يشكل الإشهار مادة تجارية بامتياز، غايته الأولى جر المشتري إلى اقتناء البضاعة المراد بيعها، وفق أساليب اغرائية متعددة، مما يجعل شركات الإشهار تتكاثر في زمننا هذا، خصوصا في «ما يسمى زمن الذروة»، ولاسيما في شهر رمضان، حيث يتم اصطياد» عواطف وأذواق الناس». طبعا الجهة المفضلة لهذه الشركات هي التلفزيون أساسا، لا سيما التلفزيون العربي، حيث العربي الأول عالميا في مشاهدة هذا «الصندوق» الذي لا ينفلت هو الآخر من شهوة السياسي من خلال جر المتفرج لصندوق آخر ومن نوع آخر وهو صندوق الانتخابات. ما يهمنا هنا هو تكاثر زمن الإشهار في تلفزيوناتنا العربية بما فيها تلفزيوننا المغربي بكل قنواته، وخصوصا القناة الأولى والثانية. طبعا من حق هذه القنوات البحث عن مصادر تمويلية إضافية بجانب التمويل العمومي، لكن من واجبها أيضا حماية ذوق المشاهد، من سلطة هذا الإشهار والفتك به. فوجئت كثيرا للعديد من الفنانين المغاربة وهم يشاركون بشكل جماعي، غريب أمر جمعهم هنا، طبعا لسنا ضد أرزاق الناس لكن السؤال المطروح: هل هناك وعي بجبروت هذه الشركات وغيابها في دعم الثقافة والفن في وطننا العربي بما فيه وطني المغرب؟ ليس هذا هو مقصدنا في هذا المقال، ولكن إثارته هنا لا تخلو من إشارة دالة. مقصدنا هو كيف أصبحنا محاصرين بلهجات عامية أحيانا لا تخلو من إيحاءات سوقية، مما يستدعي تحريك وتفعيل النصوص القانونية التي ينبغي أن تحمي الذوق العام للإنسان العربي، الذي يكفيه هنا، تشويه ذوقه بفعل سياسة الذات والغير. لغتنا العربية هنا لا يختلف اثنان حول كونها ستتأثر بهذه الهجمة اللغوية العامة، وصحيح أيضا أن لغتنا العربية، لها بنيتها الداخلية التي تحميها، لكن سيجد المتعلم العربي في زمن تعليمه وتربيته المتدنية جدا المزيد من أشكال المعاناة، ستتعقد قابليته لتعلم لغته العربية لأنه كل يوم أمام منتوجات تجارية تحمل العديد من المكونات اللغوية العامية. أسماء وإشارات وتراكيب متعددة، الغاية أولا وأخيرا هو بيع المنتوج وتحقيق الربح السريع. صدمت كثيرا هنا في وطني، نظرا لكثرة الوصلات الاشهارية التي تحاصرنا في زمن ذروة تتميز بالرغبة في التقرب من الله، وليس من المنتوج الذي نجد أن أصحابه يتهربون من دعم الثقافة والفكر، ولي تجربة مهمة راكمتها في وطني من خلال مراسلتنا بل من خلال زيارت ميدانية لهذه الشركات من اجل دعم مهرجاننا الدولي للفيلم الوثائقي، فباستثناء شركة واحدة بمدينة الدارالبيضاء التي ساهمت معنا بمبلغ مالي بسيط، وهي مشكورة على كل حال، أحسست وأنا أضع ملفات دعم المهرجان، أنني الأستاذ المنتمي للتعليم العالي والحاصل على شهادة دكتوراه الدولة ورئيس مهرجان دولي للفيلم الوثائقي والذي اعوج ظهره من شدة الجلوس فوق الكرسي للكتابة وتدريس الطلبة، أنني مجرد كائن بسيط للغاية أمام هذه الشركات التي تكتسح الأخضر واليابس، أحسست بأن سلطة المال والعلاقات هي الورقة المسيرة للأشياء هنا وهناك، أحسست أن مشروعنا الثقافي الهادف إلى نشر ثقافة الفيلم الوثائقي بين الناس بغية الانخراط في تطوير الذوق الثقافي والجمالي والمعرفي، مهدد في زمن بل في لحظات، بل في هنيهات بسلطة هذه الشركات، لكن أحسست في المقابل أيضا أن «سلطة» المعرفة وعلى الرغم من ضعف إمكانياتها هي أجمل بل هي الابقى أمام منتوج مرهون بزواله مجرد زواله من بطن آكله أو مستعمله. أحسست أن امرئ القيس هو أكثر بقاء من العديد من الشركات التي تخترق جيوبنا وبيوتنا ووجداننا، أحسست أن المتنبي هو سيدهم جميعا لأنه قال شعرا لازال يتردد في الأعماق ويسيل لعاب الباحثين، أحسست أن فيلما وثائقيا، مولد لمتعة المشاهدة، أرحم على الإنسان من قوة هذه الشركات، أحسست أن فقري، هو أجمل لأنني لا أصطاد ما في جيوب الناس بالباطل، أحسست وأحسست.. أعرف جيدا أن مقالي هذا، لن يغير شيئا، لن نحصل به على دعم مالي لاقتناء تذاكر المخرجين، أو سد جزء من مصاريف اطعامهم، أو تعويض لجن التحكيم، أو ما نضعه في الغلاف الذي سنمنحه لمخرج فيلم وثائقي هو الآخر يدرك أكثر مني، من بطش هذه الشركات الكبرى، مما يجعلنا نلتصق بممولنا العمومي، أي من المال العام، أعرف جيدا أن مقالي هذا سيسخر منه مدير شركة ما، على امتداد هذا الوطن العربي الذي تعلمنا جيدا صباغة خريطته في مدارسنا وكتابة أسماء دوله التي لم ولن تتوحد يوما، في ظل تغييبها للفعل الثقافي المدخل الوحيد لنهضتنا. كل متعتي، وما بيدي، هو أن أكتب عما أشعر أنه يهددني، أو يمتعني. أشعر هنا أن قوانين بلداننا العربية عليها أن تتحرك، لوضع نواميس جديدة تعطي «الحق» لهذه الشركات في عرض منتوجاتها، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة أذواقنا والتقليل على الأقل من زحمة هذه الاشهارات، التي تحاصرنا وتمارس علينا عنفها المادي والرمزي. * ناقد مغربي