1- أصيبت التلفزيونات العربية منذ سنوات بداء الإسهال الرمضاني الحاد.في كل تلفزبونات العالم المهنية،يتم احترام المعايير التلفزيونية في الإنتاج و البرمجة على أسس مهنية بالدرجة الأولى، مع مراعاة المواعيد و الأحداث التاريخية و الاجتماعية أو خصوصيات كل فترة زمنية(فصول السنة)، فضلا عن الحرص على أداء مهام القناة و احترام دفتر تحملاتها إن وجد.فقد اختلقت القنوات العربية العامة أساسا "مفهوما جديدا للتلفزيون" في رمضان الكريم، حيث تقام الدنيا و لا تقعد لتفريغ/بث ما وقع عليه الاختيار في سوق الدراما و السيتكوم، و فقرات/مساحات إعلانية تحتل حصة الأسد من زمن البث، و برامج "ترفيهية" خاصة تسلق بعجل خصيصا للشهر الفضيل. من حيث المبدأ، لا يمكن للمرء أن يرفض فكرة البرمجة الخاصة، لكن من حيث التطبيق، لا يسع المتتبع أو المهتم إلا إن يسجل البون الشاسع بين أفق الانتظار الواسع في تلفزيون القرن 21 و بين ما يبث على سبيل التقليد و الكسل أو الجري وراء تلبية "الحاجات التلفزيونية" للمعلنين أو ترسيخ الوضع القائم اجتماعيا أو سياسيا عبر "تربية تلفزيونية" رمضانية هزيلة و متجاوزة. 2- يلاحظ المتتبع للبرمجة الرمضانية سطوة الدراما الاجتماعية و التاريخية على مدة مهمة من ساعات البث من الصباح إلى منتصف الليل، و ما يتخللها و يليها من اعادات محددة التوقيت أو "نزولا عند رغبة المشاهدين".و في التلفزيون المغربي، تم ترسيخ تقليد عتيد يقوم على مبدأ الارتباط الأزلي بين رمضان و الكوميديا أو بشكل أكثر دقة الفكاهة.ذلك أن فترة الذروة الرمضانية التي تسبق و تلي آذان المغرب تحصر بشكل شبه كلي في سلسلات المواقف الكوميدية (السيتكومات)، و التي كانت في ما مضى من عقود تخصص في التلفزة المغربية للسكيتشات و موجة الثنائيات (باز و بزيز، قشبال و زروال، الزعري و الداسوكين، عبد الرؤوف...). وبين هذا و ذاك،تسلق بعض البرامج محددة الصلاحية في رمضان،حيث تستضيف فنانين أو مواطنين. وغالبا ما تتسم التكرار و الرتابة وإعادة استهلاك تصورات تلفزيونية سابقة.و يكون الوازع من إنتاجها و بثها تجاريا صرفا، حيث يتسيد الإشهار و المسابقات عبر الهاتف أو الرسائل القصيرة لربح سيارة أو تلفزة أو سفر.كما تتوارى الوظيفة الإعلامية لخدمة الجمهور حيث يصبح التلفزيون يتحدث عن التلفزيون وصناع انتاجاته( ممثلون، مخرجون، صحافيون،الخ). من ثمة، يمكن القول إن البرمجة (أقولها تجازوا و استسهالا) الرمضانية تؤدي وظائف تجارية و ايديولوجية واضحة. فهي تدر أرباحا مهمة على المنتجين و القنوات التلفزيونية من جهة، و تساهم من جهة أخرى في ضبط أفق انتظارا لمشاهد العربي و ترسيخ المقولات و البدا هات المتوارثة بخصوص العلاقات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و رؤية الذات و المجتمع و التاريخ، ناهيك عن زرع الروح في التناقضات و المفارقات الفردية و الجماعية التي يحبل بها المجتمع العربي. 3- بصرف النظر عن الوظائف الترفيهية الايديولوجية للبرامج الرمضانية،يطرح السؤال عن السر الذي يجعل فئات من المشاهدين العرب يسقطون كل عام في شباك المشاهدة/المتابعة و التعبير عن السخط آو الرضا؟.ثمة علاقة إشكالية بين التلفزيون و الصوم في رمضان.فعدما كانت المجتمعات العربية تؤثث وقتها في ما مضى عبر التوعية الدينية في المساجد و قراءة القران في البيوت آو السمر مع الأهل و الأصدقاء إلى موعد السحور، حيث تنصب الحكاية سيدة للموقف الرمضاني، فضلا عن رواية النكت و حل الألغاز و مباريات الألعاب الشعبية المتوارثة أو الدخيلة؛ بعد هذا و ذاك ، حل التلفزيون ليجب ما قبله و يضعف من حضوره ، و يقوم مقام كل أشكال الفرجة و الترفيه القديمة أو حتى تلك التي استحدثت إبان الاستعمارات الأوروبية. وعليه، يمكن القول إن الثابت في الترفيه العربي خلال رمضان هو: الحكي و اللعب الجماعي الذي يقوم بوظيفة المؤانسة، و ذي المنحى الفكاهي البعيد عن الجدية أو المنافسة الحقيقية.كما يمكن القول إن التلفزيونات العربية انقضت على هذين المكونين و أعادت إنتاجهما بشكل رديء في غالبية الحالات إلى أن وقعا في يد الرأسمالية العربية التي تجني منهما اليوم أموالا طائلة، في ظل تعميم قيم الاستهلاك و السلعنة و الاستعراض. 4-أدى الانقضاض على مكوني الحكي و المؤانسة الموروثين عن التقاليد الثقافية العربية إلى بروز ظواهر من صميم إفرازات العولمة و سلعنة الانتاجات الثقافية.