عليها في ما بيننا،،، ولنحتضن المجتمع وقضايا الناس والوطن… ففي ذلك يكمن نجاح حزبنا، وتلك هي الفائدة من وجودنا… وكل ما هو دون ذلك لا يمكن اعتباره لا نضالا، ولا حزبا، ولا مشروعا سياسيا…. الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، إن وثيقة “تجذر وانصهار” التي بين أيديكم سنواصل تعميق النقاش حول سبل تفعيلها داخل كافة تنظيمات الحزب، لكن بتوازٍ مع مواصلة تنفيذ برنامج حزبنا الذي يتضمن الاستمرار في تنظيم المؤتمرات الجهوية المتبقية، “وأستثمر هذه المناسبة لأحيي وأهنئ الجهات التي عقدت مؤتمراتها الجهوية بنجاح، ويتعلق الأمر بسوس ماسة، والدار البيضاءسطات، وفاس مكناس، ومراكش آسفي، وكلميم واد نون، والعيون الساقية الحمراء”. كما يتضمن برنامج حزبنا تنظيم المؤتمرات الإقليمية جميعها، بدون استثناء، خلال سنة 2020 التي تصادف استيفاء فترة انتداب كافة هيئات الحزب الإقليمية، والمحددة في سنتين، بما يتطلبه الأمر من حرص جماعي على تحميل المسؤولية إلى الطاقات الجديدة. هذا، فضلا عن إطلاق عملية التحضير للانتخابات المقبلة،،، وهنا لا بد من أن نوجه التحية للفروع التي قامت بمبادرات محمودة على صعيد تحفيز المواطنات والمواطنين على التسجيل في اللوائح الانتخابية، والمفتوح إلى غاية نهاية الشهر الجاري،،، وأدعو كافة تنظيمات الحزب إلى التكثيف من حملاتها ذات الصلة،. في هذا السياق، يتعين على الحكومةَ أن تُطلق، منذ الآن، النقاش المؤسساتي حول القوانين الانتخابية، حتى يتسنى أمام الهيئات السياسية مُتَّسَعٌ من الوقت لتدارسها وبَسْطِ وجهات النظر بخصوصها، بما في ذلك ما يتعلق بمطلبنا الداعي إلى تمكين مغاربة العالم من الحق في التصويت. ويتضمن برنامج عمل الحزب للفترة المقبلة، أيضا، مواصلة مواكبة قطاعاتنا السوسيومهنية من أجل الرفع من درجة تعبئتها ونشاطها، فضلا عن الاستمرار في دعم ومواكبة منظماتنا الموازية. وأخص بالذكر هنا منتدى المناصفة والمساواة، وهو مقبل على عقد مؤتمره الوطني الذي نريده منطلقا لفتح مساحات أكبر أمام النضال في أوساط النساء، ومن أجل قضايا المرأة المغربية. كما أخص بالذكر منظمة الشبيبة الاشتراكية التي نجدد تهنئتنا لها على نجاح مؤتمرها الوطني الأخير، وندعوها إلى تجاوز الصعوبات التي خلفها هذا المؤتمر، والانكباب على الأعمال والنضالات الكفيلة بتوطيد حضور منظمتنا داخل أوساط الشباب، إسناداً للحزب في معاركه واستحقاقاته المختلفة. كما نتوجه بالتحية إلى منظمة الطلائع أطفال المغرب، وإلى منظمة الكشاف الجوال، على دينامية أنشطتهما، مع متمنياتنا بأن يواصلا على نفس النهج. وأخيرا، يضع حزبنا ضمن أجندة برنامجه، أيضا، التحضير لعقد “الندوة الوطنية”، من أجل مناقشة الأوضاع العامة لوطننا وشعبنا، في علاقةٍ بتطويرِ أداتنا الحزبية. فمزيدا من النضال والعطاء والاجتهاد، ومزيدا من التضامن والتعاون والالتزام، من أجل أن يتبوأ حزبُ التقدم والاشتراكية مكانته التي يستحقها عن جدارة في الحقل السياسي الوطني، خدمةً للمصالح العليا لوطننا وشعبنا. شكرا على حسن انتباهكم وإصغائكم.