صارت الدراما التلفزيونية صناعة كبيرة تقاس بمقاس النجوم الجالبين للإشهار و المعلنين و المدرة للملايين.كما تكاثرت المسابقات و برامج الترفيه المعلبة التي لا تسمن و لا تغني من جوع ثقافي تلفزيوني معمم.صارت الفرجة و الإبهار و الإثارة المفتعلة و مسرحة الحوارات و البرامج في الواجهة، مقابل تراجع الوظيفة الإعلامية.لقد أصبحت المصالح التجارية و المالية هي التي تتحكم في محتويات الرسائل الإعلامية الرمضانية او غيرها، وصار المجتمع الاستهلاكي واقعا و مشروعا يضمن تأبيد سيطرة الرأسمالية المهيمنة عربيا و عالميا. هكذا، ساهمت الانتاجات الرمضانية في ترسيخ وظيفة الترفيه بأشكال رديئة و مستهلكة، و لم تقو على ابتكار تصورات سمعية بصرية قادرة على المزاوجة الفعلية بين الإمتاع و المؤانسة؛ بين الفائدة الإعلامية و " الترويح عن النفس" كما تقول العبارة المتداولة.كما ساهمت تخمة الإنتاج الدرامي و الفكاهي و تشتت المشاهدين بين القنوات و المسلسلات و السيتكومات في التقليل من الأثر الوظيفي للإنتاج التلفزيوني الرمضاني.بالمقابل، تحصل الاستفادة المباشرة من أثره المالي الذي يوضع في جيوب أصحاب شركات الإنتاج و الاتصالات و وسطاء الإشهار و حسابات القنوات الحكومية أو الخاصة. 5- على اعتبار أن شهر رمضان يشكل تقليديا فترة خصبة للمشاهدة التلفزيونية، يمكن القول إن الانتاجات المبثوثة غالبا ما تساهم في اعادة إنتاج الرواسب التاريخية و الاجتماعية و ترسيخ الأفكار و الادلوجات السائدة للفئات المهيمنة داخل المجتمعات العربية. و هذا ما يتمظهر في أشكال تقديم العلاقات الإنسانية الزوجية أو الأسرية أو المهنية أو غيرها.و على الرغم من السخرية و الضحك من/على بعض المواقف و الظواهر، فانه ضحك الليل الذي يمحوه ضوء نهار الواقع الفعلي. هكذا، تعمل الدراما و الكوميديا على تقديم موازين القوى الاجتماعية في أشكال تخييلية محبوكة أو مواقف كوميدية، بشكل يدفع المشاهدين إلى متابعة الحلقات و التعليق عليها، من دون الوعي بالرسائل السرية التي تحملها المسلسلات و السلسلات.من هنا تتكاثر "البداهات" الاجتماعية و الاقتصادية و التاريخية، بحيث يصير من شبه المستحيل مساءلتها أو التشكيك فيها.هنا كذلك تعمل الانتاجات الرمضانية على خدمة القوى المهيمنة ماديا و رمزيا، حتى و إن بدا للعيان أننا أمام انتاجات سمعية بصرية تعمل وفق قانون العرض و الطلب. 6-تقوم مختلف تصورات البرمجة الرمضانية على فرضية صارت في حكم المسلمة مفادها أن المواطن العربي الصائم يحتاج طيلة النهار و الليل إلى ما يرفه عنه و يساعده على قضاء رحلة النهار و سهر الليالي.تعكس هذه المسلمة/المبدأ في البرمجة تصورا سليا و مهينا للإنسان العري يزيد في ترسيخ الكليشيهات و الصور النمطية التقليدية المتداولة في الغرب عن العرب: الكسل،النهم،العلاقة غير السوية مع المرأة، سطوة التقليد و غياب العقل...). كان بالإمكان استثمار هذا الشهر لزرع بذور التغيير في العقليات و العلاقات و مقولات الإدراك و التفكير الجاهزة و المكرورة و "البداهات" الحاجبة للحقائق، و ذلك من خلال برمجة ذكية تقوم على الصدمة و خلخلة أفق انتظار المشاهدين و إزالة الغشاوات الكثيفة من عيونهم.إلا أن الزحف العولمي المنقض على الانتاجات الثقافية و الرمزية، و تواطؤها مع رغبة الفئات الاجتماعية و الاقتصادية في ضمان استمرارية الحفاظ على الأوضاع القائمة تحول دون أي تغيير أو تجديد.من ثمة، تبقى بعض المسلسلات و البرامج و الفقرات المتميزة المعزولة نقط ضوء قليلة و غير كافية في بحر الدراما المسلوقة و الكوميديا المفتعلة و شبه المبكية. لا شيء يمنع من تصور برامج أكثر ذكاء و استثارة لفطنة المشاهد و عقله. و تقدم اكبر قدر من المعلومات.هذا ما سيكون له اثر وظيفي للمساعدة على مواجهة تحديات القرن 21. كما تبرز الحاجة إلى البرمجة الجيدة لتحف الدراما التاريخية و الاجتماعية و الدينية ( بكل علاتها) من اجل الارتقاء بذوق و أفق انتظار المشاهدين، فضلا عن إمكانية برمجة أيام موضوعاتية في الشهر تخصص لقضايا تاريخية أو دينية أو لإشكالات حقيقية من صميم انشغالات المشاهدين المحليين أو العرب عموما. ويمكن التوسل بأجناس صحافية متعددة و فقرات متنوعة تصنع الحدث و تخرج البرمجة التلفزيونية من وظائفها و مبادئها التي توجد الآن في طريق مغلق.